إيران وتركيا والخيارات الإقليمية المأزومة

إيران وتركيا والخيارات الإقليمية المأزومة

571294645b90b

الصعود والهبوط في العلاقات الإيرانية- التركية يمثل تحدياً صعباً للبلدين عجزتا، على مدى سنوات طويلة عن مواجهته، لسبب أساسي هو أن قدرات تلك التحديات ليست في أيدي الإيرانيين والأتراك وحدهما بل هي أيضاً في أيدي القوى الدولية والإقليمية المنغمسة بعمق في إدارة الأزمات الإقليمية التي تعد بمثابة المحدد الأهم في العلاقات بين إيران وتركيا.

فهذه العلاقات ليست فقط نتيجة عوامل داخلية في البلدين أو حتى تطور علاقاتهما التاريخية المشتركة، رغم الأهمية المحورية لهذا كله، لكنها أيضاً تكاد تكون محصلة تفاعلات قوى دولية وإقليمية لها وزنها في إدارة الأزمات الإقليمية التي تجد كل من طهران وأنقرة نفسيهما متورطتين فيها، ومن ثم فإن مستقبل العلاقات بين البلدين سيظل، بدرجة كبيرة، أثير ما سوف تؤول إليه حلول تلك الأزمات وخاصة الأزمتان السورية والعراقية إضافة إلى أنماط التحالفات الإقليمية للبلدين.

ثقل الإرث التاريخي في العلاقات بين طهران والرياض
تقليدياً يمكن اعتبار تركيا منافساً إقليمياً أساسياً، إن لم يكن عدواً لإيران، ربما منذ أن كان البلدان قوتين عالميتين عظميين تتبوآن قمة النظام الدولى فى مرحلة ما قبل ظهور الإسلام. ومنذ تلك السنوات فعل التاريخ أفعاله وأدواره، تقاتل البلدان وتصالحا، تباعدا وتقاربا، لكن بقت جذور التنافس كامنة ولو فى العقل الباطن أو الذاكرة التاريخية فى أوج مراحل التقارب والتحالف حتى وإن كانت محدودة.

فى التاريخ الحديث، وعلى الأخص فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبتفجر الحرب الباردة مع نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضى، تقارب البلدان بعد أن أصبحا شريكين فى سياسة الأحلاف. كانت تركيا هى الأسبق للدخول كشريك وكمؤسس فى حلف شمال الأطلسى (الناتو) ثم لحقت بها إيران الشاه فى حلف بغداد، ومنذ ذلك التاريخ أخذ التقارب المقترن بجذور التنافس يحكم علاقات البلدين، خصوصاً مع انشغال تركيا بالانخراط فى السياسة الغربية وطموحاتها الأوروبية على وجه الخصوص فى حين كانت اهتمامات إيران شرق أوسطية وخليجية على الأخص. كما جمعت علاقة الصداقة مع إسرائيل بين البلدين وكان لهذه العلاقة ولظهور إسرائيل كطرف إقليمى ثم كقوة إقليمية منافسة أدواراً مهمة فى تنظيم علاقات التعاون والتنافس بين إيران وتركيا إلى أن سقط نظام الشاه وحل محله نظام الجمهورية الإسلامية التى قلبت منظومة تحالفات وصراعات نظام الشاه رأساً على عقب وبالذات نحو الولايات المتحدة وإسرائيل.

بظهور نظام الجمهورية الإسلامية، وبسبب العديد من التطورات المهمة التى شهدتها المنطقة وخاصة خروج مصر من دائرة التنافس على الزعامة الإقليمية وتوقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، بعد أقل من شهرين من نجاح الثورة الإيرانية فى الإطاحة بنظام الشاه، ثم الحرب العراقية – الإيرانية، وبعدها تورط العراق فى غزو واحتلال الكويت عام 1990، وتورط النظام العربى فى مشروع فاشل للسلام مع إسرائيل، وانعكاسات هذا كله سلبياً على قوة تماسك النظام العربى وبالذات بسبب التداعيات المشتركة لحرب تحرير الكويت وما ترتب عليها من محاولات إسرائيلية للتغلغل فى النظام العربى وتطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية، أخذت إيران تسعى إلى فرض نفسها قوة إقليمية قادرة على منافسة إسرائيل فى ظل تداعى قدرة النظام العربى وغياب الزعامة العربية، وفى ظل انشغال تركيا بمشاكلها وأزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية (المشاكل العرقية الكردية) وانشغالها أيضاً بعالمها الأوروبى وحرصها على أن تكون عضواً فى الاتحاد الأوروبى.

