«مُولد» سيدي «سايكس ـ بيكو»!

«مُولد» سيدي «سايكس ـ بيكو»!

q4rq304r443r4-0-04_0

بطبيعة الأشياء التي هي حدوث كثير من المصائب في الشرق الأوسط، فإن مرور 100 عام على اتفاقية «سايكس – بيكو» كان لا بد أن يأخذ ذلك القدر من الاحتفاء لدى كل من يهتم بالمنطقة. والمنطقة باتت موضع اهتمام كبير، لأنها الآن موطن الصراعات الأعظم في عالمنا، ولأن أسعار البترول فيها انخفضت (القصة كانت أيضًا كبيرة عندما ارتفعت!)، ولأن الآيديولوجيات فيها لم تعد يسارًا أو يمينًا على الطريقة الأوروبية، وإنما باتت مختلطة بالخلطة الحريفة للدين وصراعات السنة والشيعة، وحزمة كبيرة ومتنوعة من الجماعات الإرهابية، وأخرى ملونة بأجناس وأعراق وطوائف متصارعة! اتفاقية «سايكس – بيكو» هكذا كان لا بد لها أن تأخذ مكانها على الخرائط الإعلامية والبحثية العالمية، بعد سنوات طوال كانت هي «الخطيئة الأصلية» في معضلات الشرق الأوسط، خصوصًا لدى جماعة «القوميين العرب» الذين اعتبروها أساس تقسيم الأمة العربية، التي لولاها لكانت الوحدة العربية قائمة ومزدهرة، ولما كان حال العرب كما هو حالهم اليوم. مولد سيدي «سايكس – بيكو» الآن في موعده تمامًا، ولمن لا يعرف فإن «المُولد» في العرف المصري هو احتفال سنوي يقام في ذكرى وفاة، وليس مولد، أحد أولياء الله الصالحين، ولدى المسيحيين فإنه سيكون في ذكرى قديس أو قديسة، وسواء كان المحتفى به أو بها، وهنا أو هناك، فإن التمسك بالذكرى قد يكون له نتائج طيبة في الصحة والرزق والحمل بأطفال أصحاء.

السائد الآن في الكتابات الغربية نوع من الدفاع عن «سايكس – بيكو»، ليس على طريقة القوميين العرب، لأنها منعت العرب من الوحدة، وإنما على طريقة الغربيين، وهي أن الاتفاقية لم تكن مسؤولة عن أي من مشكلات المنطقة. ستيفين كوك وآمريت لهيتا كتبا في دورية «السياسة الخارجية» في 13 مايو (أيار) 2016 مطالبين بأنه لا ينبغي لوم «سايكس – بيكو» على الحالة المزرية للشرق الأوسط (Don›t Blame Sykes Picot for the Middle East Mess)، فهي «بالتأكيد ليست سبب العجز في الإقليم». وتفاصيل ذلك أنه عندما جلس هذان الشخصان لرسم حدود المشرق العربي، فإنهما لم يخترعا حدودًا جديدة، وإنما اعتمدا على التقسيمات الإدارية للدولة للإمبراطورية العثمانية، وهي كذلك لم تخترع الصراعات والكراهيات التاريخية بين جماعات ومذاهب وطوائف، وما فعلته ربما كان أنها أتاحت الفرصة لها للانطلاق على الطريقة التي نشاهدها الآن. وبعد وقبل كل ذلك، فإن الاتفاقية لم تكن حول تعيين حدود الدول، وإنما كانت حول تحديد مناطق للنفوذ لكل من البلدين: بريطانيا وفرنسا.

والأكثر لفتًا للنظر أن راشيل هافرلوك كتبت في دورية «الشؤون الخارجية» في 17 مايو 2016 بعنوان «الأنابيب على الرمال» (Pipelines in the Sand) أن القول إن اتفاقية «سايكس – بيكو» كانت عملاً اعتباطيًا قامت به دول استعمارية من أجل تقسيم الشرق الأوسط وتوزيع مناطق النفوذ فيه، لم يكن معبرًا عن الحقيقة التي كان جوهرها النفط. فالقوى الكبرى في العالم بما فيها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا والإمبراطورية العثمانية كانت تعلم بالوجود الكثيف للبترول في الشرق الأوسط، وقامت بالفعل بتكوين الشركات الكبرى لإنتاجه، ومن ثم باتت قضية إنشاء وحدات سياسية مرتبطة بإنتاج النفط في حقول كركوك، وأنابيب النفط التي كانت سوف تنطلق من هذه الحقول إلى طرابلس في شمال لبنان الآن، وحيفا وعكا في فلسطين. الدول هكذا قامت لكي تصدق وتعطي الشرعية لعمليات إنتاج وتوزيع النفط الذي كانت تقوم به شركات دولية النشاط، من أول شركة البترول العراقية التي لم يكن لها أي صلة بالعراق، وحتى شركة البترول البريطانية «بي بي» و«إكسون موبيل» الأميركية و«شل» متعددة الجنسيات و«توتال» الفرنسية.

