عن فكرة الانتماء والهويّة العراقية

عن فكرة الانتماء والهويّة العراقية

irq_291072787_14286781571

حين يكون الحديث عن الانتماء نستعيد كتاب كولن ولسون «اللامنتمي»، وكيف أثار جدلاً وانفعالاً بين أوساط النخب الفكرية والثقافية عراقياً، وعربياً. صحيح أن كل إنسان هو شخص متفرد، وله خصوصية متميزة عن غيره في اهتماماته ومزاجه وعقليته، مثلما له نمط حياته الاجتماعي الخاص به، ومثله تكون الجماعات والمجتمعات التي تجمعها سمات وخاصيات تميزها عن غيرها، وبالتالي تكون هويتها العامة، مثلما لكل جماعة هويتها ولكل فرد هويته الخاصة، لكن الهوية المشتركة هي ما تتميز به الجماعة أو المجتمع، على تنوع هويات أفراده الخاصة.
الانتماء يتأتى من خلال خبرات وتجارب وخيارات لاحقاً، والأولى تتكون في الأسرة والمدرسة والأصدقاء، ثم تأتي الثانية، والمقصود بها الخيارات التي تحدد انتماء الشخص، وخصائصه الشخصية وسلوكه وتوجهاته، سواء كانت سلمية أو عنفية، جذرية أم وسطية، راديكالية أم إصلاحية وترتفع مثل هذه الخيارات وتهبط حسب تعمق وعيه، وهكذا. وبالطبع فإن لكل انتماء هدفاً، حتى إن تباعد في قابل الأيام عن النظرة الرومانسية التي على أساسها تم اختياره.

ويبقى الانتماء في عالمنا العربي، له أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية، مسألة معقدة وشائكة أحياناً، خصوصاً أن الكثير من الالتباسات رافقتها. ولو أخضعنا مثل هذا المقياس السسيوثقافي السيكولوجي على الواقع العراقي، لوجدنا إن الانتماء يتراوح أحياناً بين الانتماء إلى الوطن والأرض، وبين الانتماء إلى العشيرة والنسب، بحيث تتقدم الأخيرة على الأولى، في ظل غياب الدولة، وضعف مؤسساتها وقدرتها على فرض النظام العام، وحكم القانون، ويحدث الأمر على نحو لافت في ظل الأزمات وتراجع مرجعية الدولة، أو انكفائها، ولهذا تتم العودة إلى الأصول العشائرية في مجتمعات تجمع بين قيم البداوة وقيم الريف، الأمر يوجه الانتماء ويطبع الهوية بطابعه، لأنه يجد في الأخيرة خيمة للأمن والأمان، في حين أن الوطن والأرض بغياب سلطة الدولة أو ضعفها لا تمنحه مثل هذه القناعة.

وفي أحيان أخرى، يتغلب العرق والقومية على الانتماء، انطلاقاً من عناصر تتكون في الهوية وفي الوعي، إضافة إلى عنصر الجغرافيا أحياناً، فالكرد مثلاً يجدون هويتهم الخاصة في لغتهم وثقافتهم وتضاريس أرضهم، ويزداد شعورهم هذا، ولاسيما بتراثهم، كلما تعرضوا للاضطهاد، ويستيقظ عندهم مثل هذا الشعور كلما واجهوا تحدياً جديداً يمنعهم، أو يحول بينهم وبين تحقيق كيانيتهم الخاصة، أو يحقق لهم مثل تلك الرغبة.
ومثل هذا الانتماء يتنازع أحياناً عند عرب العراق، فبقدر شعورهم بالانتماء إلى العراق، فلديهم شعور آخر بالامتداد القومي العربي، مثلما هو شعور الكردي بالانتماء القومي الكردي، وأحياناً يتغلب الانتماء الديني: الإسلامي في الأغلب أو المسيحي، وفي أحيان أخرى يتقدم الانتماء الطائفي الشيعي أو السني أو غيره، على الانتماء العربي أو الكردي أو الإسلامي، خصوصاً في ظل صعود النعرات الطائفية والمذهبية، من خلال عمليات شحن، لزرع الفتن واستحداث الصدام وافتعال الصراع، لمصالح سياسية أنانية ضيقة، وبتداخلات إقليمية ودولية، وهو ما ظهر على نحو صارخ بعد الاحتلال في عام 2003، الذي كرسه بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، حين افتتح عهده بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي، وفقاً لتلك الصيغة التقسيمية (شيعة – سنة – أكراد).
وفي العراق، مثل الكثير من بلدان العالم الثالث، فالانتماء لا يتم للدولة، بقدر ما هو انتماء للسلطة، وبين الدولة والسلطة فوارق كبيرة، فالأولى باقية، والثانية زائلة، سواء كانت بإرادة شعبية أو مفروضة، ولكنها ستنتهي إلى حين، وتبقى الدول ككيان قانوني معترف به قائماً بما له من سلطة (حكومة متغيرة) وإقليم (حدود وأرض) وسيادة وشعب.
الدولة ينبغي أن تكون مرتبطة بما هو ثابت (نسبياً)، ودائم ومتواصل وشامل وتاريخي (أي غير منقطع)، في حين إن السلطة متغيرة، وظرفية ومؤقتة، وتتبدل حسب الظروف والأحوال. وحسبي هنا أن أستذكر العلامة عبدالرحمن بن خلدون الذي أشار إلى أن العرب متنافسون على الرئاسة، وقل أن يسلّم أحد منهم الأمر لغيره. وبهذا المعنى فإنهم تاريخياً أبعد عن سياسة الخضوع للدولة (المُلك) لصعوبة انقيادهم بحكم البداوة، ووفقاً لهذا الاستنتاج الذي يأخذ به عالم الاجتماع علي الوردي، وهو الصراع بين البداوة والحضارة، والذي يطبقه على المجتمع العراقي بصورة تكاد تكون نمطية، نجد في مسألة الانتماءات الضيقة العشائرية، أو القومية، أو الدينية، أو الطائفية، أو السلطوية، أحد تجلياته وتشابهاته.
بهذا المعنى فالحديث عن ديمقراطية، مع التمييز والطائفية، يصبح ضرباً من العبث، والحديث عن دولة مع وجود قوانين للعشائر وأعرافهم بالضد من مرجعية الدولة، بل وتعلو عليها أحياناً، سيكون مضيعة للوقت، كما أن من السخرية الحديث عن حكم القانون مع وجود ميليشيات خارج حكم القانون، ولديها سجون ومؤسسات قمعية ورقابية، وتعتبر نفسها أعلى من الدولة. ماذا سيكون حين تتعارض المرجعيات الطائفية، أو الدينية، أو العشائرية، أو الإثنية، مع مرجعية الدولة؟ ولمن ستكون الغلبة؟ وأي انتماء سيتقدم للفرد على الانتماءات الأخرى؟ أي أية هوية ستكون حاسمة في ظل الهويات المتقاتلة، أو «القاتلة»، على حد تعبير الروائي أمين معلوف؟

عبدالحسين شعبان

صحيفة الخليج