الصراع بين الدين والعلمانية في تركيا

الصراع بين الدين والعلمانية في تركيا

BN-KX888_turkis_P_20151026041852

تشهد تركيا منذ عقود صراعا بين هويتها الإسلامية المتجذرة تاريخيا فيها، والهوية الثانية التي صاغها مصطفى أتاتورك في رحلة الانضمام إلى العالم الأوروبي المتحضر، ومر الصراع بعدة مراحل كانت بدايته شبه اختفاء للطرف العريق وهو الدين لصالح العلمانية، وذلك في ذروة سياسة طمس المعالم الإسلامية لتركيا التي انتهجها أتاتورك عندما أطلق مرحلة تحديث وعلمنة تركيا في عام 1923 حتى وفاته 1938. والمرحلة اللاحقة كانت ظهور الدين مرة أخرى إلى الواجهة السياسية التركية مع تسلّم أحزاب ذات ميول إسلامية للسلطة ابتداء من 1960.

ليصل إلى المرحلة الآنية، متمثلة بأخذه المكانة الطبيعية بالنسبة لدولة كانت يوما ما إمبراطورية إسلامية.

التنافس الداخلي
إن استخدام مصطلح (أسلمة الدولة التركية) من قبل المناوئين لحكم حزب العدالة والتنمية يوضح حقيقة تخوّف الكثير من الأحزاب التركية من فقدانها لهامش حركة واسع أمّنها لهم الدستور التركي المبني على أساس العلمانية والبرلمانية.

لذلك ترفض هذه الأطراف المناوئة أي صبغة إسلامية للدولة التركية وبضمنها النظام الرئاسي الذي سيتيح للرئيس الذي هو على الأغلب سيكون من حزب العدالة والتنمية في ظل تفوّقه الانتخابي، مما سيقود إلى حصر صلاحيات واسعة في يد الرئيس قد توظَّف لخدمة آيدلوجية حزب العدالة والتنمية.

وهنا لابد من الإشارة  إلى تصريح إسماعيل كهرمان رئيس البرلمان التركي الشهر الماضي، الذي قال فيه “إن الدستور الجديد يجب ألا ينص على العلمانية وإنه ينبغي أن يناقش الدين كما يجب أن يكون دستورا دينيا”، حيث أثار حفيظة قوى المعارضة الممثلة بحزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطية، فهاجمت جميعها تصريحات كهرمان، وعدّتها بمثابة انقلاب ناعم على الأسس العلمانية للدولة التركية، واعتبرت أن الهدف منها إقامة دولة دينية تعبيرا عن فكر حزب العدالة والتنمية.

العلمانية والاتحاد الأوروبي
وقد وجد تصريح رئيس البرلمان التركي، صداه في الصحف الأوروبية التي ما تزال تبحث عن أي فرصة للنيل من تركيا وإضعاف موقفها في قضية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فذكرت صحيفة “تيلغراف” البريطانية بتاريخ 26 نيسان/ أبريل الماضي في أحد عناوينها “رئيس البرلمان التركي يبحث عن دستور ديني” وأضافت “إن تصريحه يضاف إلى القلق بخصوص تمدّد الأسلمة تحت حكم حزب العدالة والتنمية”.

ورد الفعل هذا يبيّن حقيقة موقف أوروبا من انضمام دولة ذات تاريخ إسلامي لمجلسها الذي يعد ناديا مسيحيا مغلقا ولا يمكن تصور السماح لدولة ذات تعداد سكاني كبير غالبيتهم من المسلمين الانضمام إلى هذا النادي والتأثير في قرارته.

ومن هذا المنظور يمكن القول إن سرعة عجلة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أخذت بالتباطؤ، ليس لعدم التزام تركيا بالمعايير الأوروبية وإنما لتصاعد الحس الإسلامي لدى الشعب التركي الذي تعكسه على سبيل المثال زيادة أعداد طلبة المدارس الإسلامية من 50 ألفا عام 2002 إلى قرابة مليوني شخص عام 2014 حسب الإحصائيات. إضافة إلى عودة مظاهر طبيعية كانت مفقودة فيما سبق إلى  المجتمع التركي مثل حجاب الرأس والاحتفاء بالمناسبات الدينية المختلفة.

ومن جهة أخرى فإن التقدم الاقتصادي الذي تحقّق على مدى العقد الماضي جعل من تركيا غير مستعدة لدفع أي ثمن في سبيل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وفيما يخص الطرف الآخر تُبين تصريحات المسؤولين الأوربيين الأخيرة من مسألة رفع تأشيرة الدخول عن الأتراك إلى أوروبا حقيقة موقفهم في عدم الرغبة بالتقدّم خطوة للأمام في عملية مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد، ففي أول نقاش في ستراسبورغ حول احتمال إعفاء الأتراك من تأشيرات الدخول للاتحاد الأوروبي وفي قاعة شهدت نقاشات حامية انتقدت النائبة المحافظة هيلغا ستيفنز بشدة “التصرف غير المسؤول للمفوضية الأوروبية حيال ديكتاتور”.

أما مارين لوبن زعيمة كتلة “أوروبا للأمم والحريات” فاعتبرت أن “الرئيس أردوغان يستخدم الأوراق التي وضعتموها بين يديه”، متحدثة عن “ابتزاز فظيع”.

كما أبدى الحزبان الرئيسيان في البرلمان، حزب الشعب الأوروبي (يمين) والحزب الاشتراكي الديمقراطي (اشتراكيون)، تحفظات على مشروع إلغاء تأشيرات الدخول للأتراك في الظروف الحالية.

وأخيرا يمكن القول إن العلاقة بين الدين والعلمانية في تركيا تأخذ أحيانا شكل الصراع وأحيانا تعكس خصوصية تتميز بها تركيا فرضتها مراحل التحول التي مرّت بها وتم توظيفها بشكل لائق على يد حزب العدالة والتنمية ليواجه الطابع الإسلامي العريق لتركيا نحو بيئتها القريبة العربية الإسلامية ويبقى الشكل العلماني متّجه نحو طموح الانضمام إلى أوروبا، ويبدو أيضا أن الحزب يسعى إلى إعادة تعريف العلمانية ودورها في الدستور والهوية العامة للبلاد بصيغة لا تتصادم أو تشكّل خرقا للهوية الأصلية الإسلامية للشعب التركي.

مظفر مؤيد العاني

تركيا بوست