الماراثون العراقي والعودة إلى المربّع الأول

الماراثون العراقي والعودة إلى المربّع الأول

صور-العراق-66

كلّ شيء في العراق مكشوفٌ ومعروفٌ، فلا توجد أسرار عسكرية أو خطط أمنية، أو صفقات سياسية أو اقتصادية، في دولة تكاد تكون عارية أمام الجميع، وليس هناك معلومة، مهما كانت خطرة إلاّ وتسرّبت، سواءً عن طريق الإعلام أو عبر الكتل المتصارعة، التي تتربّص أحدها بالأخرى، فتشيع عنها ما هو صحيح وواقع، وما هو مخطوء وموهوم، وهكذا تختلط الأوراق لدرجة يصعب التمحيص، خصوصاً إذا ما تعلّق الأمر بالفساد المالي والإداري. وقد كشفت الأحداث التي حصلت في الأسابيع الأخيرة الماضية عن ذلك على نحو واضح.

مع انضمام السيد مقتدى الصدر ارتفع رصيد الحراك الشعبي، وخصوصاً بعد دخوله المنطقة الخضراء مع ثلّة من أصحابه، واعتصامه في داخلها، لكنه سرعان ما انسحب على نحو مفاجىء، إثر تقديم حيدر العبادي رئيس الوزراء «وزارة الظرف المغلق» إلى رئيس البرلمان سليم الجبوري. وهكذا تبدّدت مطالب الإصلاح، بل سالت على الأرصفة دون أي اكتراث، وعدنا إلى المربع الأول كما يقال أو نقطة الصفر، أي إلى نظام المحاصصة الطائفية ـ الإثنية، الذي هو نتيجة وسبب في الوقت نفسه، فالدستور ذاته حارسٌ عليه، عندما تحدّث عن المكوّنات ثمان مرّات، وليس ذلك سوى تبهيت لدولة المواطنة، طالما هناك استحقاقات تعلو عليها، وهي الأساس الذي أقيمت عليه العملية السياسية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003.

تنبّه رؤساء الكتل إلى مخاطر حركة الاحتجاج، والتفّوا عليها، لتحويل الكرة إلى ملعبهم وتقاسم المناصب العليا مجدّداً، ثم جرى توقيع «اتفاق شرف»، ولم يكن ذلك سوى الإبقاء على ما هو قائم مع مداورة بالأسماء والمواقع والصفات، لكن الجديد في المسألة هو حدوث أزمة دستورية، نجمت عن مشكلة، حين قام النواب بالاعتصام والتمرّد على رئيسهم، بل حاولوا خلعه، بالتصويت على رئيس مؤقت، متكئين على «الشرعية» التي يتعكّز عليها الطرف الآخر من الذين يريدون إعادة الجبوري إلى موقعه وعدم المساس بحرمة المواقع، وفي حين اجتمع نحو 173 عضواً، وهم يمثلون النصاب القانوني، شكّك الطرف الثاني بدستورية وشرعية مثل هذا الإجراء وبالعدد المطلوب، وحين دعا رئيس الجمهورية إلى عقد اجتماع طارىء لتدارس الأمر، واصل النواب المعتصمون خطتهم وطلبوا الترشّح للرئاسة (رئيس للبرلمان ونائبين: أول وثاني)، وهو الأمر الذي سيعني وجود برلمانَيْن وربما ينبثق عنه حكومتين، أي «ليبنه« الحالة العراقية.

عند مفترق الطرق هذا، استشعرت القوى الأساسية المشاركة بالعملية السياسية بالخطر عليها، فتحركت لتدارك الأمر، لا سيّما بعد أن أصبح البرلمان هو المشكلة، بدلاً من الحل. وقد أثار ذلك قلق «حلفاء» العراق الإقليميين والدوليين الذين ضغطوا للحفاظ على ما هو قائم، وهكذا بدأت الانسحابات من البرلمانيين المعتصمين، مثل مجموعة من اتحاد القوى الوطنية والكتلة الكردستانية والمجلس الإسلامي الأعلى وكتلة بدر، لكن عدد المعتصمين الذين استمروا يزيد على 130 نائباً، وهو ما يخلق فجوة كبيرة داخل مجلس النواب، وقد تعود الكرة إلى ملعبه.

