إيران من الداخل: أزمة بين المركز والأطراف

إيران من الداخل: أزمة بين المركز والأطراف

_81000_iran3

يعتبر التعدد العرقي، في أغلب الحالات، مصدر ثراء المجتمعات، ومكوّنا رئيسيا لقوّة الدول؛ اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. لكن هناك حالات تشذّ عن القاعدة، ويتحوّل فيها التعدّد غير المتجانس إلى مصدر لعنة، خاصة إذا صاحبه توزّع جغرافي ممتدّ ونظام حكم لا يعترف بحقوق الإثنيات والقوميات والمناطق البعيدة عن المركز.

من بين هذه الحالات تبرز الخارطة الاجتماعية والجغرافية لإيران، التي جعلت من أغلب قومياتها ومكوناتها الداخلية “أعداء” لها. فنظرة متأنية على المكوّن الإيراني المتشعّب ستبيّن أن خلف محاولات النظام الإيراني إظهار البلاد على أنها نسيج متباين من الجماعات العرقية وتوزعها الجغرافي المختلف، تكمن فسيفساء من القوميات والإثنيات والشعوب التي، تضع، بالتوازي مع الخصوصية الجغرافية للمنطقة، إيران في عين العاصفة.

يوضّح المنطق الجغرافي والتاريخي أن ما يميّز إيران هو مساحة شاسعة من تفاوت بين تاريخ متحضر عريق، طالما وضع شعوب أرض فارس في حروب أطماع ملوكها الغزاة ضد أمم الجوار، وتاريخ أعقب الهزيمة أمام غزو عرب البادية وهم يحملون سيوف الإسلام وراياته ليقهروا بها التحضّر الإمبراطوري. وكأنّ إيران مهد لتفاوت وتباين واختلاف لا ينتهي. ولا يسع المراقب، أمامه، إلا أن يتساءل، كيف بقي هذا النسيج ملتحما كل هذه القرون؟

وتتمثّل أبرز علامات التباين السياسي المجتمعي في صراع المدينة والريف، فالحواضر الكبرى في إيران تشمل 8 مدن مليونية بينها أربع عواصم لأربع ممالك شاسعة. العاصمة الأولى هي طهران، العاصمة القاجارية البهلوية الإسلامية، التي يتراوح عدد سكانها بين 10 ملايين نهارا و8 ملايين ليلا. ومن الغريب أنّ الجمهورية الإسلامية التي غيّرت كل شيء لم تفكر في أن تتخذ لنفسها عاصمة رغم أنّ في البلاد مدينتي مشهد وقم المليونيتين؛ وتصلح كل منهما لأن تصبح عاصمة الدولة الشيعية.

مشهد التي لم تصبح عاصمة

من الغريب أن الجمهورية الإسلامية التي غيرت كل شيء لم تفكر في أن تتخذ لنفسها عاصمة رغم أن في البلاد مشهد وقم

يمكن وصف مدينة مشهد بأنها إمبراطورية تمتد على مساحة شاسعة في حضن آسيا، وتضم أضدادا وتناقضات مجتمعية ونسيجية وأخلاقية وقيمية قلّ نظيرها، ويتجلى ذلك بالأساس في أطرافها البعيدة عن المركز الفارسي- الآذري (آزرى) غالبا. يقع في الطرف الشرقي إقليم خراسان المطلة حافاته على باكستان وأفغانستان وتركمانستان، وتعتبر مدينة مشهد (الطوس) التي تضم مرقد الإمام علي بن موسى الرضا، أكبر حواضره.

ويقترب عدد سكانها اليوم من 3 ملايين نسمة. ونظرا إلى أنها تضمّ الكثير من الآثار والمزارات والمقامات فاقتصاد المدينة يرتكز بالأساس على السياحة الدينية؛ بالإضافة إلى إنتاج السجاد وزراعة القمح، وزراعة ورد الزعفران، وهو واحد من أغلى المحاصيل في العالم. بالتوازي مع ذلك، تعتبر المدينة رأس ممرّ طريق الحرير القديم، الذي بات اليوم ممرّا لتهريب المخدرات وقطع السلاح وكل بضائع آسيا الشرعية وغير الشرعية تقريبا.