إيران التى استطاعت أن تلملم نفسها بعد إنهاكها فى حرب السنوات الثمانى مع العراق، وأن تستغل الانكسار الذى لحق بـ “العدو” العراقى فى حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت عام 1991) ثم بهزيمة عدويها التقليديين بأيدى أعدائها الكبار فى الحرب الأمريكية على الإرهاب بعد أحداث تفجيرات سبتمبر 2001 (حركة طالبان أولاً ثم العراق ثانياً) نجحت فى أن تفرض نفسها قوة إقليمية منافسة ولها وجودها القوى من خلال حزمة الأدوار والسياسات خاصة فى العراق المحتل وفلسطين المحتلة وفى لبنان، وأن تجعل من مشروعها النووى أحد أهم أدوات إرباك السياسات الأمنية الأمريكية فى الخليج.

فى تلك الفترة حرصت إيران على تطوير علاقاتها مع تركيا فى مجالين: أولهما المجال الاقتصادى الذى كان يشكل أولوية قصوى لتركيا، وكانت فترة حكم الدكتور نجم الدين أربكان هى الفترة التى شهدت ذروة هذه الاهتمامات للتعاون المشترك بين البلدين. وثانيهما المجال الآسيوى وبالذات فى جمهوريات آسيا الوسطى المستقلة عن الاتحاد السوفيتى. لم تفكر إيران، حتى ذلك الحين، فى أن تركيا يمكن أن تكون منافساً إقليمياً لها خاصة فى الوطن العربى لأسباب كثيرة أبرزها ثلاثة أسباب: أولها الشراكة الاستراتيجية التركية – الإسرائيلية التى تقف حجر عثرة أمام ظهور تركيا بديلاً للعرب يمكن التعويل عليه فى مواجهة إسرائيل، وثانيهما أولوية الاهتمامات الاقتصادية التركية على ما عداها من اهتمامات، وحرص تركيا على أن تكون شريكاً اقتصادياً مهماً لإيران والدول العربية، وثالثها الأزمات والانقسامات الداخلية التركية فى فترة حكم حزب العدالة والتنمية الأولى بين الإسلاميين (حزب العدالة والتنمية) والعلمانيين (خاصة حزب الشعب الجمهورى) وبين الحكومة (العدالة والتنمية) والمؤسسة العسكرية حارسة العلمانية والحليفة لإسرائيل والحريصة على دورها فى منظومة حلف شمال الأطلسى، لكن الرهان الإيرانى على هذه الأسباب الثلاثة تراجع بفعل عوامل داخلية تركية وعوامل أخرى إقليمية دفعت بتركيا العدالة والتنمية دفعاً لتصبح قوة إقليمية شرق أوسطية يمكن أن تكون شريكاً محتملاً أو منافساً محتملاً لها.

فعلى المستوى الداخلى استطاع حزب العدالة والتنمية أن يحسم الكثير من الملفات وأن يحقق عددا مهما من الانتصارات مكنته من النجاح للمرة الثانية فى الانتخابات التشريعية، وأكسبته شعبية طاغية وظفها فى مواجهاته مع العسكريين لصالح الحكم الديمقراطى ولصالح مشروعه السياسى. وجاء تفاقم اليأس التركى من الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبى وتسلم أحمد داوود أوغلو مستشار رئيس الحكومة حقيبة وزارة الخارجية، (رئيس الوزراء الحالي)، ليدفع بتركيا نحو المزيد من الانغماس فى مشروعها الجديد للشرق الأوسط يرتكز على المفاهيم الاستراتيجية لنظرية “العمق الاستراتيجى” التى ابتدعها أحمد داوود أوغلو والتى ربطت بين طموحات تركيا فى تحقيق الرفاة والسلام بشيوع كل من هذه الرفاة والسلام فى دول الجوار الإقليمى اعتماداً على تقييم أحمد داوود أوغلو لحالة تركيا وجيرانها بـ “البيوت الخشبية” التى لا تستطيع أن تحمى نفسها فى حالة اندلاع النيران فى إحداها. فالأزمات السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية تنتقل بنيرانها ولهيبها من دولة إلى أخرى فى حالة اشتعالها فى أى منها.