الفجوة ازدادت اتساعاً بين الرئاسات الثلاث من جهة، وبين البرلمان، وبين الكتل نفسها، التي انضم قسم من أعضائها إلى المعتصمين، فاتّخذت إجراءات انضباطية بحقهم، كما أن الصراع امتدّ إلى المعتصمين، وفي كل هذا الخضم تم تناسي مطالب الإصلاح والتغيير ومكافحة الفساد ومساءلة المفسدين، والأنكى من ذلك فإن قادة الكتل عقدوا حلفاً جديداً فيما بينهم يقوم على التخادم والدفاع عن بعضهم البعض ضد أي تهديد يطيح بالعملية السياسية ككل، لأن ذلك سيطيح بهم جميعاً.

إن العملية السياسية التي رسمتها واشنطن ودعمتها طهران، مهدّدة بالانهيار بعد التآكل الذي حصل فيها. لهذا كانت المبادرات والاتصالات والزيارات متنوّعة، وإذا استثنينا وجود الجنرال الإيراني قاسم سليماني حيث الملف العراقي بعهدته، وراقبنا انتقالات القوى السياسية واستقطاباتها الجديدة، فإننا سنتأكد من وجود البصمة الإيرانية، وهكذا يمكن فهم تراجع الصدر وإعادة النظر بمواقف الحكيم لتغيير العبادي وعودة كتلة بدر بعد اعتصامها، وهكذا.

أما واشنطن فقد سارعت بإرسال جون كيري وزير الخارجية في 8 أبريل (نيسان) وبعده بعدّة أيام آشتون كارتر وزير الدفاع في 17 أبريل (نيسان) 2016 إلى بغداد، في زيارتين لم تعلن عنهما إلاّ بعد وصولهما، ولم تخبر الحكومة العراقية بذلك، كما تقتضي الأعراف والعلاقات الدبلوماسية وقواعد السيادة. وما أن حلّ كيري وكارتر في بغداد، حتى فهمت القوى والجماعات الطائفية والإثنية وتمثيلاتها السياسية، أن هاتين الزيارتين هما، دعم كامل للعبادي، ووضع كيري على رأس أولويات واشنطن زيادة الضغوط العسكرية على تنظيم داعش وتحرير مدينة الموصل، وهو الأمر الذي عاد كارتر وأكده بعد أيام.

المشهد السياسي كما هو متوقع سيتشكل من: بقاء رئيس الوزراء في موقعه بدعم دولي (أمريكي تحديداً وبريطاني ثانياً) وإقليمي (إيراني تحديداً) مع رضا دول المحيط، إضافة إلى التركيبة الثلاثية القائمة (رئيس وزراء شيعي ورئيس برلمان سني، لا سيّما بإعادة الجبوري ورئيس جمهورية كردي)، وهذا سيعني قبول العبادي بتسوية مع الكتل السياسية بترشيح ما سمّي وزراء «تكنوقراط» من جانبهم ووفقاً لمواصفاتهم، وإعلان برنامج إصلاحي فيه عموميات كثيرة، مع وضع مواجهة داعش وبالتحديد تحرير الموصل، من أولوياته.

وستواجه العملية السياسية من جهة أخرى، مشكلات عويصة من قبيل: تبدُّد آمال الحراك الشعبي، الأمر الذي قد يزيد من أعمال العنف والإرهاب، لا سيّما في ظل تدهور الخدمات، والمسألة لا تتعلق بالكهرباء والماء الصافي والمجاري، بل بعموم البنية التحتية المهترئة ، إضافة إلى النقص الكبير في الخدمات الصحية والتعليمية والبلدية وغيرها، واستمرار ظاهرة الفقر وتفشي البطالة، ثم سيدخل على الخط مسألة تسليح العشائر وموضوع الحشد الشعبي ومستقبله، والحرس الوطني، وتدريب قوات غير حكومية من جانب الولايات المتحدة ودعمها بالسلاح والمال، وتسليح البيشمركة خارج سيطرة الجيش الاتحادي، ودور مجلس النواب الذي سيظل معوّماً أو غير مؤثر.

ثم سيأتي الدور إلى ما بعد تحرير الموصل والمناطق المتنازع عليها ومستقبل المادة 140 حول كركوك، إضافة إلى مستقبل المناطق المحرّرة وعودة النازحين وتعويضهم وإعادة تعمير مناطقهم، إضافة إلى المشاكل الاقتصادية التي تكاد تكون مستعصية زادها انخفاض أسعار النفط واستمرار الفساد المالي والإداري.

ومن حيث التقويم السياسي، فإن امتصاص نقمة الشارع، سيكون مجرّد جرعة تخدير جديدة أو استراحة مؤقتة لمواصلة الماراثون الذي لا حدود له، حتى وإن تعدّدت أشواطه ومراحله، وهو ما تم التخطيط له، سواء بالتفتيت والتشظي أو وصولاً إلى التقسيم والشطير.

عبدالحسين شعبان

صحيفة المستقبل