ورغم أن ولاء أهل مشهد (شيعة غالبا) ينبغي أن يعدّ محسوما للحكومة الإسلامية، لكن بعد هذه المدينة عن المركز ومشكلات المخدرات وما يتفرع عنها من تجارة الأعضاء البشرية وبيع المدمنين لزوجاتهم وبناتهم وأخواتهم تجرح ولاء المدينة للسلطة وتجعلها إحدى المدن النائية (13 ساعة عن طهران بالسيارة) المثيرة للمشكلات.

يوجد في جنوب مشهد إقليم سيستان وبلوشستان، التي ينحدر من إحدى قراه المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني. وبينما يتبع أغلب أهل سيستان المذهب الشيعي، يتبع أغلب أهل بلوشستان المذهب السنّي، لذا ربطت الحكومة المركزية الولايتين في محافظة واحدة لتخفيف الفرق وتغليب المذهب الأكبر. ويبلغ عدد سكان عاصمة هذا الإقليم، وهي مدينة زاهدان، نحو نصف مليون نسمة، وهم خليط مختلف غريب من أمم تجمّعت في مركز واحد يصدّر ويمرّر ويستورد الجهاديين، والراغبين في الهجرة من الأفغان، وتجار المخدرات من أفغانستان وباكستان، وكل أنواع القراصنة في بحر العرب.

وتضمّ هذه المنطقة، الواقعة على الحدود مناطق الحدود مع أفغانستان وباكستان، أهم معابر المخدّرات وتجارة الخادمات والمومسات والعمالة والسلع الرخيصة الآسيوية التي تصدّر إلى العالم وتمرّ عبر شواطئ الخليج لتتجه إلى دول الساحل الغربي العربية أو لتواصل الإبحار إلى أميركا وأستراليا والعالم العابر للمحيطات، أو تتجه البضاعة غربا موغلة في السير عبر تركيا ومنها إلى أسواق أوروبا عموما.

لا يعني هذا طبعا أنّ الاقتصاد الإيراني الرسمي يعيش على المخدرات والتهريب، فحكومة الجمهورية الإسلامية تحارب هذه التجارة غير القانونية بشكل شرس، وتشنق المهربين على الرافعات علنا في الشوارع، وتشنق معهم كل المعارضين للجمهورية الإسلامية بتهمة تهريب المخدرات.

وتتلف المواد المهربة، وفي حملات علنية تحرق أطنانا من المخدرات قيمتها بالمليارات من الدولارات، لكن كميات كبيرة أخرى تتخلف عن هذه الأطنان المحروقة وتتسرب مواردها إلى جهات غامضة.

يزيد من خطورة المنطقة، إلى جانب هذا الخليط الغريب من القوميات متعددة اللغات والمذاهب، التي يعيش أغلبها على التجارة غير المشروعة، أنه في هذه المناطق تنشط أحزاب سنية دينية، يغلب عليها التوجه السلفي ومنها:

– حزب الفرقان، الذي تأسس عام 1996 من قبل الشيخ جليل قنبر شاه بخش، ويعد الحزب من أبرز حركات التيار السلفي.

– حركة جند الله، بزعامة الشيخ عبدالمالك ريكي، وقد تأسست عام 2002 وهي حركة سلفية هدفها المعلن “رفع الظلم عن أهل السنة عامة والشعب البلوشي خاصة ونيل حقوقهم”.

– حركة الجهاد الإسلامي، بزعامة صلاح الدين البلوشي، وهي أحدث الحركات، وتحاول أن تنشط في بلوشستان.

ولا تتوقّف هذه التعقيدات عند المناطق الواقعة جنوب شرق إيران والمتاخمة للحدود الباكستانية والأفغانية، فبالتوجه شمالا نجد مناطق أخرى تعقيداتها لا تقلّ أهمية، من ذلك إقليم مازندران، وعاصمته ساري، والتي يبلغ عدد سكانها نحو ربع مليون نسمة.

يحد الإقليم كل من تركمانستان وكازاخستان وروسيا. ويغلب على سكّانه التشيع ويتحدّثون باللغة المازندرانية والآذرية. ويندر أن تجد أشخاصا يتكلمون الفارسية (باستثناء موظفي الحكومة). عصب الحياة في الإقليم إنتاج الخشب وزراعة الجوز والبلوط والفستق. وتضم أراضيه إقطاعيات شاسعة تشغل الآلاف من الفلاحين، ويملكها رجل إيران القوي الثاني، هاشمي رفسنجاني.

