الصراع غير المتكافئ على مناطق النفوذ

الصراع غير المتكافئ على مناطق النفوذ

خريطة_التفاوت_في_التقدم_في_العالم

يعرف قاموس كولنز الإنجليزي منطقة النفوذ، بأنها المنطقة التي تخضع لنفوذ دولة واحدة. ولكن هذا التعريف المبتسر لا يخبرنا، بشيء عن طبيعة المنطقة، أو عن الدولة النافذة أو عن نمط النفوذ الذي تتمتع به هذه الدولة. بقيت هذه الأسئلة مطروحة على مسرح السياسة الدولية وتعددت الإجابات عليها ولكن دون التوصل إلى جواب يشبع فضول المسؤولين والمعنيين بقضايا العلاقات الدولية ومصير النظام العالمي. ويشتد اليوم نهم هؤلاء إلى توضيح مفهوم مناطق النفوذ، لأن هذه المسألة تدخل في صلب خيارات الحرب والسلم ومستقبل البشرية. وليس في ذلك مبالغة، إذ إن العالم خاض حربين عالميتين خلال القرن الماضي كلفتا البشرية زهاء 85 مليون قتيل، هذا عدا أضعاف هذا الرقم من الجرحى والمتضررين بصورة مباشرة من الحربين. وفي الظروف الراهنة، وأخذاً بعين الاعتبار التصاعد المستمر في التوترات الدولية يرقب كثيرون مآل التنافس على مناطق النفوذ في العالم ويخشون أن يقود إلى انفجارات كبرى تطيح بأمن البشرية ومصيرها.
لقد كانت الحربان، إلى حد بعيد، صراعاً بين القوى الكبرى على مناطق النفوذ في العالم. واقترن مفهوم «مناطق النفوذ» بالكثير من المعاني والمضامين السلبية مثل مفاهيم التراتبية والقوة والداروينية الاجتماعية وكلها متعارضة مع مبادئ المساواة والسلام والتعاون بين الأمم. وسلطت الأنظار على هذه المفاهيم عندما تأسست هيئة الأمم المتحدة إذ طالبت القوى الكبرى المنتصرة بتقسيم العالم وتقاسمه بين القوى الثلاث المنتصرة في الحرب. فتصدت الدول الأعضاء المتوسطة والصغرى لهذا المشروع وحذرت من تعارضه مع القيم الأخلاقية والإنسانية، أي مع القيم التي استندت إليها القوى الكبرى في حربها ضد دول المحور.
ورغم أن القوى الكبرى حققت الجزء الأكبر من مشروعها، خاصة بعد بدء الحرب الباردة، إلا أن الحملة التي قادتها الدول المتوسطة والصغرى لم تذهب سدى إذ إنها ساهمت في تكوين رأي عام عالمي يناهض فكرة مناطق النفوذ المحجوزة لأمر الدول الكبرى. وتعزز هذا الاتجاه العالمي بقيام حركة عدم الانحياز، والحركات الداعية إلى السلام العالمي ومناهضة التسلح النووي التي ساهمت في لجم التشنجات الدولية وخففت من احتمالات حصول حرب عالمية ثالثة.
انطلاقاً من هذه النظرة إلى «مناطق النفوذ»، يجد البعض في موقف الولايات المتحدة تجاه السياسات التي تنتهجها روسيا في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، والصين في جنوب شرق آسيا، مسوغاً لدعم الموقف الأمريكي. فروسيا تسعى إلى استعادة نفوذها في الدول والجمهوريات والكيانات التي خرجت من الاتحاد السوفييتي ودول حلف وارسو. والصين تسعى إلى توطيد دورها الإقليمي والدولي. وإيران تسعى إلى إحياء الدور الذي تمتعت به حكومة شاه إيران إذ اضطلعت بما كان شبيهاً بدور الوكيل الإقليمي نيابة عن الولايات المتحدة في منطقة الخليج، فتدخلت عسكرياً في جنوب الخليج وفي شمال العراق.

