خريطة جديدة لسوق الطاقة العالمي؟

خريطة جديدة لسوق الطاقة العالمي؟

4668

التخمة النفطية التي يشهدها سوق النفط العالمي منذ عام 2014، لن تقف تداعياتها عند تراجع أسعار النفط بأكثر من 60% منذ ذلك العام وإلى حدود 35 دولارًا للبرميل في الآونة الأخيرة. لكن،وبسبب أن الزيادة في المعروض العالمي من النفط الناجم ترتبط بارتفاع إنتاج النفط الصخري الأمريكي، وببروز منافسين غير تقليديين؛ كالبرازيل والمكسيك في إنتاج النفط التقليدي،فإن إمدادات الطاقة ستظل وفيرة، ويمكن الوصول إليها بسهولة نسبيًّا، ولذلك فمن الأرجح أن تستمر الضغوط القوية على الأسعار في الأسواق العالمية، وأن يحدث تحوُّلٌ جذري في موازين القوى بين الدول المنتجة للنفط التقليدي وغير التقليدي.

تشهد سوق النفط بالآونة الأخيرة تغيُّرات جذرية تؤشر إلى ظهور توازن جديد بين القوىالمنتجة حول العالم، بعد أن كانت الدول المصدِّرة للنفط في الشرق الأوسط؛ولاسيما المملكة العربية السعودية، مهيمنةً بشكل كبير على هذا السوق. الآن بدا المشهد مختلفًا، نتيجة لعدة تغيرات، منها ثورة النفط الصخري بالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من بلدان العالم، علاوةً علىاكتشاف احتياطيات نفطيةكبيرة في بلدان كالبرازيل والمكسيك. وعلى الرغم من تخمة المعروض من النفط على الساحة العالمية،والتراجع التدريجي للأسعار منذ منتصف 2014، فإن ذلك لم يغير حتى الآن من الموقف السعوديالخاص بتثبيت سقف الإنتاج، وكما يُعتقَد،فإنها حرصت على تثبيت أوزيادة إمدادتها للسوق العالمي من أجل الحفاظ على حصتها السوقية. وربما تكون مثل هذه السياسة ناجحة على  المدى القصير؛ حيث إن سرعة تكيُّف شركات النفط الصخري مع الأسعار الحالية المنخفضة لن يكون يسيرًا، لكن آليات عمل هذه الصناعة تبدو متطورةً بسرعة شديدة،وتتجه بقوة إلى تخفيض تكلفة التشغيل جراء التقدم التكنولوجي، ومن ثم من المتوقع أن تتكيف صناعة استخراج النفط الصخري سريعًامع الأسعار  المنخفضة لتستمر في توفير السوق بإمدادات كبيرة تغيِّر من منظومة الطاقة العالمية بشكل جذري.

ثورة النفط الصخري:

لم يشكِّلْ حجم إنتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري العقد الماضي مصدرَ قلقٍ للدول المصدرة للبترول؛إذ كانت إمدادات النفط الصخري شحيحةً، وتشكِّل ما لا يزيد عن 5% من إجمالي إنتاج النفط الأمريكي في عام 2005.لكن الوضع تغيَّر في السنوات القليلة اللاحقة، فقدوصل إنتاج النفط الصخري إلى قرابة ربع الإنتاج الأمريكي الكلي – أي ما يوازي 2.5 مليون برميل – وذلك في عام 2013. كما اتضح أن  الولايات المتحدة تحوي موارد هائلة من النفط الصخري، ولقد ارتفعت احتياطياتها بفضل عمليات الاستكشاف والتنقيب من 4 مليارات برميلمن النفط الصخري عام 2007، إلى 33 مليار برميل في عام 2010.وبرغم  تضارب التوقُّعات حول الآفاق المستقبلية للإنتاج الأمريكي من النفط الصخري، فإنه  من المتوقَّع أن يستقرَّعند مستوى يتراوح ما بين 4-5 مليون في  الأعوام 2018-2030.