كما يقع في الشمال الشرقي إقليم كيلان، وعاصمته رشت، ويبلغ عدد سكّانها نحو نصف مليون نسمة. ومن هذا الإقليم انحدر الإمام عبدالقادر الكيلاني (الشيخ الصوفي السني) وضريحه في بغداد. وتحد أقليم كيلان كل من آذربیجان وأرمينيا ويستلقي جزء منه على ساحل بحر الخزر الجنوبي.

ويتبع ثلثا سكان إقليم كيلان المذهب السني، ويقطنون في أراض مطيرة خصبة لا تشبه الصحارى القاحلة التي تشغل وسط البلاد وجنوبها ولغتهم الكيلاكية.

ويقوم اقتصاده على إنتاج الكافيار وأنواع نادرة ثمينة من الأخشاب. واللافت في هذا الإقليم أن أهله لا يشبهون سائر أهل إيران في الكثير من مظاهر الحياة والنسيج الاجتماعي واللغة، ومقارنة بالشرق ومناطق أخرى لا يوجد نشاط سياسي معارض في مجمل شمال إيران.

الجنوب العربي الطويل منقسم مذهبيا

يوجد في كردستان إيران 15 حزبا ومنظمة تمتلك فصائل مسلحة، وهي مصدر قلق دائم لحكومة طهران

التعقيدات الأكبر تبرز في جنوب إيران الذي يصعب رسمه جغرافيا، فهو صغير مدبب ينتهي بالحدود الباكستانية على أعالي بحر العرب، ويمتد صعودا مع سواحل شرق الخليج وصولا إلى البصرة، جنوب العراق. ويتحدّث سكان جنوب هذه السواحل، التي تتميّز بتنوعها الديمغرافي، اللغة البلوشية والجدكالیالدرية المتأثرتين إلى حد كبير بلغات جنوب غرب باكستان، وأغلبهم من السنة.

وابتداء من بندر عباس وجزيرة كيش تصبح العربية لغة أهل المنطقة التي تسكنها قبائل عرب الأحواز وهي عموما منطقة مختلطة بأقوام عديدة. هؤلاء العرب أغلبهم من السنة ولا يدينون بالولاء للجمهورية الإسلامية بل يرون فيها نظاما يصادر عروبتهم ويلغي هويتهم المذهبية.

لكن الأغنياء في هذه المناطق لهم مصالح مشتركة عبر الخليج وأيضا في البازار الموالي للحكومة المركزية، وتتحرك رؤوس أموالهم العملاقة عبر المياه الدافئة إلى كل العالم. وتسكن عند حدود العراق، عشائر في الغالب شيعية (كعب، مالك، السواعد، طرفة، بني لام، الزرقان، السود، البيض، بني تميم، زبيد، وقبائل أخرى كثيرة)، وهنا أيضا انقسام سياسي قومي، فقد نجح صدام حسين في استمالة بعض هذه العشائر فسلّحها وزجها في الحرب ضد إيران، وبعد انتهاء الحرب عام 1988 أسكنها مناطق غرب العراق (الرمادي والخالدية) وكان يخطط لحشدها ضد إيران، بعد إسقاط صدام حسين، ارتبكت أوضاعهم وهاجر الكثير منهم إلى بلدان عربية وأوروبية ومن بقي منهم احتشد مع بعض عشائر المنطقة التي بايعت تنظيم الدولة الإسلامية.

السياسة في المناطق العربية

ويطمح الكثير من الأحوازيين إلى إقامة دولة مستقلة تمتد وراء حدود خوزستان التي تقع عند رأس الخليج الاستراتيجي وتشترك في الحدود مع العراق. ومؤخّرا بدأت قضية الأحواز تطل برأسها من جديد، عبر أحزاب سياسية سرية تعارض النظام لكن أغلبها ينشط خارج إيران، ومنها:

– حزب التضامن الديمقراطي الأحوازي: حزب فيدرالي يحظى بتأييد واسع بين نخب الأحواز غير العشائرية. وله اتصالات بالأحزاب الإيرانية المعارضة التي تطالب بحقوق الشعوب غير الفارسية.

