العراق: الفشل في الإصلاح يجعل مصير حكومة العبادي رهن التوازنات السياسية

العراق: الفشل في الإصلاح يجعل مصير حكومة العبادي رهن التوازنات السياسية

349

لا تزال الأزمة السياسية في العراق تتفاعل، منتجة أزمات فرعية غير ذات صلة بمطالبات الحراك السياسي الذي ، عند انطلاقته في شباط/ فبراير 2016، حول فكرة تشكيل حكومة تكنوقراط، وإضعاف قبضة القوى الحزبية على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد. ومن تلك الأزمات، مثلًا، الجدل الذي ثار حول شرعية الجلسة التي ترأسها النائب عدنان الجنابي في منتصف نيسان/ أبريل الماضي، وصوّت فيها عددٌ من النوّاب لإقالة هيئة رئاسة البرلمان[1]، أو الخلاف الذي نشأ بين التيار الصدري وتحالف القوى الكردستانية، بعد اقتحام الجمهور مبنى مجلس النواب يوم 30 نيسان/ أبريل، وتهجمه على عددٍ من النواب، ومنهم النائب الثاني لرئيس المجلس، آرام شيخ محمد، والنائب عن كتلة “التغيير” الكردستانية؛ ما أفضى إلى انسحاب النوّاب والوزراء الأكراد من بغداد، واشتراطوا تقديم اعتذار رسمي من التيار الصدري من أجل عودتهم، وهو الأمر الذي أدى إلى تعطّل انعقاد جلسات البرلمان.


وأد أيّ محاولةٍ للإصلاح

يمكن الاستنتاج عمومًا بأنّ الأزمات الفرعية التي تمت الإشارة إليها لا تعدو كونها محاولةً لاحتواء تحدي فكرة حكومة التكنوقراط لسيطرة الأحزاب السياسية على الحكومة ومفاصل العمل العام، وتهديدها شبكة المصالح التي بنتها منذ سقوط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003. ومن ثمّ، كانت وظيفة هذه الأزمات هي نقل القضية إلى مجالاتٍ جديدةٍ مختلفةٍ كليًا عن منشئها الأول. ومن المنطلق نفسه، يمكن الاستنتاج أيضًا أنّ حالة الشلل السياسي الناتج من هذه الأزمات هي جزءٌ من هذه الإستراتيجية؛ إذ افتقدت الحكومةُ والبرلمان القدرةَ على الانعقاد، بسبب عدم تحقّق النصاب اللازم لعقدهما، وهو الأمر الذي فرضه الانقسامُ السياسي الذي جعل بعضَ الأطراف السياسية تمتنع عن حضور جلسات مجلسي الوزراء والنواب.

ولكنّ الأمر لا يقف عند حدّ محاولة وأد فكرة حكومة التكنوقراط وإجهاض ضغوط الشارع تجاه إطلاق مبادرة جدية للإصلاح، فقد غدا الحديث الآن يتناول أيضًا مصير حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي وقدرته على الاستمرار في قيادة البلاد في ضوء عجزه عن تنفيذ أيٍ من وعوده الإصلاحية التي جاءت في البرنامج الذي نال على أساسه الثقة في مجلس النواب في أيلول/ سبتمبر 2014، ثمّ فشله في المضي في مبادرته الإصلاحية التي أطلقها في آب/ أغسطس 2015، وأخيرًا عجزه عن تشكيل حكومة تكنوقراط، أو حكومة كفاءات مستقلة، نتيجة خضوعه لضغوط القوى السياسية والحزبية التي تمسكت بدورها بتسمية مرشحيها لتولي المناصب الوزارية في أيّ تشكيلة حكومية.

ونتيجة لذلك، يفقد العبادي تدريجيًا الدعم الذي حازه عند نيل حكومته الثقة في البرلمان لإصلاح النظام السياسي، بعد أن كشف سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” في حزيران/ يونيو 2014 عن عمق الأزمة التي يعانيها هذا النظام. كما أنه أضحى يفقد حتى دعم المرجعية الدينية في النجف التي أعلنت مطلع شباط/ فبراير الماضي، عن توقفها عن ابداء رأيها في الوضع السياسي العام، الأمر الذي فُسّر على نطاق واسع بأنه رسالة للعبادي برفع الدعم عنه[2]، علمًا أنّ مرجعية النجف الدينية كانت الطرف الأكثر تأييدًا لمجيء العبادي وبرنامجه السياسي، غير أنها لم تعد متحمسة لدعم تغييرٍ غير مضمون النتائج، ويقود إلى الفوضى، في رأيها.


