على أنقاض سايكس – بيكو

على أنقاض سايكس – بيكو

download

الأكراد والأتراك والإسرائيليون ينعون معاهدة سايكس – بيكو ويعتبرونها كانت مجحفة في حقهم. العرب، خارج المشرق والعراق، لا تعنيهم المعاهدة لا من قريب ولا من بعيد. فهي لم تقسم المغرب ولا مصر، ولا تونس، ولا دول الخليج ولا اليمن، وإن كان تأثيرها الجيوسياسي يطاول الدول الأخيرة، خصوصاً بعدما تحول «الربيع العربي» (هل ما زال أحد يذكره؟) إلى رسم للحدود بالدم، وتقسيم للشعوب على أساس العرق والطائفة والقبيلة.

الأكراد، بعد مئة سنة، يرون أن الفرصة التي وفرتها «الثورات» والحروب لا تعوض، فقد استقلوا في شمال العراق، ولا ينقصهم سوى إعلان هذا الاستقلال رسمياً عندما يتم تحرير الموصل و «المناطق المتنازع عليها»، واستطاعوا ضم مدن وأرياف كثيرة إلى إقليمهم. ولا يترك زعيمهم مسعود بارزاني مناسبة إلا ويذكر بموت سايكس – بيكو، وباستعداده لإجراء استفتاء على الاستقلال. وينظم بين الفترة والأخرى تظاهرات واحتفالات جماهيرية لتأكيد «الحق في تقرير المصير».

أما في سورية، حيث الإرهاب يتكاثر كالأميبا منذ خمس سنوات ويجد دولاً تتبناه وتستغله، فالأكراد، مدعومين أميركياً، أعلنوا موت الاتفاقية الشهيرة وشكلوا «إدارة ذاتية»، تمهيداً للاستقلال بإقليم «ديموقراطي» يضم، إلى كثرتهم العددية، بعض السريان والأشوريين والعشائر العربية. وتترافق هذه التطورات مع دعاوة عنصرية ضد العرب، وتدابير إدارية تتخذها سلطات كردستان، إذ لا يستطيع العراقي في «الدولة الاتحادية»، على ما ينص دستور بريمر، الانتقال للإقامة في الإقليم، من دون إذن من «الأسايش» (الأمن الكردي). أما الخلافات بين حزبي طالباني وبارزاني فليست على الانفصال، بل على توقيته، وعلى شكل الحكم بعد الاستقلال وهل تكون السيطرة حينها للطالبانيين أم للبارزانيين.

أما تركيا أردوغان فالأكثر سعادة بانهيار حدود سايكس – بيكو. ساعدت وتساعد في تدميرها عبر تسليح وتدريب إسلاميين من مختلف أرجاء السلطنة القديمة يسعون إلى العودة إلى عهد الخلافة. لذلك لا يفوّت أردوغان فرصة للتنديد «بالمساومات» التي أدت بباريس ولندن إلى «رسم الحدود بالمسطرة». ويقول منظر العثمانية الجديدة أحمد داود أوغلو: «لطالما رفضنا معاهدة سايكس – بيكو لأنها قسمت منطقتنا وأبعدت مدننا عن بعضها». وسعى أردوغان قبل «الربيع العربي» إلى إعادة وصل البحار الأربعة، والانفتاح على الشرق، من دون إلغاء الحدود، عبر تشكيل مجالس للتعاون الاستراتيجي مع سورية والعراق، على أمل أن تستعيد أنقرة مجدها، بما لديها من قوة اقتصادية وعسكرية وعلاقات مع الغرب. لكن مشروعه فشل، وأصبحت كل الاتفاقات التي وقعها مجرد حبر على ورق. وعادت تركيا مكرهة إلى عزلتها، ليس لقطع العلاقات مع محيطها «المتخلف»، على ما كان يقول أتاتورك، بل لإعادة تشكيل الدولة على أسس إسلاموية لا ديموقراطية، من خلال سن قوانين لقمع الحريات، والسيطرة على الصحف، وسجن الصحافيين المعارضين.

فضلاً عن ذلك، اصطدمت تركيا السعيدة بانهيار حدود سايكس – بيكو بمطالب أكرادها في الداخل بالحكم الذاتي، فشنت عليهم حملة عسكرية دمرت الكثير من قراهم، خوفاً من اتصالهم بأكراد سورية، وتشكيل قوة كبيرة، مدعومة أميركياً وروسياً، ومن انتقال الحروب الطائفية إلى داخلها، لذا وقفت بعناد ضد مشاركتهم في مفاوضات فيينا وجنيف، واستمرت في استثمار «جبهة النصرة» و «داعش» في حلب، وسعت إلى إقامة منطقة عازلة داخل سورية تعهد حمايتها إلى جماعات و «جيوش» موالية لها. وراهن أردوغان «الإخواني» على الرابطة الدينية. لكن تفجير الحدود فجر أيضاً الصراعات الطائفية والمذهبية، وأصبح خطر انتقال الإرهاب إلى داخل بلاده واقعاً لا يمكنه إلا محاربته.

المستفيد الثالث من انهيار حدود سايكس- بيكو هي إسرائيل التي يتحقق سعيها، منذ إنشائها، إلى تفكيك الدول المحيطة، وإشعال الحروب فيها، وهذه فرصتها لتأجيج الصراعات في المشرق المتجه إلى التقسيم على أسس دينية، ما يبرر سعيها إلى تكريس نفسها دولة لليهود، وطرد الفلسطينيين الباقين من أرضهم، وضم الجولان السوري، ولعب دور أساسي في رسم الخرائط، فالروح الوطنية من حولها انهارت. والعروبة المعادية لها أصبحت مجرد فكرة ماضية، تحل مكانها، تدريجاً، توجهات جديدة على أساس المصالح.

«الشرق الأوسط الجديد» يتبلور أمام أعيننا على أنقاض سايكس – بيكو.

مصطفى الزين

صحيفة الحياة اللندنية