– التيار القومي الوطني الأحوازي: حزب فيدرالي وينشط في الداخل بشكل سري، يرفض العنف ويدعو إلى النضال السلمي وينطلق هذا التنظيم من الواقع الداخلي.

– الجبهة العربية لتحرير الأحواز: تنظيم انفصالي تحالف مع النظام العراقي السابق خلال الحرب العراقية الإيرانية، ودخل في تحالف مع مجموعة حزم ثم انفصل

عنها. هذا التنظيم لا يحظى بدعم عربي، وبقايا فصائله المسلحة مازالت تقيم غرب العراق.

تنظيمات صغيرة أخرى بينها حركة النضال الأحوازية وهي الحركة المتهمة بتفجيرات عام 2005 في الأحواز.

لقد نجحت السلطات الإيرانية، كإجراء مضاد، في تجنيد الكثير من وجوه قبائل عرب الأحواز، (أهواز بالفارسية واللفظان في جوهر الخلاف الحكومي مع أهل المنطقة)، وجعلتهم في مناصب قيادية حاسمة، ولعل أشهرهم هو الأميرال علي شمخاني أمين مجلس الأمن الإيراني. لكن الممارسات التمييزية طغت على مثل هذه الإجراءات ولم تخفف من حالة الغليان في هذه المنطقة.

وحيث تنتهي المناطق العربية في إيران تبدأ مناطق اللّر (الكرد الفيلية)، على جانبي الحدود مع العراق، وهم أكراد شيعة ولغتهم اللّرية، التي تختلف عن لغات الأكراد الأخرى. وولاؤهم محسوم في الغالب للسلطة، ويشغل عدد كبير من اللّر مناصب حاسمة في إقليم كردستان إيران، حيث توظف الحكومة المركزية انتماءهم القومي مستفيدة من ولائهم المذهبي.

لكن مع التوجه إلى أعلى، نحو شمال غرب إيران، حيث توجد محافظة سنندج وأرومية، وصولا إلى مثلث أرمينيا تركيا ومركزه خوي المتحدر منها المرجع الشيعي الراحل الخوئي، يتركّز الأكراد السنّة الذين يعارضون السلطة لأنها ترفضهم كقومية (كما الحال في تركيا) وأيضا لأنها تخالفهم المذهب ويرون أنها تمنعهم من عباداتهم.

وقد شهدت هذه المنطقة إقامة جمهورية مهاباد الكردية عام 1946 التي أسسها الملا مصطفى البارزاني مع القاضي محمد بدعم سوفيتي. ولم تنجح الحركات السلفية التي نشطت على الشريط الحدودي المقابل في العراق (وادي بياره وطويله، ووادي بنجوين) في أن تجد لنفسها موطئ قدم بينهم.

ويوجد في كردستان إيران حوالي 15 حزبا ومنظمة، أهمها: الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، والحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب كومله كردستان إيران وحزب “پژاک”. وتمتلك هذه الأحزاب فصائل مسلحة، وهي مصدر قلق دائم للحكومة المضطرة لوضع أكثر من 4 فرق عسكرية مفتوحة بشكل دائم في المناطق الكردية.

وتقوم مفارز مسلحة من بعض هذه الأحزاب بهجمات منظمة على القوافل والمخافر والنقاط الجبلية الحكومية وتكبدها خسائر ملحوظة، لكن الإعلام الرسمي لا يمرّ على ذكر ذلك، مثلما لا يمرّ على الاضطرابات الأخرى في مختلف المناطق الإيرانية، خصوصا النائية، والتي لا يصلها من المركز إلا قوات الحرس الثوري لوأد أيّ صوت من الأصوات المناهضة للسلطة. وسكان تلك الأقاليم ترى فيهم حكومة الجمهورية الإسلامية أنهم “عملاء” أكثر من مواطنين، وهو توجّه اتبعته السلطات الإيرانية المتعاقبة منذ إيران الشاهنشاهية، وصولا إلى الملالية. وفي دولة متعددة الأعراق كإيران فإن المعنى السياسي للتنوع السكاني تكون له في الغالب عواقب خطيرة. فالفشل في عدم احتواء قنبلة الأقليات الموقوتة سيؤدّي إلى انفجارها، في وقت تسعى فيه إيران إلى بسط نفوذها على المنطقة.

أمير علي حيدر

صحيفة العربي الجديد