المنطقة الخضراء بين اقتحامين

المنطقة الخضراء بين اقتحامين

258618_0

تضم المنطقة الخضراء، شديدة التحصين، المقار الرسمية الأكثر أهمية. وتعد واحدة من أبرز رموز السلطة ما بعد احتلال العراق عام 2003، وواحدة من نتاجاته أيضا، فالتسمية Green Zone كانت توصيفا أمريكيا لهذه المنطقة التي اختارتها سلطة الائتلاف المؤقتة مقرا لها، مقابل المنطقة الحمراء التي كانت تحدد مناطق بغداد الاخرى.
ظلت المنطقة الخضراء بعد انسحاب القوات الامريكية نهاية عام 2011، على حالها، رمزا للسلطة القائمة في العراق، وتحولت من كونها مقرا لسلطة احتلال، إلى مقر لسلطات عراقية منتخبة، ولكن لم يتغير شيء في طبيعة التحصينات القائمة، أو في طريقة التعاطي مع أبناء «المنطقة الحمراء» التي أصبحت تمثل العراق كله هذه المرة.
بعد أحداث 30 أبريل حين اقتحم المتظاهرون المنطقة الخضراء، تكشفت حقائق كثيرة عن بنية الدولة وطبيعة الصراع، فالاقتحام لم يكن بالصعوبة التي تفترضها شدة التحصين في هذه المنطقة، بل كان «دخولا سلسا»، بسبب تخلي القــــوات الامنية، طوعا أو طاعة لأوامر مباشرة، عن واجباتها في حماية المكان. ليس هناك ما يثبت أن العبادي هو من أمر مباشـــرة بعدم التعرض للمتظاهرين، ولكن عضو مجلــس النواب العراقي حاكم الزاملي؛ وهو رئيس لجنة الأمن والدفاع فيه، والقائد الفعلي لعملية «الدخول السلس» للمنطقة الخضراء، أكد أن قائد عمليات بغداد «كان متعاونا جدا» فيما يتعلق بحماية المتظاهرين وأنه «لم يصدر أوامره لعناصر الجيش بمنع المتظاهرين بالقوة».
ولكن متابعة ما صدر عن الدكتور العبادي بعدها، تكشف عن تحولات «ضمنية» في طبيعة الخطاب تجاه هذه العملية، بسبب ردود الفعل الرسمية الغاضبة تجاه التجاوزات التي حصلت، تحديدا فيما يتعلق بالاعتداء على بعض النواب من سيئي الحظ الذين حوصروا أو طالتهم أيدي «المتظاهرين».
إن مراجعة المصطلحات والعبارات التي اعتمدها العبادي بين يوم الاقتحام، والأيام اللاحقة، تكشف عن مسار هذا التحول؛ ففي ليلة الاقتحام أصدر العبادي بيانا مقتضبا دعا فيه المتظاهرين الى العودة إلى المناطق المخصصة للتظاهر، والالتزام بالسلمية، وعدم التجاوز على الممتلكات العامة والخاصة ومؤسسات الدولة، لكنه عاد بعد خمسة أيام ليحذر في خطاب متلفز من استغلال هذه المظاهرات السلمية لجر البلاد إلى الفوضى والسلب والنهب والتخريب، مشيرا الى ما حصل من اعتداء على مجلس النواب واعضائه، لينتهي إلى أنه وجه بالتحقيق في حوادث الاعتداء وملاحقة مرتكبيها.
وقد أشار خطاب العبادي ضمنا إلى الاتهامات بمسؤوليته عن هذا الاقتحام، عندما أكد انه استخدم أقصى درجات الحكمة وضبط النفس كي لا يتفاقم الوضع وتراق الدماء، وأن «البعض» استغل هذا الصبر والحكمة فتجاوز الحدود. المرة الثالثة جاءت بعد شهر تماما، ففي بيان مقتضب تم التأكيد على التوجيهات الصادرة عن العبادي شخصيا إلى وزير الداخلية بملاحقة العناصر التي اعتدت على القوات الامنية والنواب وخربت الممتلكات العامة.
وكما هو واضح لا تقدم الإشارات الثلاث الواردة أي توصيف للمقتحمين سوى انهم متظاهرون، والاهم أنه لم ترد أي إشارة إلى رفض أو إدانة لعملية الاقتحام نفسها، فالاعتراضات انصبت على الأفراد الذين قاموا بالاعتداء على القوات الامنية وأعضاء مجلس النواب، وأولئك الذين قاموا بالتخريب.