وانطلاقاً من هذا المنظور أخذت تركيا تعمق من علاقاتها بدول المنطقة، ووجدت نفسها فى صدام مع الحلفاء الغربيين والإسرائيليين مرة فى العراق عام 2003 ومرة فى لبنان عام 2006 ثم فى قطاع غزة (2008 – 2009). وهنا حدث الالتقاء وليس التباعد وحدث التعاون وليس الصراع بين تركيا وإيران. وجد البلدان نفسيهما يلتقيان معاً فى أبرز الملفات الساخنة: فلسطين ولبنان والعراق، وكان للشريك السورى الدور الأهم فى الربط بين الشريكين الجديدين.

إيران، في ذلك الحين، وجدت فى تركيا داعماً لها، وليس منافساً فى فلسطين ولبنان، واستطاعت توظيف الدور التركى فى العراق مع سنة العراق وأكراده لصالح الحد من تأزم العملية السياسية التى ترعاها فى العراق، ولصالح النفوذ الإيرانى فى العراق على حساب النفوذ الأمريكى. كما وجدت تركيا أن التعاون مع إيران فى ملفاتها الشرق أوسطية يخدم طموحاتها أكثر من الدخول مع إيران فى صدامات فى هذه الملفات. لكن الشريك السورى كان الرابط الأهم فى الدفع بتركيا لتكون شريكاً، ولو غير مباشر فى محور الممانعة ضد محور الاعتدال (مجموعة 6+2) القريب من السياسة الأمريكية والإسرائيلية فى المنطقة. وبفضل سياسة الشراكة الاستراتيجية التركية وجدت أنقرة نفسها تلتقى مع إيران فى الدعوة إلى تأسيس محور استراتيجى يربط إيران مع تركيا عبر كل من العراق وسوريا، ودعم الرئيس السورى بشار الأسد هذا الطموح وأضحت كل من فلسطين ولبنان على تماس مباشر مع هذا الطموح الاستراتيجى، الذى تدعم بالصدام السياسى التركى مع إسرائيل بسبب عدوانها الإجرامى على قطاع غزة (ديسمبر 2008 – يناير 2009) وبسبب اعتدائها الغادر على أسطول الحرية (يوليو 2010) الذى كان متوجهاً نحو قطاع غزة لكسر الحصار الإسرائيلى الظالم ضد الشعب الفلسطينى.

تركيا فى ظل هذه الظروف والتطورات الساخنة اختارت سوريا بوابة لسياستها العربية، واستبدلت المناورات العسكرية مع سوريا بمناوراتها مع إسرائيل خاصة المناورة الأهم مع حلف الأطلسى (نسر الأناضول). وفى غمرة هذه التطورات أقدمت تركيا نحو خطوة شديدة الأهمية على المستوى الاستراتيجى، عندما استبعدت إيران وسوريا من الدول التى تشكل تهديداً لأمنها القومى، وجعلت من إسرائيل أحد مصادر تهديد هذا الأمن.

الثورة في سوريا تقلب التحالف رأساً على عقب

هكذا ترسخت معالم الشراكة الإيرانية – التركية ما جعل تركيا تنحاز إلى إيران فى ملفها النووى، وما جعل إيران تقبل بأن تكون تركيا وليس روسيا بلداً مقترحاً لتبادل اليورانيوم بنسبة 3.5% مع الدول الغربية بآخر مخصب بنسبة 20% حسب اتفاق فيينا بين إيران ودول “مجموعة 5+1” (الدول الخمس الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن + ألمانيا)، لكن رياح الثورة العربية وبالذات رياح الربيع التى انطلقت من سوريا جاءت لتفرض تحديات لا يستهان بها فى العلاقة بين إيران وتركيا.

فى البداية توقعت إيران أن ثورات العرب جاءت لتؤكد مصداقية شعارات ثورتها، بل إنها اعتبرت أن الثورة المصرية، على وجه الخصوص، التى انتصرت فى اليوم نفسه الذى انتصرت فيه الثورة الإيرانية قبل 32 عاماً (11 فبراير 1979- 11 فبراير 2011) تُعد امتداد لثورتها، وأن هذه الثورات وانتصاراتها ستهيئ لهزيمة المشروعين الأمريكى والصهيونى وستؤسس لشرق أوسط إسلامى بديل للشرق الأوسط الأمريكى الذى يسعى الأمريكيون إلى فرضه على دول المنطقة. تركيا دعمت هى الأخرى الثورات العربية بشكل واضح وملموس، لكن وصول الأزمة إلى الشريك السورى بدل الأجواء وأخذ يدفع بالبلدين نحو مناخات جديدة شديدة التعقيد.

