ترامب وفوكوياما: فاشية ما بعد «نهاية التاريخ»

ترامب وفوكوياما: فاشية ما بعد «نهاية التاريخ»

55d4afb6ea70c

الآن وقد صار دونالد ترامب مرشح الأمر الواقع عن الحزب الجمهوري، في انتخابات الرئاسة الأمريكية لهذا العام، حتى إذا عفّ مؤتمر الحزب عن اعتماده رسمياً؛ ثمة سؤال بات يُطرح بقوّة، ليس دون شرعية عالية تمدّها الحياة اليومية بأسباب وجيهة: هل هذا هو الكون ذاته، الذي تمعّن فيه فرنسيس فوكوياما في عام 1989 (أو «العام الإعجازي» Annus Mirabilis، كما وصفه كثيرون)، فاعتبر أنّ تاريخ العالم انطوى إلى غير رجعة، وأنّ إنسانه ـ كائن اقتصاد السوق، وحده، دون سواه ـ هو الظافر الأخير؟
في المقالة الشهيرة التي نعت التاريخ، واستطالت بعدئذ إلى كتاب، بشّر فوكوياما بالمقولة التالية: التاريخ لعبة كراسٍ موسيقية بين الإيديولوجيات (الأنوار، الرأسمالية، الليبرالية، الشيوعية، الإسلام، القِيَم الآسيوية، ما بعد الحداثة…)؛ وقد انتهى التاريخ، وانتهت اللعبة، لأنّ الموسيقى توقفت تماماً (انتهاء الحرب الباردة)؛ أو لأنّ الموسيقى الوحيدة التي تُعزف الآن، هي تلك الخاصة بالرأسمالية والليبرالية واقتصاد السوق.
وفي العام 1999، مناسبة الذكرى العاشرة للمقالة والكتاب، لم يكن واضحاً أنّ أحداث العقد الذي انصرم، وكانت جساماً ثقيلة الوطأة والعواقب، قد فتّت في عضد الرجل. لا شيء في السياسة الدولية أو الاقتصاد الكوني برهن على بطلان أطروحة نهاية التاريخ وانتصار القِيَم الليبرالية واقتصاد السوق: لا شيء، حرفياً! لا «عاصفة الصحراء»، ولا الحروب الإقليمية، ولا الأشباح الإثنية التي استيقظت من سبات قرون طويلة، ولا انهيار الاقتصادات الآسيوية العتيدة أو الاقتصادات الأوروبية الشرقية الوليدة، ولا حروب الصومال أو مذابح رواندا أو إنفجار البلقان… لا شيء، حرفياً!
التنازل الوحيد الذي قدّمه فوكوياما (بتواضع العالم ـ العرّاف!)، هو ذاك الخاصّ بتتويج التاريخ في صيغة الدولة الليبرالية الحديثة: «كانت هذه الأطروحة خاطئة تماماً»، لأنّ التاريخ «لا يمكن أن ينتهي ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة لم تبلغ نهايتها بعد، ونحن على أعتاب اكتشافات علمية ذات جوهر كفيل بإلغاء الإنسانية في حدّ ذاتها». في البدء انتهى التاريخ، ثم بعدئذ انتهى الاقتصاد (وهذه هي الأطروحة المركزية في كتاب فوكوياما الثاني: «الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الرخاء»)؛ ثمّ آن أوان انتهاء الإنسانية ذاتها، دون تاريخ دائماً، وفي الحالات الثلاث!
وفي ختام مقالة اليوبيل العاشر تلك، كتب فوكوياما: «إنّ السمة المفتوحة لعلوم الطبيعة المعاصرة تسمح لنا بالقول إنّ تكنولوجيا علوم الأحياء سوف تمكننا، وخلال جيلَين قادمَين، من استكمال ما فشل اختصاصيو الهندسة الاجتماعية في القيام به. وفي المرحلة تلك سوف تكون علاقتنا بالتاريخ الإنساني قد انتهت تماماً لأننا سوف نكون قد أبطلنا الوجود الإنساني في حدّ ذاته. عندها سوف يبدأ تاريخ جديد عابر للإنساني». فهل أخذنا نعيش تباشير ذلك التاريخ منذ حروب أمريكا ضد أفغانستان والعراق، بعد حرب الأطلسي ضدّ يوغوسلافيا السابقة (التطهير العرقي، المذابح الجماعية، التهجير والتهجير المضاد؛ وحرب العولمة ضد بُناة العولمة (حروب التبادل والتجارة والبورصة، حروب الموز، حروب البقرة المجنونة، والدجاجة المجنونة، والكوكاكولا المجنونة…)؛ وحرب المعلوماتية (بيل غيتس ضدّ وزارة التجارة الأمريكية، وعملياً ضدّ جميع الخوارج عن أنظمة «ميكروسوفت»)؛ مروراً، غنيّ عن القول، بسقوط البرجَين يوم 11/9، واكتشاف «القاعدة»/ وليد «صناعة الجهاد» التي استحدثتها المخابرات المركزية الأمريكية، و»داعش» وأخواتها السابقات واللاحقات، والتفاهمات الأمريكية ـ الروسية حول تفخيخ او تفكيك أو اقتسام إرث «الربيع العربي»، الخ… الخ…؟