الحقائق السابقة تبدو مهمة للغاية بالنسبة للدول الرئيسية المصدرة للنفط، فذلك يعني  أن الولايات المتحدة ستتمكن الأعوام المقبلة من تحقيق الاكتفاء الذاتي الكلي. وتتوقع الكثير منالتقديرات أن تَحِلَّالولايات المتحدة محلَّ المملكة السعودية لتصبح أكبر دولة منتجة للنفط في العالم في عام 2020، وتصبح  أيضًا من كبار المصدِّرين،ولهذا السبب، وافقمجلسالنوابالأمريكيديسمبر الماضيعلىرفعالحظرالمفروض على الصادرات الأمريكية النفطية منذ 40 عامًا.

كما أن الولايات المتحدة لن تكون المنتجَ الوحيدَ للنفط الصخري في المدى المتوسط، فهناك كثيرٌ من الدول التي تمتلك مواردَمماثلة أو أقل قليلًا من الولايات المتحدة، ولقد بدأت بالفعل في الإنتاج على نطاق ضيق.وكما تشير تقديرات برايس ووتر كوبر هاوس، فإن احتياطيات العالم من النفط الصخري تتراوح مابين 330 مليار برميلو1465 ملياربرميل.وفي ضوء آفاق إيجابية لقدرات الإنتاج لدى البلدان المختلفة، من المُتَوقَّع أن يصل الإنتاج العالمي إلى 14 مليون برميل يوميًّا بحلول عام 2035. وهو ما سيشكل 12% من إجمالي إمدادات النفط العالمية.  بذلك من المتوقع أن يشهد السوق العالمي للنفط وفرةً غير مسبوقة من العرض، قد تدفع الأسعار إلى الأسفل دون المستويات الحالية، المقدَّرة في حدود 35 دولارًا للبرميل الواحد.

رهان سعودي:

وبرغم أن التطوُّرات السابقة لا تصُبُّ في صالح دول منظمة “الأوبك” على وجه التحديد وعلى رأسها السعودية، فإنالأخيرة رفضت بشدة تغيير مستوى إنتاجها لتقليل العرض، ووقف معدل انهيار الأسعار.  ويفسِّر العديدُ من المحللين الموقفَ السعودي بأنه يسعى للحفاظ على حصة المملكة السوقية، ويراهن على إمكانية إخراج شركات النفط الصخري من السوق العالمي،وأن أغلب الشركات العاملة بأسواق أمريكا الشمالية لن تتحمل الأسعار المنخفضة للنفط؛ لأن نقطة تعادل إيرادتها مع تكلفتها تتراوح ما بين 40-70 دولارًا للبرميل، وهو الحد الذي يبقيها عند توزان مالي، ولذلك فإنها ستتعرض لمأزق مالي كبيرفي ظل الأسعار الحالية.

ويبدو الرهان السعودي مصيبًا على المدى القصير؛إذ أعلنت عدد من الشركات  الأمريكية إفلاسَها – ولاسيما صغيرة الحجم- فيما خفضت أيضًا عدد من الشركات الكبرى العاملة في هذا المجال نفقاتِها الرأسمالية. ووفقًا لشركة هاينزوبون الأمريكية، فقد ارتفع عدد حالات الإفلاس بأمريكا الشمالية العامين الماضيين؛ حيث وصلت في عام 2015 إلى 42 حالة، ويبلغ مجموع ديون هذه الشركات 17 مليار دولار.

كما أن العديد من الشركات الكبرى المنتجة للنفط الصخري خفضت نفقاتها الرأسماليةمن أجل التكيف مع الأوضاع الجديدة. وعلى سبيل المثال قامت شركة Continental Resources بخفضميزانية 2016 بنسبة 66%إلى نحو 920 مليوندولار من 2.7 مليار دولارفيعام 2015.فيما تعتزمشركة هيس الأمريكية أيضًا خفض الإنفاق الرأسمالي إلى 2.4 مليار دولارفيعام 2016مقابل 4 مليار دولار العام الماضي، أي بانخفاض 40%. لكن بالرغم من هذه التحديات، فما زالت العديد من الشركات العاملة في هذا المجال مستمرة في عملها، كما أن التطورات التكنولوجية تؤشر إلى قدرة هذه الصناعة على تقليل تكلفتها الإنتاجية في المستقبل القريب، وأنها ستشكل فاعلًا أساسيًّا في السوق العالمية للطاقة في السنوات المقبلة.