فإيران التى دعمت بقوة الثورة فى مصر وقبلها فى تونس، ثم فى اليمن وليبيا وقبلهما فى البحرين، وجدت نفسها فى مأزق دعم خيارات الشعوب فى العدالة والحرية والكرامة عندما تكون هذه المطالب ضد نظام حليف أو شريك بمستوى الحليف السورى، تركيا هى الأخرى وجدت نفسها فى المأزق نفسه، لكن بدأ التمايز فى الموقفين الإيرانى والتركى يتأكد مع تصاعد حدة الأزمة والمواجهات الدامية بين النظام والشعب فى سوريا. ففى حين التزمت إيران بدعايات النظام السورى واعتبرت أن ما يحدث فتنة ومؤامرة مدعومة من الخارج، ودعمت النظام السورى، على الأقل معنوياً، حتى ذلك الحين حسمت تركيا موقفها بالانحياز إلى مطالب الشعب السورى مع حرص شديد على إنقاذ النظام الشريك من أزماته، بتوجيه النصائح والإرشاد كى يتفاعل إيجابياً مع المطالب الشعبية ويرجح الخيار السياسى على الخيار الأمنى، وهنا بدأ الافتراق بين الموقفين الإيرانى والتركى.

فقد اعتبرت إيران أن المظاهرات المناهضة للحكومة فى سوريا تأتى فى إطار مؤامرة غربية لزعزعة حكومة تؤيد المقاومة فى الشرق الأوسط، واعتبر السفير الإيرانى فى سوريا المظاهرات والاحتجاجات السورية “نسخة من أحداث الفتنة” التى شهدتها إيران فى يونيو 2009. وبعد أن اتسعت الأحداث لتشمل معظم المدن السورية وبعد أن ازدادت عنفاً ودموية، حذرت إيران واشنطن من القيام بعمل عسكرى يستهدف دمشق، واعتبر الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية رامين مهمان باراست أن الاحتجاجات المندلعة فى سوريا هى جزء من مؤامرة تدعمها قوى أجنبية، وقال أن “النظام الصهيونى والمدافعين عنه يشعرون بتهديد خطير، لذلك يفعلون كل ما يستطيعون للقضاء على خط الممانعة الذى يقف ضد عدوان النظام الصهيونى”. أما تركيا فقد اختارت طريق إنقاذ النظام السورى من السقوط بتشجيعه على القبول بخيارات بديلة والتوقف عن سياسة القمع الوحشى للمعارضة، لكن سلبية التجاوب السورى مع هذا الموقف دفعت تركيا إلى الإعلان وعلى لسان رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان (رئيس الجمهورية الحالي) أنها لم يعد بمقدورها الدفاع عن دمشق فى المحافل الدولية، ملوحاً بدعم بلاده قراراً يدين الممارسات الأمنية السورية فى مجلس الأمن الدولى، كما فتحت تركيا أبوابها أمام المعارضة السورية لعقد أحد مؤتمراتها فى مدينة انطاليا، وفتحت أيضا حدودها أمام النازحين نحوها من الشمال السورى ولم تستجب إلى مطالب المبعوث السورى حسن تركمانى بإغلاق هذه الحدود.

ومع تفاقم الأزمة السورية كان التورط الإيراني والتركي يتفاقم أيضاً في أحداث تلك الأزمة وكانت الفجوة تتسع بين طهران وأنقرة خصوصاً بعد التدخل الروسي والإيراني المباشر في الدفاع عن النظام السوري في وقت كانت فيه قوات المعارضة المدعومة من تركيا والسعودية وقطر وأطراف دولية عديدة تحقق نجاحات غير مسبوقة. وكان لهذا التدخل الروسي والإيراني المسنود من قوات حزب الله (اللبناني) أثر كبير في إحداث تحول نوعي في موازين القوى وفرض معادلة حل سياسي للأزمة السورية في جنيف رأتها تركيا وحلفاءها العرب مجحفة بحق المعارضة السورية.