أم أنّ أحدث الدلائل نلمسه في هذا التلاقي غير المسبوق بين انتهاك حقوق الإنسان المدنية، وانتهاك حقوقه الاقتصادية؛ فيستذكر المرء، مثلاً، أنّ الصفحات الأولى من كتاب فوكوياما الثاني تعلن صراحة أنّ الهدوء الذي أعقب انهيار الشيوعية كان مريباً وخادعاً؛ لأنه أخفى ما سينفجر من ضجيج وعجيج حول آفاق تطوّر الإنسانية (التي اختتمت تاريخها)، ومعضلات إنسانها الأخير، في تقاسم اقتصاد ما بعد التاريخ؟ آنذاك سكت فوكوياما عن الأشباح القومية والإثنية التي استيقظت في وجدان ذلك الإنسان ومن حوله، وأشعلت الحرائق هنا وهناك، فانشغل الاقتصاد بلملمة الأشلاء والأموات بدل رعاية الأحياء. الفلسفة المنقلبة إلى ـ أو القادمة من ـ البيروقراطية يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها، كأن تصمّ الآذان، وتؤجّل القرارات، وترجىء إرسال عربات المطافىء لوقف انتشار اللهيب على الأقل.
في الكتاب ذاته كان فوكوياما قد اكتشف أنّ سياسة ما بعد التاريخ هي اقتصاد مبطّن، وأنّ «جميع المسائل السياسية تدور حول مسائل اقتصادية، بما في ذلك المشكلات الأمنية ذاتها التي تنبثق من صلب المجتمعات المدنية الرخوة، شرقاً وغرباً». هل يعني ذلك أنّ حروب أمريكا، خلال السنوات التي أعقبت «نهاية التاريخ» بادىء ذي بدء، كانت اقتصادية صرفة؟ ولكن ألم يحذّرنا فوكوياما ـ بشدّة، في الواقع ـ من مغبة الخلط بين السياسة والاقتصاد والثقافة: «لا يغرنّكم هذا الاقتصاد، لأنه يضرب بجذوره عميقاً في الحياة الاجتماعية، ولا يمكن فهمه على نحو منفصل عن مسائل تنظيم ـ أو سوء تنظيم ـ المجتمعات الحديثة لنفسها. ها هنا الحلبة الحقيقية للصراع، واليد العليا في صناعة المجتمع الاقتصادي هي يد الثقافة الاجتماعية (أو الاجتماع الثقافي) التي يمكن أن تطلق أو تكبّل الأيادي الأخرى مهما بلغ جبروتها العملي أو الحسابي أو التقني»؟ وكيف نقرأ دموع الندم التي ذرفها فوكوياما حزناً على تورّط جورج بوش الابن في العراق، هو الذي أدمى الكفّين تصفيقاً لمغامرة جورج بوش الأب في… العراق إياه؟
وما دمنا في زمن اختلاط الحقّ المدني بالحقّ الاقتصادي، و»القنبلة الموقوتة» التي تحذّر منها منظمة العفو الدولية؛ من الحكمة اقتباس هذا الاعتراف الفوكويامي: «إنني، في نهاية الأمر، لم أقل إنّ جميع البلدان سوف، أو ينبغي أن، تصبح ديمقراطية في المدى القصير. ولكن قلت فقط إنّ التاريخ الإنساني ينضوي في منطق تطوّري، سوف يقود الأمم الأكثر تقدّماً نحو الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق». والحياة أنصفت الرئيس الكوبي السابق فيديل كاسترو، حين عقد مقارنة مباشرة بين مسؤولية النظام النازي عن جثث الهولوكوست، ومسؤولية النظام الاقتصادي العالمي الراهن عن جثث الجائعين في أفريقيا. فهل توقفت شاشات التلفزة الغربية عن تحذير مشاهديها من أنّ المشاهد التالية قد تكون «مؤذية» للمشاعر: أطفال يرضعون من أثداء ضامرة تحوم حولها أسراب ذباب ليست أقلّ جوعاً، وأطفال يدفنون بعد أن التصقت جلودهم بالعظام ونفقوا جوعاً (والفعل «نفق» يخصّ الماشية عادة، لمن ينسى أو يتناسى)، ورجال ينبشون الرمل بحثاً عن عروق وجذور ودرنات… أيّاً كانت؟
وبين ترامب وهيلاري كلنتون، المرشحة المحتملة عن الحزب الديمقراطي،ثمة ذلك القاسم المشترك الذي يقود إلى تقويض نظرية فوكوياما: انتهى درس «التاريخ الذي انتهى»، أيها الغبي! الأول يقول هذا، من منطلقات فاشية تدغدغ طرازاً من الجموع الأمريكية صارت أقرب إلى الدهماء؛ والثانية تقول هذا من منطلقات تتلاعب كثيراً بمفاهيم الليبرالية ـ بل بعض الأفكار الاشتراكية ـ الديمقراطية أيضاً! ـ لكنها تنتهي إلى تأثيم النظام الاقتصادي الأمريكي الراهن.
العالم خارج أمريكا ليس أقلّ احتشاداً بالتاريخ، الصاخب والدامي والمتحوّل يومياً، فحسب؛ بل هو التاريخ ذاته الذي يصنع الكثير من مسوغات صعود الخطاب الفاشي أو الشعبوي لدى الثنائي ترامب ـ كلنتون؛ ولكن في غمرة انحسار، واندحار، خرافة انتهاء التاريخ!

صبحي حديدي

صحيفة القدس العربي