الغنوشى والدين والوطن

الغنوشى والدين والوطن

راشد-الغنوشي

من أكثر الاشكاليات التى واجهها المفكرون المسلمون فى مرحلة ما بعد الاستعمار اشكالية الحكم والسياسة والتنظيمات المنبثقة عنهما، فقد وجد المسلمون أنفسهم فى عالم جديد؛ غير معهود بصورته الحالية مع ما فى خيالهم الرومانسى عن التراث والتاريخ الاسلامى الطويل، ولذلك افترضوا المخالفة المطلقة بين الاسلام وتاريخه وشريعته، وبين الواقع الذى لم يشاركوا فى صنعه، وانما ورثوه عن المستعمر الغربي، وقادهم ذلك الى أنماط مرتبكة من التفكير تبدأ من نظرية المؤامرة الغربية على الاسلام والمسلمين فى كتابات أنور الجندى ومحمد عمارة وتنتهى بتكفير الواقع، وكل من يقع فيه مع سيد قطب ومن تبعه من الاخوان وجماعات الجهاد الوظيفي.

فى ظل هذه الحالة الفكرية المرتبكة كان أكثر المفاهيم اضطراباً فى عقولهم، وارباكا للمجتمعات المسلمة هو مفهوم الوطن بمعناه المعاصر الذى يشتمل على حدود واضحة وجنسية وولاء وقسم وقانون وسيادة الخ، فهم لم يعرفوا الا ذلك المفهوم المعنوى الذى لم يشهد تجسيدا قانونيا وسياسيا وهو مفهوم الأمة، أما مفهوم الخلافة الذى انبثق عنه، فكان هو الآخر تعبيراً عن الرابطة المعنوية بين المسلمين.

هذه الرابطة شهدت أكثر تجلياتها وضوحا فى عصر الخلفاء الراشدين؛ حين لم تكن هناك مؤسسات، أو أطر قانونية دولتية تقترب؛ ولو بدرجة معقولة بالواقع المعاصر، ومع نهاية الخلافة الراشدة تحول مفهوم الخلافة الى اطار لشرعنة حكم أسر وعصبيات عربية أو غير عربية، وللأسف لم يتعمق المفكرون المسلمون المعاصرون، فى قراءة الفقه أو التاريخ السياسى والقانونى للمجتمعات المسلمة؛ ليدركوا أن مفهومى الأمة و الخلافة لم يكونا فى يوم من الأيام اطاراً قانونيا لحركة الفرد والجماعة، وانما كانا ولا يزالان رابطة معنوية تجمع مشاعر المسلمين وعواطفهم.

حالة الخلط والارتباك بين المفاهيم التاريخية، والواقع المعاصر قادت الى عملية اسقاط بائسة للتاريخ بكل حمولته على الواقع الاسلامى المعاصر؛ فتم اسقاط مفهوم الخلافة على مفهوم الدولة الحديثة، وتم اسقاط مفهوم الأمة على مفهوم الوطن، وهذا قاد الى حالة من افتقاد الوجهة، والضلال المبين فى فكر الحركات السياسية التى تنسب نفسها للاسلام، خصوصا الجماعة الأم، حركة الاخوان، فقد أربك قادتها واقع المسلمين على مدى أكثر من ثمانين عاما، لأنهم كانوا أكثرَ من أصر على الادعاء بأن مفاهيم الخلافة والأمة هى البديل الاسلامى للدولة والوطن، ومعهما تم اسقاط كل المفاهيم التاريخية على الواقع المعاصر؛ على رغم من تباين الأحوال ، واختلافها جذرياً؛ بل تناقضها.

هذه الحالة من الخلط بين التاريخى والواقعي، بين الأطر المعنوية والتنظيمات السياسية، بين المشاعر والحقوق والواجبات، بين العقيدة والسياسة، قادت الى حدوث حالات التخبط والتشويش التى مرت بها الحركات السياسية المنتسبة للاسلام فى القرن العشرين، فلا هى أدركت فلسفة الدولة المعاصرة، وطبيعة نظم الحكم التى تناسبها، ولا هى استوعبت مقاصد الاسلام فى ادارة شئون المجتمعات، وتدبير الشأن العام، ولكنها خلطت بسذاجة وضعف علم أحياناً، وبانتهازية ودهاء أحياناً أخرى بين كل ذلك فى مزيج لا يقود الا الى الفشل، وارباك المجتمعات، واهدار الطاقات، وخلق حالات متنوعة من الحروب الأهلية الثقافية حيناً، والدموية أحياناً.