هذه التحولات العسكرية والسياسية رأتها تركيا تعمل ضد طموحاتها في سوريا وبالذات في الشمال السوري، كما أن الحل السياسي للأزمة السورية، وفق المعادلات الجديدة لتوازن القوى العسكري بعد الانتصارات التي حققها الجيش السوري مدعوماً بقوات إيرانية وبغطاء جوي روسي، سيعمل مباشرة ضد المصالح التركية وسيدعم بقاء النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، فضلاً عن أن تلك النجاحات العسكرية والسياسية من شأنها تعرية إن لم يكن فضح العلاقة الخاصة بين تركيا و”داعش” والدور الذي قامت به تركيا في عرقلة الحل السياسي للأزمة السورية وزيادة تعقيداتها.

فتركيا متهمة عموماً بأنها “ممر آمن” لما لا يقل عن 75% من إرهابيي “داعش” القادمين إلى سوريا والعراق من دول أخرى كما يتهم مسؤولوها بغض الطرف عن جرائم “داعش” بحق ثروة الآثار في سوريا والعراق والاتجار بها فوق الأراضي التركية قبل أن تصل إلى محطتها الأوروبية. ووفقاً لخبراء آثار دوليين فإن “داعش” يلبي طلبات تجار الآثار في أرجاء العالم من تماثيل ومنحوتات متنوعة في تركيا قبل أن يقوم بتدمير ما تبقى من الآثار لإخفاء مدى الجريمة حيث يصعب معرفة ما تم تدميره أو بيعه. كما أنها، تركيا، متهمة بالاتجار بالنفط العراقي والسوري الذي تسرقه “داعش” من الآبار العراقية والسورية، ما جعل تركيا طرفاً في شراكة تجارية غير شرعية مع التنظيم الإرهابي.

هذه الشراكة واجهت تحدياً حقيقياً بعد التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية في ظل نجاح الطيران الروسي في وضع نهاية مأساوية للطموحات التركية بفرض منطقة حظر جوي في شمال سوريا أو فرض منطقة عازلة في الشمال السوري تخضع للنفوذ التركي وبالتحديد محافظة حلب التي مازالت مسيطرة على هواجس وأطماع الأتراك في سوريا. كما أن الوجود العسكري الروسي الجديد في سوريا وضع نهاية لمنظومة قواعد الاشتباك التي وضعتها أنقرة من طرف واحد بعد إسقاط سوريا لطائرة حربية تركية فوق خليج الأسكندرون قبل سنتين حيث أعلنت أنقرة أن أي طائرة سورية تحلق على عمق خمسة كيلومترات داخل الأراضي السورية نفسها هدفاً لها، أما الآن فالطائرات الروسية لا تكتفي بالتحليق فوق تلك الخمسة كيلومترات بل انتهكت أكثر من مرة المجال الجوي التركي، ولم تتجرأ أنقرة على إسقاط أي طائرة روسية.

التحدي الأهم الذي يمثله التدخل الروسي في سوريا لتركيا يتعلق بهدف تركي كبير يركز على إضعاف أكراد سوريا ومن خلفهم أكراد تركيا و”حزب العمال الكردستاني” المعارض. فالتدخل الروسي في سوريا بات يمثل مكسباً كبيراً لأكراد سوريا المتحالفين مع النظام السوري وبالذات لما يُعرف بـ “وحدات الحماية الكردية” التي قاتلت “داعش” في عين العرب “كوباني” وظلت تمثل تحدياً كبيراً لـ “داعش” في شمال سوريا، ولعل هذا ما دفع أحمد داوود أوغلو رئيس الحكومة التركية ومن قبل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى تهديد روسيا والولايات المتحدة وكل من يقدم الدعم لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري وجناحه العسكري “وحدات الحماية الشعبية”. فقد هدد أحمد داوود أوغلو أمام تجمع انتخابي في مدينة بورصة بأن بلاده سترد بحزم على كل من يستهدف تركيا عبر الأراضي السورية، موضحاً أن الحزب الديمقراطي الكردستاني السوري هو امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي وأن كليهما “إرهابيان” وأن “حالهما حال من يقدم لهما الدعم”.
هروب إلى العراق وصدام مع إيران

