سايكس بيكو… مائة عام من الألفة

سايكس بيكو… مائة عام من الألفة

349
اتفاقية اقتصادية ذات شكل جغرافي وسياسي استثمرت نتائج الحرب العالمية الأولى، وقسمت المنطقة الممتدة من الخليج العربي حتى البحر المتوسط، مناصفةً بين فرنسا وإنكلترا. وفي ذلك الوقت المبكر، لوحظ الاهتمام بفلسطين، فأعطيت لوناً خاصاً، وورد اسم روسيا ليتم التشاور معها بشأن هذه المنطقة. لم يكن بلفور حينها قد أصدر أي وعد، لكن هذه الاتفاقية كانت تمهيداً وبروفةً سياسيةً، لتحديد المصير النهائي للجزء العربي الذي سمي المنطقة سمراء.
جاءت الاتفاقية كالقدر، وسط صمت الإقليم، فترسّخت في ثقافته، حتى أصبحت جزءاً من تراثه الذي لا يتوقف عن تكرار نفسه.
عُدلت، فيما بعد، الاتفاقية والخرائط المرافقة لها، على حساب فرنسا، بعد انتصار كمال أتاتورك على القوات المحتلة، فتقلصت المنطقة الزرقاء، بعد أن سمحت الاتفاقية لتركيا بوضع يدها على جزءٍ خسرته فرنسا من الشريط الساحلي لصالح تركيا، بعد أن تخلت الأخيرة نهائياً عن أحلام الخلافة، بموجب اتفاقية لوزان التي تعد مكملاً لما أنجزه سايكس بيكو.

حصلت تركيا، أيضاً، على شكلها النهائي، ورسمت لها الاتفاقية طابعاً إثنياً، ما زالت تفتخر به. وكان التعديل الثاني بإهمال الفرق بين كلمتي نفوذ وإدارة مباشرة، وامتزجت المنطقة “ألف” بما بقي من المنطقة الزرقاء، والمنطقة “باء” بالمنطقة الحمراء، وساهم هذا التعديل في إعطاء سورية والعراق شكلهما الحالي، وسهّل عملية الإدارة المباشرة من الدولتين الاستعماريتين.
لم تلحظ المعاهدة أي مدة زمنية، وتُركت مفتوحةً، ولم يعنِ فرض توحيد الرسم الجمركي عشرين عاماً أن الاتفاقية محصورة بهذه المدة الزمنية، فشكل الوجود وطريقة الإدارة تدل على النية بإقامة مستمرة ودائمة. كانت الحرب العالمية الثانية عاملاً مهماً في تغيير الخطط الفرنسية والإنكليزية بتأثير أميركا التي لم تكن مدرجةً في حالة الوصاية المباشرة، فخرجت الدولتان المستعمرتان من مناطق سايكس بيكو بعد أن تركتا وراءهما إرثاً واتفاقيات ثنائية، لا تعطي مجالاً للحكومات المحلية أن تتصرف بدون الرجوع إليهما، أو على الأقل استمرار العلاقة الثنائية المميزة التي تمنح الدولة المستعمرة اليد العليا.
كان الرجلان اللذان أنجزا هذا الاتفاق عمليين بدرجة “استعماري قارح”، تعاملا بمهنيةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ عاليةٍ ضمنت مصالح دولتيهما، وبعض الدول المؤثرة كروسيا، من دون الأخذ بالاعتبار وجهة النظر الأميركية، حيث كانت، في ذلك الوقت، دولة جديدة، تبحث عن مناطق نفوذ لها، ووضعت، في اعتبارها، مطالب الحركة الصهيونية التي كانت قد عقدت مؤتمرها الحادي عشر حتى ذلك الوقت. حدّدت الاتفاقية، بدقة، الموانئ والمنافذ الجمركية وطرق تبادل السلع والبضائع وخطوط السكك الحديدية، وتغاضت عن ذكر أي شكلٍ للكيان السياسي الذي يقع في ذلك الحيز، وإمعاناً في التجاهل، أطلقت عليه رموزاً مؤلفة من أحرفٍ وألوان، وكأنها أرض خواء. قضى خروج العراق من حلف بغداد على الوجود البريطاني في المنطقة الحمراء، وتقلّص النفوذ الفرنسي مع توالي الانقلابات في سورية (المنطقة الزرقاء)، لكن ثقافة “سايكس بيكو” لم ترحل، فبقيت المنطقة واقعةً تحت نفوذ الحكومات الانقلابية المسنودة من الاتحاد السوفيتي، حيث طبقت فيها سياسات الأرض الخواء نفسها التي أرساها مهندسا الاستعمار، سايكس وبيكو. ولم يرحل الاتحاد السوفيتي حتى سلَّم راية التدخل إلى الولايات المتحدة التي ظهرت دباباتها تسير بسرعتها القصوى في أرض المنطقة الحمراء، فيما كانت شقيقتها المنطقة الزرقاء (سورية) تنظر بحذرٍ وخوف، ومنطق الأرض الخواء يحيط بها.
مضى القرن الذي طبعه سايكس بيكو، من دون أن يتغير منطق الألوان والحروف الصمّاء، فحالياً يحاول النظام السوري أن يسترجع سيطرته على المنطقة الزرقاء، ويتخلى عن المنطقة “ألف” لصالح داعش التي تستولي عليها مع المنطقة “باء” في العراق، ويحتل النظام العراقي المنطقة الحمراء. وإسرائيل لم تتزحزح عن منطقتها السمراء قيد أنملة، ويشير التاريخ إلى مائة عام بالتمام والكمال مضت على توقيع تلك الاتفاقية.

فاطمة ياسين 
صحيفة العربي الجديد