كلوفيس مقصود صاحب النظرة النقدية لربيع العرب

كلوفيس مقصود صاحب النظرة النقدية لربيع العرب

رئيسية7

كتب كلوفيس مقصود في مقاله الهام “مفاجأة الربيع العربي” إن توصيف الحراك الثوري العربي بـ”الربيع العربي”، كان غير دقيق “كونه عبّر عن مفاجأة ملهمة للعالم من خلال الإنجازات التي حققها شعبا تونس ومصر عندما اخترقا حواجز الخوف والاستكانة. هذا الاختراق هو الذي رسّخ مسيرة الثورة العربية، ولكن قد يكون أسهم في تأكيد ما هو مرفوض من استبداد ومن كان يمثّله من طغاة، غير أنه لم يأخذ بعين الاعتبار، بما فيه الكفاية، إدارة التعقيدات التي يجب أن تتبلور فكرياً ومؤسساتياً وسلوكياً”.

رأى المفكر العربي حينها أن الحاجة ملحّة إلى بقاء ما سمّاها “طلائع الثورة الشبابية” وغيرها موحدة، برغم تبايناتها وخلفياتها، على الأقل في المرحلة الانتقالية التي تضمن مناعة البدائل المطروحة التي قد تكون متباينة بين العناصر التي في أثناء وحدتها حققت الاختراق الذي تحوّل إلى عدوى، ما يفسر استيلاد الحراكات الشعبية في عديد من الأقطار العربية كاليمن وسوريا وليبيا، وإلى حد ما. لكن الأمور اختلفت بظهور التعقيدات المجتمعية، والتدخل الخارجي مختلف الأشكال.

كلوفيس مقصود الذي لم يغب عن أيّ مظاهرة أو محاضرة أو مؤتمر عربي في واشنطن، كان نصير الطلاب والصحافيين العرب في أميركا، يجلس في الصف الأول ليس فقط لأنه ضيف شرف، لكن لأنه يدعم كل الجاليات العربية في أهم عاصمة صنع قرار للعرب ومنطقة الشرق الأوسط.

رجل بقامة متوسطة، وجه بشوش، صوت هادئ، يتحدث إليك باللغة العربية الفصحى أحياناً، وأحياناً يمزج كل اللهجات العربية معاً من اللبنانية والفلسطينية والسورية والمصرية، لتعكس فكره وقضيته التي حارب من أجلها لعقود في المحافل السياسية والثقافية والحقوقية والأكاديمية.

مقصود المفكر العربي والدبلوماسي الذي حفظ له مكانته كل العرب في أميركا، سياسي وصحافي وظّف قلمه للقضايا العربية المنسية، ترجل عن عمر يناهز التسعين قبل أيام في واشنطن الماطرة والتي غطتها مع رحيله زهور الربيع البيضاء الباردة.

كلوفيس مقصود يعتبر أن توصيف “الربيع العربي” يكاد يعطينا انطباعا بأن المرحلة الانتقالية سوف تكون ضامنة للبدائل المرغوبة. ومن هذا المنظور، بدأت الصلاحيات الممنوحة للسلطات الانتقالية تواجه تشكيكا في صدقية التزاماتها، والحكم بكون الإجراءات المطلوبة لا تلبى بالسرعة المنشودة

التقدمي القومي

ولد مقصود في ولاية أوكلاهوما في عام 1926 لأبوين لبنانيين هاجرا إلى أميركا. ولكنه عاش في لبنان ودرس فيه. نشأ في بيت متعدد الطوائف والأديان ليتزوج من المسلمة السنية هالة سلام. درس العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت في عام 1944 حيث كانت بداية نمو فكره السياسي العربي والذي كان جوهره فلسطين والقضية الفلسطينية. غادر بيروت بعد إنهاء دراسته الجامعية 1948، لمتابعة دراسة القانون بجامعة جورج واشنطن.

تأثر كلوفيس مقصود بالفكر والأحزاب العربية فكان عضواً في الحزب التقدمي الاشتراكي العربي والذي كان أحد مؤسسيه خاله جورج حنا. ومن ثم كان على علاقة مع مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي أمثال ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني وكان صديقاً للنخبة العربية في تلك الفترة مثل الشاعر السوري عمر أبو ريشة وغيره من طبقة المفكرين والسياسيين والأدباء.

عاد مقصود في خمسينات القرن الماضي إلى لبنان للعمل السياسي والاجتماعي على أمل التغيير، وانخرط بالعمل الثقافي السياسي آنذاك. تأثر بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر والمد القومي العربي والصراع مع إسرائيل. تأثر بقرار تأميم قناة السويس واعتبره قراراً صائباً في حينه.

كتب ونشر عدداً من المقالات عن القضية العربية الجوهرية فلسطين. وما كان يميز مقالاته غناها وعمقها. فتم تعيينه سفيراً لجامعة الدول العربية في الهند بداية ستينات القرن العشرين، بعدها عمل في مجال الصحافة وبالأخص في صحيفة “الأهرام” المصرية وصحيفة “النهار” اللبنانية.