جون ألترمان في دورية مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن نحا منحى آخر، عندما وجد أن قيام الدول في الشرق الأوسط لم يختلف كثيرًا عن قيام الدول في بقية العالم، حينما نشأت الدول حول مدن كبرى نجم حجمها عن أنشطة اقتصادية واجتماعية وسياسية أعطتها ثقلاً تاريخيًا مهمًا. فكما أنه لا يمكن تصور الدولة الفرنسية دون باريس أو إيطاليا دون روما أو روسيا دون موسكو أو بريطانيا دون لندن أو ألمانيا دون برلين والنمسا دون فيينا، فإن دمشق أعطت لسوريا نقطتها المركزية، وكذلك بغداد بالنسبة للعراق، وبيروت بالنسبة للبنان، والقدس بالنسبة لكل من إسرائيل وفلسطين. المسألة هكذا هي نتيجة تطور ديموغرافي وتاريخي واقتصادي أكثر منه أحد مخرجات مخططات استعمارية. وجهة النظر هذه لا تجعل معضلة قيام الدول الشرق أوسطية مرتبطًا باتفاقات استعمارية جرت فيما يتعلق بالمشرق العربي خلال الحرب العالمية الأولى، وفي معرض التحضير لمرحلة ما بعد انهيار الدولة العثمانية. فما جرى في الجزيرة العربية وفي وادي النيل والمغرب العربي كان كله مرتبطًا بتطورات تاريخية بعضها يعود لآلاف الأعوام مثل مصر أو لمئات السنين مثل المغرب. والواقع أن فكرة الحدود «الوهمية» التي طالما تكررت فيما يتعلق بخطاب «الشرق الأوسط» القومي الآيديولوجي إذا كان يصدق على المنطقة، فإنه وفق ذات المنطق سوف يصدق على كل دول العالم تقريبًا، التي كانت في الأول والآخر تعبيرًا عن خطوط جرى رسمها على الخرائط، ثم خلقتها حركة الجيوش وربحية التجارة وفاعلية السياسة وتوازنات القوى بعد ذلك.

المدهش أنه عندما جرى البحث في المحرك الإلكتروني «غوغل» خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فإن ستيفين كوك وآمريت لهيتا وجدا فيه 8600 عنوان تكرر فيه «نهاية سايكس – بيكو» أو «Sykes – Pico of the End». والحقيقة أنه لا يمكن فهم الدور الذي لعبته هذه الاتفاقية في تاريخ المنطقة دون وضعها في إطار مجموعة من الاتفاقيات التي لم تكن تقل تاريخيًا عنها، من حيث الأهمية. فقد كان قبلها بعام سلسلة المراسلات المعروفة باسم «حسين – مكماهون» التي جرت ما بين يوليو (تموز) 1915 ومارس (آذار) 1916، والتي تحدثت عن اعتراف بريطاني بحق العرب في قيام مملكة عربية. وبعد ذلك وفي نفس المرحلة التاريخية قام لورد بلفور وزير الخارجية البريطاني في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917 بتقديم ما عرف بعد ذلك بوعد بلفور، الذي وعدت فيه بريطانيا بقيام «وطن قومي» لليهود في فلسطين. وضع المسألة هكذا في إطارها التاريخي يجعل «سايكس – بيكو» عاكسة لحيرة استعمارية لترتيب الأوضاع في منطقة المشرق العربي، وليس الشرق الأوسط، لحماية أوضاع استراتيجية ناجمة عن الانهيار المحتمل للإمبراطورية العثمانية، وأوضاع اقتصادية ناجمة عن اكتشاف النفط وغيره من مصالح. وعلى مدى قرن من الزمان تغيرت أمور كثيرة قامت فيها دول لم يكن لها علاقة بالاتفاقية، أو كان لها اتفاقيات خاصة، وفي كل الأحوال فإن دراسة الواقع الحالي للمشرق العربي وأحواله المؤلمة قد تجعل اتفاقية «سايكس – بيكو» أقل العناصر أهمية فيما آلت إليه الأحوال.

عبدالمنعم سعيد

صحيفة الشرق الأوسط