الحج ذريعة للتصعيد الإيراني

الحج ذريعة للتصعيد الإيراني

7523F178-81B5-430B-A3FD-9403FC1B6C30_mw1024_s_n

الدرس الرئيس الذي استفدناه عبر أربعة عقود تقريباً أننا يجب ألا نستبعد أي سلوك من جهة إيران، فقد ظل الهدف الذي تسعى إليه واحداً، وهو فرض الهيمنة على العالم العربي، وظلت الطريقة التي تعتقد بأنه يمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف واحدة، وهي إثارة كل أشكال الاضطراب وعدم الاستقرار في الدول العربية، ليتاح لها أن تَنفُذ من خلال مناخ التشويش والفوضى إلى ما تريد. وآخر الفصول في هذه المحاولات هو استغلال الحج استغلالاً لا يليق بما للفريضة الإسلامية من جلال وتوقير، واختلاق الأكاذيب والافتراءات عن المملكة العربية السعودية، واتهامها بأنها منعت الإيرانيين من أداء الفريضة المقدسة هذا العام.

اللعب بورقة الدين ليس جديداً على إيران، وهو أسلوبها الأثير، فإضفاء الطابع الطائفي على المواجهة في المنطقة لا يخدم إلا المصالح الإيرانية، إذ يتيح لإيران أن تخلق كيانات تابعة لها داخل الدول العربية التي يدخل الشيعة ضمن نسيجها الوطني، وأن تربطهم بها بصلات وثيقة قائمة على إشعارهم بأنهم مُستهدفون من داخل دولهم على أساس مذهبي، ومن ثم فإن ولاءهم يجب أن يتحول على أساس مذهبي إلى الدولة التي تدعي أنها تمثلهم. وبمنطق «البحث عن المستفيد» فإننا يمكن أن ندرك بسهولة الطرف الذي يحرك النعرات الطائفية ويغذيها، ويحاول أن يفسّر كل ما يحدث على أساس من المذهب والطائفة من دون سواهما.

وتقدِّم حادثة التدافع التي سقط فيها مئات الحجاج في موسم الحج الماضي نموذجاً للاستغلال المقيت للدين من جانب إيران، إذ أضافت على الأمر – كعادتها – ذلك الظل الطائفي الكريه، وحوّلته إلى تجارة بأرواح من قضوا في حادثة غير مُستبعدة أبداً مع تجمع ملايين البشر في لحظة واحدة في بقعة صغيرة من الأرض. وكان المسار الطبيعي أن يُترك للمملكة العربية السعودية الوقت الكافي لإجراء تحقيق مستقل وشفاف في ما حدث وتبيُّن أسبابه، ومن ثم إعلان نتائجه كما حدث في وقائع أخرى تم التصرف فيها بسرعة وحزم، مثل سقوط رافعة في الحرم المكي في أيلول (سبتمبر) 2015، فقد أجرت السلطات السعودية تحقيقاً دقيقاً، واتخذت إجراءات رادعة بحق الشركة المتسببة في الحادثة، وصُرفت التعويضات للضحايا من دون إبطاء.

لم تكن إيران معنية بتحري الحقيقة في حادثة التدافع الأليمة في منى، ولم يكن تباكيها الكاذب على الضحايا غير ذريعة للتصعيد وخلق مزيد من المشكلات التي تتفنن طهران في اختلاقها. ولو كانت معنية حقاً بالحفاظ على أرواح ضيوف الرحمن لانتظرت كما فعلت كل الدول الإسلامية نتائج التحقيق في الواقعة، ووقتها كان يمكن لها أن تتفق أو تختلف، لكنها استبقت ذلك باتهامات جاهزة وفحيح إعلامي وسياسي يضرّ بأي محاولة للوصول إلى الحقيقة، ويجعلها رهناً للمزايدات والمساومات السياسية.

واستولدت إيران من الأزمة أزمات جديدة، مثل إطلاق التهديدات في شأن جثامين الضحايا الإيرانيين، أو الإيحاء بأن هناك تعمداً واستهدافاً لهم من دون غيرهم، ووصل الأمر إلى تهديد من المرشد الأعلى علي خامنئي بـ «ردٍّ قاسٍ» إذا تعرضت الجثامين إلى إساءة. والسؤال هنا هو: هل هناك أي مصلحة للمملكة العربية السعودية في الإساءة إلى جثامين الضحايا أو احتجازها؟ وهل يمكن لهذا التهديد من جانب خامنئي إلا أن يكون تجارة بجثامين الضحايا لإثارة مشاعر الكراهية وتعميق الشقاق والأحقاد؟

هذا هو السياق الذي يجب أن تُفهم في إطاره الأكاذيب الإيرانية الجديدة حول منع الإيرانيين من الحج، فهي ليست إلا فصلاً جديداً من فصول استغلال الدين لأغراض سياسية رخيصة. وإيران ليست معنية في الحقيقة بأن يؤدي حجاجها الفريضة التي تهفو إليها قلوبهم، بقدر رغبتها في بث مزيد من التوتر والكراهية في أجواء العلاقات المتوترة من الأصل بفعل ممارساتها العدائية. ولعل خير ما يؤكد الرغبة الإيرانية في اصطناع الأزمات دائماً هو ما صرح به رئيس مؤسسة الحج والزيارة الإيراني بأن بلاده قدمت للسعودية عشرين مقترحاً ووضعت أربعة خطوط حمراء حول موسم الحج المقبل. وبغض النظر عن الدخول في تفاصيل تلك الشروط، فإن فكرتها أصلاً تتعارض مع روح هذه الشعيرة المقدسة التي تهدف إلى تكريس فكرة أن الناس سواسية. ترى ألم يسأل الإيرانيون أنفسهم: كيف ستتصرف السعودية لو وضعت كل دولة شروطاً وقيوداً حتى يؤدي مواطنوها هذه الفريضة؟