معطيات جديدة تحدد ملامح خريطة الطاقة المستقبلية:

يبدو أن ملامح خريطة الطاقة العالمية تتشكل وَفْقَ أسس جديدة، من المتوقع أن يستمر تأثيرها على موازين القوى، ومن ثم أسعار النفط:-

تقدُّم تكنولوجي:

اعتقدت دول “الأوبك” في وقتٍ سابق أن إنتاج النفط والغاز الصخري غير اقتصادي، وبناءً عليه فقد تم استبعاده من توقعاتها بخصوص سوق النفط. ولكن سرعة صناعة النفط الصخري وتطور تكنولوجيا التكسير الهيدورليكي، التي تعتمد عليها الصناعة بشكل رئيسي، أعاد الانتباه مرة أخرى لتطورات هذه الصناعة. ولقد عبَّر عن ذلك وزيرالطاقةالروسيألكسندرنوفاك يوليو 2015 بقوله: “أعتقدأنه لنيكونهناكتأثيركبيرلرفع القوى الدولية العقوبات الاقتصادية على إيران” ولكن:  “تكلفةإنتاجالنفطالصخريسيكونلها تأثيرأكثرأهميةًعلىالأسعار.”وقد أسهمت التطورات التكنولوجيةبصفة أساسيةفي خفض التكاليف التشغيلية للصناعة.وعلى العموم، أصبحت شركات النفط الصخريأكثركفاءةًوأقلتكلفةبسببالتحسيناتالتكنولوجية. واقع الأمر أن شركة مثل ستات أويل النروجية، حققت طفرةتشغيلية في حقول إنتاج النفط الصخري التابعة لهالحوض “النسرفورد”بجنوب ولايةتكساس الأمريكية.فبرغم انخفاض عدد منصات الحفر إلى اثنتين فقط منذ عام 2014 بدلًا من ثلاثسابقًا، فإنها تمكنتمنزيادةالإنتاجبمقدارالثلثتمامًا. فيالوقتنفسه،خفضت متوسط تكاليفالحفرمن3.5 مليون دولار إلى 4.5 مليون دولارلكلبئر،ويأتي ذلك في ضوءتسريععملياتالحفرإلى 17 يومًا بدلًا من21 سابقًا.وبناءً على الإنجازات التكنولوجية، من المتوقع أن تهبط نقطة تعادل أسعار النفط إلى حدود 50 دولارًا على الأرجح في المدى المتوسط.

تنوع جغرافي:

بينما كان في الماضي، تتركز احتياطيات النفط في الشرق الأوسط وفي منطقة مجلس التعاون الخليجي على وجه الخصوص.مع طفرة النفط الصخري، والتي أثبتت توافر احتياطيات كبيرة في بلدان عديدة كالصين وأستراليا وتشاد وجنوب أفريقيا والبرازيل، بسهولة يمكن مشاهدة تغيُّرٍ مقبل، ليس فقط لخريطة قوى إنتاج الطاقة العالمية، وإنما أيضًافي اتجاهات التجارة العالمية للطاقة. عمليًّا، يصب ذلك في النهاية فيخفض قوة المنتجين الرئيسيين في أوبك، مما يجعل محاولاتهم لإدارة السوق أكثر صعوبة.

في ظل طفرة النفط الصخري، وظهور منافسين غير تقليديين لـ “أوبك”؛ مثل البرازيل والمكسيك، ستصبح إمدادات الطاقة وفيرة، ويمكن الوصول إليها بسهولة نسبيًّا. ومن ثَمَّ على الأرجح ستستمر الضغوط بقوة على الأسعار الأسواق العالمية. وسوف تظل صناعة استخراج النفط الصخري فاعلًا أساسيًّا ومؤثرًا على الساحة الدولية؛ نظرًالأن التطورات التكنولوجية سوف تمكِّنُهامن التكيُّف مع المستويات الأكثر انخفاضًا من أسعار النفط. ومن ناحية أخرى، في ظل زيادة المعروض وتعدد المنتجين، لن تستطيع المملكة السعودية أن تستمر في لعب دور “الموازن” في السوق العالمية، وسوف تتراجع بشدة قدرتها على التأثير أو التحكم في هذه السوق، ومع تعدد المنتجين خارج “أوبك”، فإن القوة التفاوضية لهذه المنظمة بشكل عام سوف تكون محلَّ شكٍّ كبير في الأمد المتوسط والطويل.