في الاقتحام الثاني الذي جاء بعد مرور خمسين يوما على الاقتحام الاول، تغير الأداء، وتغير الخطاب، فالقوات الأمنية اعتمدت هذه المرة كل وسائل الردع التي تمتلكها، بما فيها الرصاص الحي. وجاءت كلمة العبادي لتستخدم المصطلحات والاتهامات نفسها التي سبق لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي أن استخدمها لتوصيف أول حركة احتجاج واسعة في فبراير 2011، التي جاءت في سياق حركات احتجاج الربيع العربي. فالعبادي أشار صراحة إلى أن اقتحام مؤسسات الدولة لا يمكن القبول به أو التهاون مع مرتكبيه. متحدثا هذه المرة عن «مؤامرة» يديرها «مندسون بعثيون متحالفون مع الدواعش المجرمين»، وأن ثمة أهدافا سياسية للمقتحمين منها جر البلاد إلى الفوضى، وتعطيل زخم الانتصارات العسكرية.
السؤال هنا ما الذي حدث لتتحول القوات الامنية من متفرج إلى فاعل عنيف؟ ويتحول الخطاب المرن والمتسامح إلى خطاب تحريض واتهام؟
الجواب على هذا يستدعي الرجوع الى موضوع كابينة التكنوقراط التي طرحها رئيس الوزراء يوم 31 مارس، التي عــــرفت بكابــــينة المغلف الأبيض. التي حظيت بدعم التيار الصدري حينها، وقد جاء الاقتحام بعد ان عجز مجلس النواب عن تمرير هذه الكابينة.
من هنا كان الجميع يعلم ان المقتحمين هم أنصار التيار، وأنها حركة مسيطر عليها، ولها هدف محدد، في محاولة صريحة من التيار الصدري استخدام قدرته على التحشيد لفرض رؤيته السياسية التي كانت تلتقي مع الرؤية السياسية للعبادي! فكلاهما كان هدفه المعلن: التصويت على كابينة المغلف الأبيض.
وبالتأكيد لا يمكن عزل هذه المسألة عن طريقة أداء القوات الامنية، فالقوات الامنية التي عرفت بقسوتها المفرطة في التعاطي مع حركات الاحتجاج السلمي، بدءا من فبراير 2011، مرورا باحتجاجات الجغرافيا السنية، وصولا إلى احتجاجات ما بعد يوليو 2015، وجدناها تنسحب أمام المتظاهرين العابرين لجسر الجمهورية باتجاه المنطقة الخضراء يوم 18 مارس، وتسمح للسيد مقتدى الصدر ان يدخلها ليعتصم داخلها يوم 27 من الشهر نفسه، والجميع شاهد آمر حماية هذه المنطقة، الفريق الركن محمد رضا وهو يقبّل يد السيد مقتدى الصدر عند بوابة المنطقة الخضراء!
في الاقتحام الثاني كنا أمام أكثر من متغير؛ فالمتظاهرون الذين قادوا حركة الاحتجاج منذ يوليو 2015، الذين فرضوا على الجميع مقولة الإصلاح، بعد الدعم الصريح الذي حصلوا عليه من المرجع الأعلى السيد السيستاني استعادوا زخمهم مع دخول التيار الصدري حركة الاحتجاج، بعد أن كادت مظاهراتهم تتحول إلى هايد بارك يحضره جمهور محدود من الناشطين أيام الجمع اسبوعيا، وحاولوا هذه المرة إثبات أنفسهم بعد أن استثمر الصدريون حركة الاحتجاج لأهداف سياسية خاصة بهم، وخاضعة لتوجيهات مركزية من السيد مقتدى الصدر شخصيا. وعلى الرغم من أن حركة الاحتجاج قد عادت إلى وضعها السابق بعد انسحاب جمهور الصدريين للتظاهر في مناطقهم، تبعا لتوجيهات الصدر، إلا أن التفجيرات الأخيرة، تحديدا في مدينة الصدر، معقل التيار الصدري الرئيسي، أعادت بعض هؤلاء مرة ثانية إلى ساحة التحرير من دون أوامر مباشرة هذه المرة، ليتحول الامر إلى قرار ارتجالي بعبور جسر الجمهورية والوصول إلى المنطقة الخضراء.
اما المتغير الثاني فقد كان أداء القوات الأمنية؛ الذي كان مرتبكا نتيجة أمرين: عدم توقع عبور المتظاهرين جسر الجمهورية، ثم اقتحام المنطقة الخضراء، لذلك كان ثمة استرخاء أمني. أما الأمر الثاني، وهو الأهم، فهو خشية هذه القوات من أن يكون التيار الصدري وراء هذا التحرك، كما في المرة الأولى، وعندما تبين ان المتظاهرين لا يمثلون الصدريين كان العنف سيد الموقف. وهو ما يعيد طرح الأزمة الجوهرية المتعلقة ببنية هذه القوات وآليات اتخاذ القرار الأمني.
المتغير الثالث كان في الاتهامات التي بدأت تترى حول المتظاهرين، منذ اللحظة الاولى لاكتشاف أنهم في مجملهم متظاهرون مدنيون، وهي اتهامات قد تتبعها اجراءات تعسفية بدأت بوادرها مع ورود معلومات عن اعتقالات في صفوفهم.

يحيى الكبيسي

صحيفة القدس العربي