هذه الخسائر التركية في سوريا التي فاقمت من أزمة تركيا مع إيران ومع روسيا دفعت أنقرة نحو العراق على أمل تحقيق نجاحات في العراق توازن الخسائر في سوريا، لكن العكس هو الذي تحقق، إذ لم تستطع تركيا تحقيق نجاحات ملموسة بتدخلها العسكري في شمال العراق فضلاً عن أن هذا التدخل زاد من فجوة الخلاف مع إيران. دخول القوات التركية إلى العراق كان يوم الثالث من ديسمبر 2015 عندما تم إدخال قوات تركية مدرعة (دبابات ومدافع) إلى منطقة بعشوقة في محافظة نينوى دون إذن أو علم الحكومة العراقية، وعندما بادر حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية بإعلام الحكومة التركية أن أمامها يومين لسحب قواتها وألا استخدمت بغداد كل الخيارات المتاحة، واتبع ذلك بإبلاغ القوة الجوية العراقية أن تكون على أهبة الاستعداد “للدفاع عن الوطن وحماية سيادته” جاء رد الحكومة التركية مراوغاً ومستفزاً. في البداية ربطت الحكومة التركية دخول قواتها بعلم حكومة بغداد المسبق، وعندما فندت الحكومة العراقية هذا التبرير جاء الرد صريحاً وعلى لسان نائب رئيس الحكومة نعمان قور تلموش بأن “القوة التركية ليست موجهة ضد الشعب العراقي بل ضد (داعش)، وبأن وجودها في العراق لأغراض تدريبية”.

المؤكد أن الحكومة التركية كانت على دراية كاملة بالنقاش الأمريكي – العراقي العلني والمفتوح الخاص باقتراح تقدم به أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي مطالبين بتشكيل قوة إقليمية من “دول سُنية” لمحاربة “داعش”، ورفض الحكومة العراقية القاطع لهذا الاقتراح. وعلى لسان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، ورغم ذلك بادرت تركيا بإرسال قواتها إلى شمال العراق والتبرير هو الحرب ضد “داعش”، وهنا يجدر السؤال: هل تحارب تركيا “داعش”؟ وإذا كانت لا تحارب “داعش” بل هي داعم لهذا التنظيم لوجستياً على الأقل وطرف مستفيد من الحرب التي يخوضها هذا التنظيم الإرهابي فلماذا كان التدخل التركي، وما هي مآلات والمشاهد أو السيناريوهات المحتملة للتدخل التركي في العراق؟

الإجابة على هذه التساؤلات تستلزم استعراض الملاحظات التالية: أول هذه الملاحظات المفسرة للتدخل العسكري التركي في العراق هي فشل المشروع السياسي التركي في سوريا بشقيه: إسقاط حكم الرئيس بشار الأسد وتمكين الإخوان من حكم دمشق. فلا الرئيس السوري سقط على مدى أربع سنوات مضت من الحرب التي تشارك فيها تركيا ضده، ولا أمكن للإخوان فرض أنفسهم كطرف رئيسي في معادلة مستقبل سوريا ضمن تنازع هذا المستقبل بين أطراف وقوى متعددة بتعدد الأطراف الدولية والإقليمية والعربية المتورطة في هذه الحرب.

ثاني هذه الملاحظات هي فشل تركيا عسكرياً في سوريا وبالتحديد فرض منطقة آمنة في شمال سوريا بين جرابلس وأعزاز، بهدف منع الكنتونات الكردية في شمال سوريا، وجاءت تداعيات إسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية لتضع نهاية أليمة لهذا الحلم التركي بعد أن فرضت روسيا منطقة حظر على دخول أي قوات تركية إلى شمال سوريا وزادت من تعاونها مع الأكراد السوريين (وحدات الحماية الكردية) الحليفة لحزب العمال الكردستاني التركي المعارض التي نجحت في فرض سيطرتها على أكثر من 500 كيلو متر من الحدود السورية مع تركيا، الأمر الذي أثار مخاوف الحكومة التركية من أن تتمدد “وحدات الحماية الكردية” السورية نهر الفرات إلى الغرب، والسيطرة على المناطق من جرابلس إلى عفرين.