انتقل إلى للعمل سفيرا لجامعة الدول العربية في واشنطن ما بين 1979 ـ 1990 حيث عرف بين الجالية العربية وعلى الصعيد الأميركي الرسمي وغير الرسمي بأنه من أبرز المدافعين عن القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة. فعمل أستاذاً محاضراً في أعرق الجامعات الأميركية ومنها جامعة الأميركية في واشنطن وكلية واشنطن للقانون.

كما ألّف العديد من الكتب والمؤلفات في السياسة والثقافة العربية، من أبرزها “أزمة اليسار العربي” و”معنى عدم الانحياز” و”أفكار حول الشؤون الأفروآسيوية” و”صورة العرب” وآخر كتبه كان “من زوايا الذاكرة – رحلة في محطات قطار العروبة”.

هذيان العربي

بعد لحظات من انتشار خبر رحيله، سارعت الصحافة الأميركية والعربية إلى تكريم هذا المفكر والسياسي والدبلوماسي و الأكاديمي والصحافي والناشر العربي الذي نجح في هذه المجالات مجتمعة.

الدبلوماسي والسفير اللبناني السابق مسعود معلوف قال لـ”العرب” إن “مقصود لم يكن مفكراً عربياً عادياً. بل كان مفكراً هاجسه الوحيد هو القضية الفلسطينية وفلسطين”.

وروى معلوف كيف تعرض مقصود في شهر يوليو العام الماضي لعملية جراحية وهو نائم في سريره، وبعد انتهاء الجراحة، وفي حالة اللاوعي كان مقصود يهذي بكلمات حول العرب والعروبة والقضية الفلسطينية. ما يدل على عمق تمسكه في أعماقه الفكرية والداخلية بالقضايا العربية والعروبة.

أضاف معلوف “في آخر خطاب لمقصود في مركز الحوار العربي في واشنطن، لم يغب عنه همّ العرب والوطن العربي وتحدث عن حاله، وكان يتكلم بألم على ما آلت إليه الحال العربية وفقدان البوصلة وهي القضية الفلسطينية التي تعد القضية الجامعة بين العرب رغم كل خلافاتهم”.

أما الكاتب الفلسطيني جورج حشمة فقال إن رحيل مقصود “سيترك فراغاً كبيراً، خاصة بين المفكرين العرب في أميركا، وأن العالم العربي كان مقصراً بحق هذا العلامة. ورغم وجود خمسين سفيراً عربياً في واشنطن وأكثر من خمسة وعشرين ممثلاً عن الدول العربية في نيويورك، فإن هؤلاء لم يقدموا كما قدم كلوفيس مقصود للقضية العربية الفلسطينية. ومع ذلك لم يعط الرجل حقه”.

وتشارك رأي جورج حشمة الأستاذة الجامعية والشاعرة العربية عبير الكايد والتي قالت لـ”العرب” إن مقصود كان من القوميين العرب نظيفي الكف و”ما لفت الأنظار إليه هو حديثه عن القضية الفلسطينية والتي كان يشبهها بالبوصلة التي فقدها العرب وفقدتها الأمة العربية بسبب ضياعها وعدم التزام الأنظمة بها. أما القضية الثانية التي كانت تروغ في نفسه فهي قضية المفكرين العرب”.

وتضيف الكايد إن المفكرين العرب “في أزمة الالتفاف حول رحيل عملاق من عمالقة الفكر العربي ككلوفيس مقصود. لأنه لم يكن صاحب ثقل فكري فقط. بل كان يمثل البعد الاجتماعي العربي في أميركا، وكان حريصاً على لمّ شمل جميع المفكرين والأدباء العرب هنا”.

الدكتور مخلص الحريري والذي ربطته صداقة مع مقصود لأكثر من أربعين عاماً قال لـ”العرب” إن مقصود كان إنساناً صادقاً مع نفسه وصادقاً مع الآخرين، وأضاف إن “فكره العربي كان يعكس أصالته العربية. فقد كان من القلائل الذين آمنوا بأن العمل الثقافي يخدم العمل السياسي”.

بالنسبة إلى الحريري كلوفيس مقصود ليس علمانياً بل كان علمانيا في دور الدولة في الحياة ولكنه كان شخصاً يؤمن أن كل الديانات السماوية تصب في اتجاه واحد وهو صناعة الإنسان الأفضل والمستقيم. ولم يكن متحيزاً إلى أيّ دين أو أيّ طائفة.

موقف مختلف من الثورات

إدموند غريب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون في واشنطن والذي تربطه بمقصود صداقة منذ عام 1971 والتي جمعتهم مقابلة صحافية قام بها الصحفي إدموند غريب عن حرب 1967 والتي بدأت باقتباس لتنتهي لمقال إلى حوار مطول نشر آنذاك، قال غريب إن مقصود مثل شجرة السنديان الصلبة التي مهما انكسرت جذوعها فإنها تبقى صلبة وتتمدد. حيث كان مقصود رجل فكر معطاء إلى آخر يوم في حياته. وكان غريب قد درّس في نفس الجامعة التي كان يدرّس فيها مقصود، حيث جمعتهما الحياة الأكاديمية في المهجر.