والناظر فى حالة الارتباك التى تعيشها المجتمعات العربية التى عرفت ثورات الربيع الذى صار صيفاً حارقاً، يجد أن جوهر الأزمة يتمثل فى الجماعات المنتسبة للاسلام، والتى تحاول استنساخ التاريخ فى الواقع المفارق كلياً لكل معالم المشهد التاريخي، سواء مع حركة الاخوان التى كانت تظن أن الوطن حفنة تراب عفن، وأنه لا قيمة له، وأن الانتماء للأمة ينفى وجوده، وأن الدولة نبت استعماري، يجب هدمه واعادة بنائه، دون فهم لخطورة الهدم، ودون وعى على ما تتطلبه عملية البناء من زمن يمتد لعقود، أو الحركات السلفية الجهادية ومن نتج عنها من القاعدة الى داعش، جميعها تعامل مع الواقع العربى بأقصى درجات السذاجة، وظن أن رفع علم قديم، وكتابة عبارة «خلافة على منهاج النبوة» سوف يعيد التاريخ أربعة عشر قرنا من الزمان كل ذلك حدث، ومازال يحدث بسبب عدم الوعى على الفارق الضخم بين التاريخ الاسلامي، وبين الواقع الذى صنعته الحضارة الغربية فى عصور هيمنتها على العالم منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى اليوم، هذا الفارق الذى يجعل مفاهيم الخلافة ومؤسسات الحكم التاريخية غريبة عن الواقع، وغير قابلة للتطبيق، الا بتدمير الواقع، وقتل الانسان كما تفعل داعش.

وهنا جاءت حنكة الدكتور راشد الغنوشى وبرجماتيته، وقدرته الهائلة على التكيف مع متغيرات الواقع، وفهم السياسة على أنها فن الممكن من أجل التمكين، فقد استوعب الدرس مبكراً على مستوى الداخل التونسي، وتراجع عن صدارة المشهد السياسي، على الرغم من قدرة حزبه على المطالبة بذلك والتمسك به، كل هذا من أجل الحفاظ على المكاسب التى حققتها حركة النهضة، وعدم الدخول فى مواجهة مع المجتمع والدولة والشركاء السياسيين؛ مواجهةً قد تعيد حركته الى نقطة الصفر، وهو الأمر الذى لم يفهمه قادة الحركة الأم فى مصر، لذلك عادوا الى ما دون الصفر.

وعلى الرغم من البرجماتية فى الداخل التونسى الا أن الدكتور الغنوشى حافظ على ايديولوجية الاخوان فى كل ما له علاقة بشئونهم خارج تونس، فساندهم فى ليبيا وسوريا، وناصب مصر العداء بعد خلع الاخوان من الحكم، وظل كذلك الى أن اقتنع بان تنظيم الاخوان فاقدٌ للقدرة العقلية على استيعاب الواقع، وغير قادر على التكيف مع المتغيرات، وكل ما يفعله هو ترديد رطانة لفظية من الادعاء والكذب والشتائم والسباب، والاعتقاد أن ذلك سوف يعيدهم الى الحكم، أو يهزم خصومهم، ظنوا أن معارك السياسة تدار من الفضائيات، وبتوظيف الكذب وانعدام الأخلاق والسباب والشتائمه. هنا كان من الصعب على الغنوشى أن يظل فى تنظيم يخسر كل يوم، ويوصم من ينتمى اليه بما لا يليق بمسلم، أو بانسان كل ثانية.

لذلك قرر الدكتور الغنوشى فك الارتباط بتنظيم الاخوان، والتمييز بين الدين والوطن، وأن الوطن مسألة تنظيمية اجتماعية، والدين أكبر من ذلك وأعظم، فالدين هو مصدر القيم، ومصدر الأفكار التى نحدد بها المقاصد والغايات، ومصدر الاخلاق والمعايير، لذلك لابد أن يكون أرقى وأعلى وأعظم من استخدامه وتوظيفه فى معركة سياسية مع بشر يؤمنون بنفس الدين لذلك جاءت خطوة الغنوشى شجاعة تستحق التقدير والاحترام حين قرر فصل السياسى عن الدينى فى حركته، والابتعاد عن توظيف المساجد فى الصراع السياسى.خطوة فى غاية الأهمية؛ تحتاجها مجتمعات عربية كثيرةة.فمتى يعقلها اخوانه؟

نصر محمد عارف

صحيفة الأهرام