الملاحظة الثالثة تتعلق بالتطورات التي حدثت على صعيد التسوية السياسية للأزمة السورية وبالذات مخرجات مؤتمري فيينا الأخيرين، ومن بينها التوصل إلى توافق يبقي مرحلياً على الرئيس السوري بشار الأسد في المرحلة الانتقالية المقترحة.
أما الملاحظة الرابعة فتتعلق بالتطورات الميدانية التي تزامنت مع فشل الرهانات التركية في سوريا، بعد أن تم تحرير سنجار على يد قوات البشمركة العراقية وتحرير منطقة الهول على يد قوات حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، الأمر الذي أدى إلى خسارة إستراتيجية لتنظيم “داعش” من شأنها قطع الطرق الموصلة بين مدينتي “الرقة” السورية (عاصمة “داعش” في سوريا) والموصل (عاصمة “داعش”  في العراق) ما يعني توجيه ضربة إستراتيجية لمشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام، لكن ما هو أخطر أن هذا الإنجاز تحقق على أيدي مقاتلين أكراد الأمر الذي فجر المخاوف لدى تركيا، ومن هنا كان التوجه العسكري التركي نحو العراق.

بهذا المعنى نستطيع أن نقول أن الدخول العسكري التركي شمال العراق جاء بدافع من كل هذه التطورات وبالذات الخسائر التي واجهت وتواجه “داعش” والمكاسب التي تتحقق للأكراد، وخطورة أن تنعكس انتصارات الأكراد في شمال تركيا والعراق إلى الداخل التركي نفسه، وإعطاء حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل داخل المناطق الكردية في تركيا ويسعى لفرض خيار “الحكم الذاتي” بحكم الأمر الواقع ويستقوى سياسياً بوجود “حزب الشعوب الديمقراطي” الكردي في البرلمان فرصة سانحة للانتصار.

كما استهدفت تركيا من تدخلها العسكري في العراق توجيه رسائل إلى قطبي مؤتمر فيينا السوري: الولايات المتحدة وروسيا بأن تركيا لديها أوراق تستطيع أن تلعبها في العراق، ولعل هذا ما دفع الولايات المتحدة إلى دعم المطلب العراقي المؤيد من روسيا بضرورة خروج القوات التركية من العراق، وتفنيد المزاعم التركية بان وجود القوة التركية في العراق هدفه محاربة “داعش” على نحو ما جاء على لسان نائب رئيس الوزراء التركي.
ضغوط التحالفات الإقليمية

لم تكن الأزمات الإقليمية هي وحدها العائق الأكبر أمام تحسين العلاقات بين إيران وتركيا، ولكن أنماط التحالفات الإقليمية للبلدين لعبت دوراً لا يقل أهمية وتأثيراً في توسيع فجوة الخلافات بينهما سواء تحالفات إيران مع النظام السوري والقوى الحاكمة في بغداد، والتورط في الأزمة اليمنية، والتدخل المباشر، أو عبر حزب الله، في الشئون الدالية للدول العربية، أو بتحالفات تركيا الإقليمية خاصة مع دول مجلس التعاون الخليجي وبالذات المملكة العربية السعودية إضافة إلى المساعي التركية لاستعادة علاقات التحالف مع إسرائيل.

كانت حرب “عاصفة الحزم” التي قادتها السعودية انحيازاً إلى الشرعية في اليمن علامة فارقة في إدارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لعلاقته مع إيران. فقد كشفت الزيارة “الضرورة” التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى إيران واستغرقت يوماً واحداً (الثلاثاء 6/4/2015) التقى خلالها الرئيس الإيراني حسن روحاني في مباحثات رسمية وزار خلالها المرشد الأعلى السيد علي خامنئي القواعد الحاكمة لإدارة العلاقات بين البلدين في ظل ظروف إقليمية شديدة التعقيد وضعت تركيا بالأساس أمام خيارات صعبة محاطة بحوافز وإغراءات، ومهددة بقيود وضغوط تعرقل فرص الاستفادة من تلك الحوافز والإغراءات .