تقف واشنطن ضد هذه المساعي والمحاولات، أي ضد قيام وتكريس مناطق نفوذ تابعة لدول كبرى مثل الصين وروسيا. يبرز هذا الموقف في تقديم الإدارة الأمريكية الدعم والعون لبسط حمايتها على الدول الداخلة في نزاعات مع الصين وروسيا وفي تقديمها الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لهذه الدول تشجيعاً لها على اتخاذ مواقف متصلبة ضد البلدين كما هو الأمر مع فيتنام واليابان وأوكرانيا.

ففي أي سياق تأتي هذه المواقف؟ هل تأتي في سياق معارضة تقسيم العالم إلى مناطق النفوذ تتزعمها الدول الكبرى وبعض الدول المتوسطة؟
إن الموقف الأمريكي من هذه المسألة يأتي خارج هذا السياق. وهو اليوم وبمنطق التنافس بين القوى الكبرى أكثر خطورة بكثير من «قواعد الاشتباك» التي كانت تضبط العلاقات بين الجبارين الدوليين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق إبان الحرب الباردة. ففي تلك المرحلة، وعلى الرغم من أجواء الحرب الباردة، دأب كل من الجبارين الدوليين على احترام المصالح الاستراتيجية لبعضهما البعض سواء داخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أو داخل مناطق النفوذ التابعة لهما. فخروج يوغسلافيا من المنظمات الأممية التابعة لموسكو وامتناعها عن الانضمام إلى حلف وارسو لم يكن نتيجة تدخل أمريكي سافر، بل نتيجة تطور داخلي في يوغسلافيا، كما أن ثورة كوبا بقيادة كاسترو لم تكن بدافع أو تخطيط تدخل روسي بل نتيجة تطور داخلي.

بالمقارنة مع هذا النمط من العلاقات، فإن واشنطن تتدخل اليوم وباندفاع لضم الدول والجمهوريات التي كانت تشكل جزءاً من المعسكر الشرقي إلى حلف الأطلسي، وتعرقل علناً المحاولات التي تبذلها روسيا من أجل إحياء منطقة النفوذ التي كانت تتبعها. كذلك تبذل واشنطن كل جهد، وفي إطار سياسة «التمحور» من أجل تأليب دول جنوب شرق آسيا ضد الصين، وتقف موقفاً سلبياً من المشاريع الصينية التي تعزز نفوذ بكين الإقليمي والقاري مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.

إن سياسة واشنطن التي تتبعها تجاه مناطق النفوذ التي تتطلع موسكو إلى استعادتها وبكين إلى تكوينها تدل، إلى حد بعيد، على حوافز السياسة الأمريكية الخارجية، ولكن حتى نستكمل هذه الصورة فإنه من الضروري أن نعود إلى السياسة الأمريكية تجاه أوروبا. فهنا نجد حرصاً على أمركة أوروبا، كما يقول جورج ويل، المعلق الأمريكي البارز، انطلاقاً من أمركة الحلف الأطلسي. لقد نشأ هذا الحلف من أجل الدفاع عن دول أوروبا ووحدة أراضيها، ولكن الولايات المتحدة تحث الحلف اليوم على التدخل خارج القارة.
إن موقف واشنطن تجاه مناطق النفوذ التي تسعى بعض القوى الكبرى الأخرى إلى تكوينها ليس مستمداً من القيم التي ارتكزت إليها هيئة الأمم المتحدة والشرعية الدولية. إنه ليس مستمداً من قيم المساواة بين الأمم والشعوب وبطلان منطق هيمنة الكبير على الصغير. إنه موقف مستمد من نزوع إلى الهيمنة وإلى التحكم الاستبدادي بالمجتمع الدولي عن طريق تهميش المنافسين المحتملين. إذ تسلك واشنطن هذا الطريق في عهد باراك أوباما الذي أوصلته إلى البيت الأبيض أصوات الملايين من الأمريكيين المتنورين والمناهضين للحروب، فهل يمكننا أن نتصور السياسة التي يسلكها دونالد ترامب إذ قيض له أن يصل إلى البيت الأبيض؟

رغيد الصلح

 صحيفة الخليج