التقلب بين الصدر والحكيم

إنّ تفكّك الجبهة الشيعية الداعمة للعبادي يهدد قدرته على الاستمرار في قيادة الحكومة، وكانت هذه الجبهة مكوّنة من التيار الصدري والمجلس الأعلى الإسلامي، وكانت إحدى النتائج الأساسية للأزمة الأخيرة هي انفراط عقد هذا التحالف وانقسامه بين موقفين مختلفين ومتناقضين تمامًا؛ إذ قاد التيار الصدري دعوة تشكيل حكومة تكنوقراط، لا تسيطر عليها الأحزاب، وهو ما رفضه المجلسُ الأعلى بالكامل، وقاد مبادرة مناقضة، عرفت باسم “وثيقة الإصلاح” تنص على أن يكون الوزراء مهنيين، ولكن ترشِّحهم الكتل السياسية[3]. ويجعل هذا الوضع العبادي من دون غطاءٍ برلماني أو، في أحسن الأحوال، مدعومًا من كتلة برلمانية ضيقة.

ونتيجةً لتفكك هذه الجبهة أيضًا، أخذ العبادي يتقلب في مواقفه السياسية بين الطرفين؛ ما أساء إلى صدقيته وسمح بالتشكيك في جديته وقدرته على تحقيق التزاماته. فخلال مدة قصيرة، تنقّل العبادي في مواقفه بين قبول دعوة الصدر بتشكيل حكومة تكنوقراط، ثم التوجس من نتائجها بعد أن هدّد الصدرُ باقتحام المنطقة الخضراء، ثم ذهب باتجاه طلب الثقة لتشكيلةٍ وزاريةٍ تتكوّن من كفاءات غير حزبية، ملتزمًا بالمهلة التي حددها الصدر، إلا أنه قرر بعد ذلك التوقيع على “وثيقة الإصلاح” التي نصت على “حق” القوى السياسية في ترشيح الوزراء، ثمّ عاد بعدها إلى طرح تشكيلته الوزارية الأولى، بضغوط من الصدر، ونال على أثرها خمسةٌ من أعضائها الثقة في البرلمان، لكنّ العملية برمتها توقفت بعد ذلك نتيجة توقف البرلمان عن عقد جلساته بعد أزمة محاولة عزل رئاسة البرلمان، ثم اقتحامه.

إنّ افتقاد العبادي إلى موقفٍ واضحٍ ومحدد، وخضوعه للتجاذب بين تياري الصدر والحكيم، وتنقله بين الموقفين، من دون رؤية محددة، وهو صاحب المنصب التنفيذي الأول، لا يمكن أن يُفسَّر إلا بضعفه وخضوعه لنفوذ أطراف سياسية متناقضة، ما يُفقده القدرة على الحكم والحسم في ملفات أساسية، كما يُفقد الأطراف نفسها إمكانية الاعتماد عليه. وفي النتيجة، أظهر الحراكُ السياسي الراهن العبادي بمظهر الضعيف والعاجز والمفتقد للمبادرة.


التوازنات السياسية

ومع أنّ هذه النتيجة ستتحكّم بمصير العبادي السياسي وبإمكانية استمراره على رأس الحكومة لمواجهة تحديات عسيرة ومركبة يواجهها العراق، يبقى مصيرُه السياسي متعلقًا أيضًا بطبيعة التوازنات السياسية السائدة على الساحة العراقية ومواقف الأطراف الإقليمية والدولية من حكومته. وعلى الأرجح، سيكون مصير العبادي وحكومته محل صراع بين طرفين شيعيين: التيار الصدري من جهة، والمجلس الأعلى وتيار المالكي من جهة أخرى، وبخاصة أنّ ثمة مؤشرات ترجّح حصول تقارب بين تياري المالكي والحكيم، يستهدف تنحية العبادي والمجيء ببديل متوافق عليه بين الطرفين، إما من داخل “ائتلاف دولة القانون” (مثل هادي العامري وطارق نجم)، أو من المجلس الأعلى (مثل عادل عبد المهدي)، ليرأس مجلس الوزراء لمدة سنة واحدة، يجري الإعداد خلالها لانتخابات مبكرة[4].