هذه الزيارة التي كادت أن تلغى من جانب إيران بسبب التصريحات التي اعتبرتها إيران مسيئة وغير مقبولة أدلى بها الرئيس التركي في تعليقه على الموقف الإيراني الداعم للانقلاب الحوثي على الشرعية اليمنية من ناحية والنفوذ الإيراني الذي يزداد تغولاً في مناطق الأزمات بالمنطقة خاصة في العراق وسوريا، يمكن اعتبارها اختباراً لأطر العلاقات التقليدية التركية – الإيرانية التي ظلت تتراوح بين التقارب والتباعد، بين التعاون والصراع، في وقت غيرت فيه تركيا من دورها التقليدي الوسطي أو “الموازن بين كل من الكيان الصهيوني وإيران وتنافسهما على موقع القوة الإقليمية المهيمنة، حيث بدأت تتطلع إلى أن تكون هي الأخرى منافساً على موقع الزعامة الإقليمية، خصوصاً في ظل حكم “حزب العدالة والتنمية” وزعامة أردوغان، وبسبب هذا التطلع بدأت أنقرة تتصادم مع طهران في الملفات الساخنة وبالذات في الملفات العراقية والسورية والفلسطينية وجاء الملف اليمني ليضع أنقرة مجدداً في مواجهة مع طهران، وفي وقت بدأت فيه إيران تجني ثمار صمودها أمام ضغوط الغرب الأمريكي – الأوروبي بسبب برنامجها النووي وبدأت تتطلع للتمدد الإقليمي، ولكن هذا التطلع يختلف جذرياً عن تطلعاتها السابقة . ففي هذه المرة، وبعد التوقيع على الاتفاق الإطاري في لوزان، يبدو أن هذا التطلع لتوسيع نفوذها ولغرض زعامتها الإقليمية تحظى بضوء أخضر أمريكي إن لم تكن مدعومة أمريكياً في ظل رؤية استراتيجية أمريكية جديدة يمكن تسميتها ب “عقيدة أوباما” أو “مبدأ أوباما” الذي يحكم السياسة الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط .
ظروف جديدة ومعقدة حكمت التوجه التركي نحو إيران، وهو توجه ستكون له حتماً انعكاساته المباشرة بين تركيا والدول العربية الخليجية في ظل تصاعد الصدام بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران لأسباب كثيرة أبرزها بالطبع الدعم الإيراني للانقلاب الحوثي في اليمن.
فتركيا وجدت نفسها الآن في خيار صعب بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي في ظل كل ما هو جديد من تطورات أبرزها نجاح إيران في التوصل إلى اتفاق إطاري حول برنامجها النووي، والتوجه الاستراتيجي الجديد للرئيس الأمريكي أوباما في إقليم الشرق الأوسط وهي تطورات تدفع أنقرة نحو طهران، لكن هناك تطورات أخرى في الاتجاه المعاكس الذي فرضته حرب “عاصفة الحزم”، والتقارب التركي مع الرياض الذي جرى تطويره إلى “تحالف إستراتيجي” بين البلدين يجد في سوريا المجال الأهم لتأكيده في اتجاه معارض تماماً لأي مسعى تركي للتقارب مع إيران.

الفيدرالية الكردية وأمل استعادة الثقة

وسط كل هذه التحديات جاء التحدي الكردي المتمثل في مسعى المعارضة الكردية السورية متحالفة مع أطراف سورية معارضة أخرى لتأسيس فيدرالية حملت اسم “روج آفا- شمال سوريا” أي “غرب كردستان وشمال سوريا” الأمر لذي لقى رفضاً دولياً وعربياً موسعاً فضلاً عن الرفض التركي والإيراني الأمر الذي دفع بأحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركي (أعلن مؤخراً عزمه على الاستقالة من منصبه) للقيام بزيارة سريعة إلى طهران لمواجهة هذا التحدي المشترك. واعتبر أحمد داوود أوغلو، في مؤتمره الصحفي مع الرئيس الإيراني حسن روحاني (5/3/2016) أن ما بين تركيا وإيران من جغرافيا وتاريخ يكفي لتأمين علاقة تعاون قوية بين البلدين. وقال “ربما كانت لدينا وجهات نظر مختلفة، لكن ليس بمقدورنا تغيير تاريخنا وجغرافيتنا”، وأكد أن “من الأهمية البالغة بمكان لتركيا وإيران  إيجاد منظور مشترك ما من أجل إنهاء القتال بين أشقائنا في منطقتنا، ووقف الصراعات العرقية والطائفية.. سنفتح صفحة جديدة من العلاقات”.
طموح سوف يبقى محل اختبار في ظل تعقد إدارة الأزمات الإقليمية التي مازالت تعمل بشكل سلبي ضد فرص ومساعي تطوير العلاقات بين البلدين رغم الحرص الشديد منهما على هذا التطوير والتحسين.

د.محمد السعيد إدريس

المركز العربي للبحوث والدراسات