دونالد ترامب ودرس صادق خان

دونالد ترامب ودرس صادق خان

349

في الوقت الذي كان يتجول فيه المرشح للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب، في ولايات بلاده، حاملاً لواء العداء للمهاجرين والمسلمين، وغيرهم من الأقليات، ومسعّراً موجة العداء لهم بين الأميركيين عموماً، ومؤيديه خصوصاً، فاجأ الناخبون البريطانيون في مدينة لندن الجميع، باقتراعهم لصالح المرشح المسلم، صادق خان، وتنصيبهم إياه عمدة لعاصمة بلادهم. وحيث أن انتخاب خان، المتحدّر من أصل باكستاني، لم يكن سوى تعزيز للديمقراطية التي يفاخر بها البريطانيون، نصوصاً وفعلاً، يُحشِّد ترامب الأميركيين لإبعادهم عن الديمقراطية المُقرّة في النصوص نظرياً، المنتهكة في الممارسة عملياً. ويجيء انتخاب صديق خان وسط تلك المعمعة الأميركية، ربما ليُساهم في فرملة زعيق ترامب العنصري، ويجعل الأميركيين يتفكّرون في المنحى الذي ينحوه بهم هذا المرشح، بينما أبناء عمومتهم على الطرف الآخر من الأطلسي يعطون دروساً في مدى التزامهم بنصوص الديمقراطية التي يزخر بها دستور بلادهم.
لا شك أنه، وفي ظل الخوف الذي اعترى الأقليات في الولايات المتحدة، من أفارقة ولاتينيين وعرب وآسيويين وغيرهم، بعد حملة ترامب، تلقّت الأقليات التي تعيش في بريطانيا، وخصوصاً المسلمة منها، جرعات أمل وتفاؤل وطمأنينة، بعد انتخاب خان. وذلك بعد جرعة الخوف التي اعترتها في أعقاب تفجيرات باريس، ثم تفجيرات بروكسل التي اتُّهم مسلمون في الضلوع في تنفيذها. وعلى الرغم من أن الأقليات في بريطانيا تعيش وسط جو من التعدّدية الثقافية والإثنية اللافتة، إلا أن تلك التفجيرات أحدثت خللاً في نظرة فئات من البريطانيين تجاهها. ومن هنا، كان انتخاب خان حاجة ملحة للمجتمع البريطاني، لكي يعيد التوازن إلى نفسه ويزيل بعضاً من تلك السحابة التي ظللته أشهراً عديدة. وهي حاجة تبينت وتجلت في قول بعضهم إن أهالي لندن اختاروا، بانتخابهم خان، الوحدة بدلاً من الفرقة، والأمل بدلاً من الخوف.
أما المجتمع الأميركي الذي يُحشِّد ترامب الناس فيه حول قضايا، هي أبعد ما تكون عن مطالبهم الاجتماعية التي ترفع مرشحاً أو تخفضه في مجتمعات أخرى، فإن خطورة تصريحاته تتجلى، ليس في أنها قد تساعد في وصوله إلى البيت الأبيض فحسب، بل وفي صبغها هذا المجتمع بالعنصرية وكراهية الآخر، وهذه صبغة يصعب التخلص منها فترات طويلة. وهي تصريحات تأتي في ظل حقيقة أن تأثير الرئيس الأميركي يكاد يقتصر على فترة حملته الانتخابية التي يجيّش فيها الشعب حول قضيةٍ ما، ثم يتركه أسيرها، لينصرف إلى أمور أخرى، أبعد ما تكون عن جوهر حملته. إذ للسياسة الأميركية مشرّعوها وواضعوها ومراكز الأبحاث التي تساهم في إقرارها، حيث تتضاءل قدرة معتقدات الرئيس، أو انتماؤه لأيٍّ من الحزبين في البلاد، في التأثير في تلك السياسة.

وفي هذا السياق، من الصعب النظر إلى الحزبين الأميركيين، الجمهوري والديمقراطي، سوى أنهما جزء من جهاز الدولة التي هي، بدورها، جزء من الطبقة السياسية والعسكرية والاستخبارية والمالية الحاكمة للولايات المتحدة. ولعل التشبيه الأبلغ لشكلهما ووظيفتهما وحقيقتهما هو توصيف المفكر الأميركي، نعوم تشومسكي، لهما بأنهما حزب واحد بجناحين، جمهوري وديمقراطي. وهما بذلك منفّذان لسياسات تلك الطبقة، فلا صبغة متمايزة يصبغها فوز أحدهما على البلاد. حيث أن الفرق الذي يظهره ممثل أحدهما حين توليه رئاسة البلاد تحتمه الضرورة لإيجاد التمايز الشكلي المطلوب بينهما، وهو في النهاية تمايزٌ، لا يُرجى منه تحقيق ما يخالف تلك السياسات. وهذا هو الأمر الفارق بينهما وبين الأحزاب السياسية على الضفة الأخرى من الأطلسي، في بريطانيا، مثلاً.
وفي العودة إلى التوقعات والآمال باحتمال تأثر ترامب بانتخاب صادق خان، لم يركن البريطانيون إلى الكلام عن احتمال حصول هذا التأثر، ومساهمته في تغليب ترامب لمنطق العقل، من أجل تفادي إحداث خلخلاتٍ في المجتمع الأميركي، وزيادة مقدار العنصرية والكراهية فيه. بل وجَّه خان، بعد أيام من انتخابه، دعوةً إلى دونالد ترامب لزيارة لندن، ليقف على حقيقة المسلمين وحياتهم وثقافتهم، وتبنيهم قيم المجتمع الغربي. وعرض عليه مرافقته في جولةٍ تبدأ بالتعرف على أسرته، ولقائه شخصيات مسلمة هناك، لدفعه إلى تغيير وجهة نظره حول الإسلام والمسلمين. وجاءت الدعوة في لقاء أجرته إحدى وسائل الإعلام مع خان، وخاطب ترامب عبرها، موضحاً أن مهمته إثبات أن المسلمين “ليسوا سيئين”. وتأتي هذه الدعوة وسط حالةٍ مزاجيةٍ سيئةٍ تكونت لدى البريطانيين حول ترامب، بعد تصريحاته العنصرية الكثيرة، وتجلت أكثر ما تجلت في تصريح رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حين قال: “أعتقد أن تصريحات ترامب مثيرة للانقسام وغبية وخاطئة، وأعتقد أنه إذا جاء لزيارة بلادنا، فإن ذلك سيوحدنا جميعاً ضده”.
لا يمكن لدونالد ترامب قبول دعوة صادق خان، فالرجل بنى قاعدته وشعبيته على قاعدة العداء للمسلمين وغيرهم، وعلى قاعدة الكراهية التي تزيد أسهمه كلما زادت حدّتها. ودعوات، من قبيل دعوة خان، ستكون بمثابة القطع مع سياق الكراهية والعنصرية اللتين يزيد ترامب من حدّتهما، لحصد مزيد من الشعبية، وبالتالي، مزيداً من أصوات الناخبين. والزيارة، إن حصلت، لن تفعل سوى جعل الرجل يغير من لغة خطابه المباشرة، إلى لغة خطابٍ غير مباشرة، تحافظ على ما اكتسبه من شعبيةٍ، وتكسبه أصوات من سيصدقون أنه بدّل ما لا يستطيع، أو ما لا يريد، تبديله.

مالك ونوس

صحيفة العربي الجديد