وقال غريب إن مقصود كان مؤمناً بالطاقات في العالم العربي وكان متحمساً في بداية الربيع العربي، وكان يعتقد أنه كان سيؤدي الى نتيجة ولكن أمل مقصود خاب. أصابه الإحباط من النتائج التي أسفرت عنها الثورات وخاصة بظهور النتوءات والتي كان يقصد بها الدواعش والتيارات المتطرفة والإرهابية.

لكن على الرغم من كل الأزمات والإحباطات إلا أن مقصود كان واثقاً وعلى قناعة تامة بأن العالم العربي يمتلك القدرات، فيما إذا استغلت تلك القدرات بالطريقة الصحيحة لمواجهة الفساد والقمع والظلم وتحرير الأراضي المحتلة.

اعتبر غريب مقصود منارة أضاءت الطريق للقضايا العربية والعروبة. وقال إنه وممّا لا شك فيه أن الراحل كان حالة نادرة حافظت على التوجه والإيمان العربي في زمن تراجع فيه الفكر القومي والعلماني أيضاً واللذين دافع عنهما بجرأة كبيرة.

أضاف غريب أن غياب مقصود سيكون له تأثير على الفكر العربي والعرب في المهجر، خاصة وأنه يترك بصمات واضحة خلفه.

ورغم عدم رضاه عن نتائج الثورات في بعض البلاد العربية وتراجع الفكر العربي، إلا أن رحيل مقصود سيسدل الستارة على علم كبير من أعلام القرن الماضي والذي نادى بالعروبة والوحدة التي أصبحت حلماً بعيداً في ظل التغيرات الجيوسياسية والجغرافية الحالية.

إدموند غريب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون في واشنطن يقول لـ”العرب” إن كلوفيس مقصود كان مؤمنا بالطاقات في العالم العربي وكان متحمسا في بداية الربيع العربي، ولكن أمل مقصود خاب. أصابه الإحباط من النتائج التي أسفرت عنها الثورات

التعددية غير المعقولة

توقّع مقصود أن توصيف “الربيع العربي” يكاد يعطينا انطباعاً بأن المرحلة الانتقالية سوف تكون ضامنة للبدائل المرغوبة. ومن هذا المنظور، بدأت الصلاحيات الممنوحة للسلطات الانتقالية تواجه تشكيكاً في صدقية التزاماتها، والحكم بكون الإجراءات المطلوبة لا تُلبّى بالسرعة المنشودة، ما يكاد يعمق أزمة الثقة والتشكيك المتبادل الذي من شأنه أن يخرج المرحلة الانتقالية من كونها عنصراً مؤسساً للنظام الوطني والاجتماعي البديل.

وقد نظر مقصود إلى الانتفاضات العربية كلها نظرة نقدية استباقية. وضرب مثالاً هاماً بتونس، حيث برز عبء التعددية غير المعقولة للتنظيمات الكثيرة فيها. “كأنها أصبحت تشكل ثقلاً على صياغة المشروع الديمقراطي والليبرالي المنفتح، والتقدمي بتجلياته الاشتراكية أو غيرها، في حين أن المطلوب ليس وحدة الاندماج بين هذه الأحزاب والطلائع والنقابات، بل إطار يضمن الحوار المجدي من خلال التنوع على أساس أن الإطار الطليعي في تونس أو مصر، كونهما النموذجين اللذين أظهرا حاجة الأمة العربية إلى التغيير والنهضة والكرامة بكل أبعادها”.

مصر وتونس، حسب مقصود، ستتحملان مسؤولية “تأمين نموذج وتوفير مثال للمسؤولية وإدارة التعقيدات الناشئة في المرحلة الانتقالية، ومن ثم استقرار ورسوخ النظم البديلة، وحيث تتعثر الانتفاضات كما يحصل إلى حد ما في كل من اليمن وسوريا، الأمر الذي يتطلب استيعاباً أدق لطبيعة السلطات التي يواجهها أو يجابهها الحراك في كلّ من الحالتين”.

نقد الذات في المرحلة الثورية هو ما طالب به مقصود، فهو “سلاح الحيلولة دون هدر الذات، وبالتالي حماية الذات لاستقامة مسيرة الحراك الثّوري الحاصل حتى تتمّ الإنجازات التي كانت أحلاماً وأصبحت من خلال الحراك الثوري الملهم مرشحة لأن تكون حقائق ماثلة. يبقى أن هناك مسؤولية ضخمة تتحملها طلائع الثورات المستنيرة بأن توفر خاصة في المراحل الانتقالية، المناعة التي تحول دون محاولات تطويق هذه الإنجازات التي لاتزال في طور التحقيق، حيث أن هناك قوى متربصة بها تحاول ردع ما تراه عدوى، على اعتبار أن التطويق يمكن أن يكبت الحيوية الكامنة في استكمال شمولية النهضة العربية، وألا تبقى الآمال معلقة أو مؤجلة”.

كندة قنبر

صحيفة العرب اللندنية