أكاذيب منع الإيرانيين من الحج هذا العام تحقق جملة من أهداف إيران، فهي تخلق في الداخل الإيراني، ومع حملات المتطرفين والغلاة المذهبيين، شعوراً بالكراهية والعداء تجاه المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية تحتاج إليه إيران لتوجيه طاقات الغضب والإحباط في الداخل الإيراني إلى طرف خارجي، وتمهِّد الأرض لأي إجراء متهور تقدم عليه في المعارك التي تفتحها إيران على أكثر من جبهة عربية، وتمد التيارات الأكثر تطرفاً وطائفية بمزيد من الأنصار والأتباع الذين يتبنون مقولاتها، وتقدِّم تبريرات لخسائرها البشرية والمادية في الصراعات التي زجت فيها بقواتها المسلحة، كما هي الحال في سورية أو العراق أو اليمن.

السياق الأوسع للأكاذيب الإيرانية لا يرتبط بالعام الماضي وحده، بل بتاريخ طويل من استغلال إيران لموسم الحج في إثارة الاضطرابات من خلال مسيرات وتظاهرات وتجمعات ترفع شعارات سياسية صارخة، وتتحدى السلطات السعودية وتستفز مشاعر الحجيج من كل أنحاء العالم. وفي الوقت الذي يذهب فيه المسلمون من كل فج عميق إلى بيت الله الحرام مجردين من كل انتماء إلا الانتماء إلى الإسلام، ومن كل هدف إلا التوجه إلى الله بقلوب صافية ملبية نداءه ومطيعة لأمره جلّ وعلا، فإن العناصر المدسوسة بين الحجاج الإيرانيين كانوا يجعلون من الحج مجرد ذريعة لأغراض وأهواء سياسية محضة، وينشرون الفرقة ويثيرون الأزمات التي تسيء إلى المسلمين في العالم كله، وإلى سمعة إيران ذاتها. ووصل الأمر في العام 1986 إلى اكتشاف السلطات السعودية مواد متفجرة في أمتعة حجاج إيرانيين، وشهدت السنوات التالية أعمال شغب وعنف قام بها عناصر الأجهزة الإيرانية المندسون وسط الحجاج، وسقط الآلاف من ضيوف الرحمن قتلى وجرحى من جراء هذه التدابير الشيطانية. وللأسف، فإن إيران كانت تتوهم أنها بارتكاب تلك الجرائم تنال من سمعة المملكة العربية السعودية، غافلة عن أن حقيقة تصرفاتها كانت واضحة للجميع.

أكاذيب إيران حول منع الحجاج الإيرانيين من الحج لا تُقنع أحداً، فلو كان هدف طهران حقاً هو الحصول على التأشيرات اللازمة لكان ذلك يسيراً، والبدائل المتاحة كثيرة، بدءاً من الحصول عليها عبر دولة ثالثة بسبب إغلاق القنصلية السعودية إثر الاعتداء الغاشم على السفارة السعودية في طهران قبل شهور، أو تنظيم الحصول على التأشيرة إلكترونياً عبر إجراءات يسيرة، لكن إيران لا تهتم بتسهيل سبيل الحج لمواطنيها بقدر ما تهتم بافتعال الأزمات التي لا تستطيع العيش من دونها على ما يبدو. وهذا الأسلوب محل اتفاق بين القوى الإيرانية جميعها، ولا فرق في ذلك بين «إصلاحيين» و «محافظين»، أو «معتدلين» و «متشددين»، فالكل سواء في تبنّي سياسة إثارة الأزمات والقلاقل والمشكلات مع دول الخليج العربية، والوقوف دائماً على حافة الهاوية.

إن موقف إيران من ربط قضية الحج بالخلافات السياسية يشير إلى رغبة في التصعيد إلى أقصى الحدود الممكنة. ومن المؤكد أن المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية لا تُحبذ اللجوء إلى هذا الأسلوب وتعمل على تجنُّبه، وهي لا تزال تعوّل على أن يكون في إيران من يستجيب لصوت العقل والحكمة، لكنها في الوقت نفسه مستعدة تماماً لمواجهة تداعيات أي سلوك سلبي إذا فُرض عليها ذلك، ولن تُقصر في اتخاذ ما يلزم من إجراءات على كل الصُّعُد. ويجب أن تعلم إيران أن «الحزم» لم يكن مجرد اسم لعملية عسكرية أحبطت أطماع طهران في اليمن، بل هو سياسة ثابتة سيجري اتباعها إلى أن يثوب الإيرانيون إلى رشدهم.

راشد صالح العريمي

صحيفة الحياة اللندنية