وسوف تؤدي أيّ خطوة فعلية في هذا الاتجاه، على الأرجح، إلى تمسّك التيار الصدري ببقاء العبادي، كما سيصطدم مشروعُ تنحية العبادي بمعارضة المرجعية الدينية في النجف، بما لا يسمح من جهة بالتوافق على شخصية بديلة، ويعمّق من جهة أخرى حدّة الانقسام في معسكر القوى الشيعية.

كما أنّ الأطراف الإقليمية والدولية أعلنت، بوضوح، عن دعمها للعبادي، خشية تغييرٍ قد يهزّ المؤسسة السياسية العراقية. وقد عبّرت الولايات المتحدة عن موقفها الداعم للعبادي بوضوح من خلال التصريحات والمواقف التي أدلى بها كبارُ المسؤولين الأميركيين، وكذلك زيارة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى بغداد، في أواخر نيسان/ أبريل الماضي، وهي أول زيارة له منذ انسحاب القوات الأميركية من العراق أواخر عام 2011، وثالث زيارة يقوم بها مسؤول أميركي كبير في شهرٍ واحدٍ للقاء العبادي، إلى جانب زيارتي وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع آشتون كارتر. وقد وصف البيتُ الأبيض زيارة بايدن إلى العراق بأنها مؤشر على الدعم الأميركي للعبادي[5].

ويبدو أنّ الولايات المتحدة تخشى من أنّ تغيير العبادي سيربك خططها في الحرب على تنظيم “داعش”، الذي أصبح جوهر التخطيط الإستراتيجي الأميركي في المنطقة، ولا سيما في العراق وسورية.

كما تعارض إيران فكرة تغيير العبادي، وهو ما يبدو كتفاهم ضمني أميركي – إيراني جديد حول العراق. ومع أنّ إيران عارضت، في البدء، دعوة العبادي إلى تشكيل حكومة تكنوقراط، فقد عادت لاحقًا لتعارض سحب الثقة منه، انسجامًا مع عنصر ثابت في الإستراتيجية الإيرانية تجاه العراق ما بعد عام 2003، والذي يتمثل بدعم وجود جسم سياسي شيعي موحّد، تعتقد إيران أن نفوذها في العراق يتأتى من استمراره[6].

وإزاء هذه المواقف الداخلية والإقليمية والدولية، يُرجح أن يستمر العبادي في أداء مهماته على رأس حكومة ضعيفة حتى عام 2018 تقوم على توافق دولي خوفًا من الفوضى، ولا تقوم على دعمٍ محلي، بحيث يتمّ خلال هذه الفترة إجراء تعديلات شكلية عليها، فيما تستمر الكتل السياسية في الهيمنة على مفاصل القرار والتسابق لتعزيز نفوذها استعدادًا لاستئناف الصراع على هوية الزعامة الشيعية العراقية القادمة، والتي ستبرز بقوة في الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في ذلك الوقت.


[1] “البرلمان يقيل رئاسته ويختار الجنابي بدلًا من الجبوري”، المدى برس، 14/4/2016، في:

http://bit.ly/1OReJde

[2] “توقف المرجعية عن موقفها الأسبوعي من السياسة يضع الحكومة أمام خطر التظاهرات الشعبية”، جريدة العالم، 19/5/2016، في:

http://bit.ly/1qNylo1

وكذلك: “سياسيون وناشطون في ذي قار: توقف المرجعية عن الخطبة السياسية تحذير للحكومة وعليها عدم التخلي عن الشعب بمحنته”، المدى برس، 9/2/2016، في:

http://bit.ly/25YTgV1

[3] انظر النص الكامل لـ “وثيقة الإصلاح” في: “المدى برس تنشر مبادرة المجلس الأعلى لحل الأزمة السياسية في البلاد”، المدى برس، 4/4/2016، في:

http://bit.ly/1MrLdK5

[4] “تقارب بين ائتلافي المالكي والحكيم لاستبدال العبادي بـعبد المهدي، الغد برس، 6/5/2016، في:

http://bit.ly/1TyQd0p

وكذلك:  “اتفاق بين الحكيم والمالكي على إزاحة العبادي”، جريدة الدستور،6/5/2016، في:

http://www.dostor.org/1057801

[5] “White House says Biden’s visit is a good indication of U.S. support for Iraq,” Reuters, 28/4/2016, at: http://reut.rs/1TNFETu

[6] “إيران ترسل سليماني إلى بغداد لدعم خطة العبادي الإصلاحية وضبط توازنات البيت الشيعي”، جريدة الشرق الأوسط، 23/2/2016، في:

http://bit.ly/1ORfkM3

                                                                                                          المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات