اندماج الحضارات: أسباب للتفاؤل العالمي

اندماج الحضارات: أسباب للتفاؤل العالمي

56d49960ff7b8315589c6b100d4fee71f2c5f1b2

يبدو المزاج في الكثير من أنحاء العالم قاتماً هذه الأيام. ثمة الاضطرابات في الشرق الأوسط، والتي تنتج مئات الآلاف من القتلى وملايين أخرى من اللاجئين؛ وثمة الهجمات الإرهابية العشوائية التي تشن في جميع أنحاء العالم؛ والتوترات السياسية في أوروبا الشرقية وآسيا؛ ونهاية الدورة الفائقة للسلع الأساسية؛ وتباطؤ النمو في الصين؛ والركود الاقتصادي في العديد من البلدان -والتي تضافرت جميعاً لتغذية شعور بالتشاؤم العميق إزاء الحاضر، وتوقع الأسوأ إزاء المستقبل.
مع ذلك، يحتمل أن يصاب المؤرخون الذين سينظرون وراءً إلى هذا العصر من موقع الأجيال المقبلة بالحيرة إزاء المشاعر الحالية المنتشرة من الكآبة والشؤم. فوفق معظم المقاييس الموضوعية لرفاه الإنسان، كانت العقود الثلاثة الماضية هي الأفضل في التاريخ على الإطلاق. الآن يتمتع المزيد من الناس في المزيد من الأماكن بحياة أفضل من أي وقت مضى. وليس هذا من قبيل الصدفة، وإنما لأن ما حدث في الأجيال الأخيرة -على الرغم من نذير صموئيل هنتنغتون- لم يكن صراع حضارات، وإنما كان اندماج حضارات.
ببساطة أكبر، أصبحت لدى الحضارات العالمية الكبرى، التي كانت لها هويات منفصلة ومستقلة، مناطق تزداد تداخلاً واندماجاً باطراد من القواسم المشتركة. وأصبحت لدى معظم الناس في جميع أنحاء العالم الآن نفس تطلعات الطبقات الوسطى الغربية: إنهم يريدون أن يحصل أولادهم على تعليم جيد، وأن يستقروا في وظائف جيدة، ويعيشوا حياة سعيدة ومنتجة كأعضاء عاملين في مجتمعات سلمية ومستقرة. ذلك، وبدلاً من الاكتئاب، ينبغي أن يكون الغرب بصدد الاحتفال بنجاحه الهائل في حقن العناصر الرئيسية من رؤيته العالمية في تكوينات الحضارات العظيمة الأخرى.
الآن، أصبحت مسيرة العقلانية التي أطلقها عصر التنوير في الغرب، تنتشر على مستوى العالم، وبطريقة أفضت إلى ظهور ثقافة حل المشكلات على أساس براغماتي في كل منطقة ومكان، وجلعت من الممكن أن نتصور ظهور نظام قائم على قواعد ثابتة ومستدامة. وبالإضافة إلى ذلك، ثمة كل الأسباب للاعتقاد بأن العقود القليلة المقبلة ربما تكون أفضل للبشرية من العقود الماضية -بما أن الغرب لا يفقد الثقة في قيمه الأساسية، ولا يتراجع عن الانخراط والمشاركة العالمية. وبذلك، يكون أكبر خطر يعرضه التشاؤم الحالي هو أن يصبح نبوءة محققة لذاتها، على نحو يؤدي إلى تغليب نوازع الخوف والانسحاب على الانخراط ومحاولة إنعاش النظام العالمي القائم.
يكمن أصل ما يحدث في العصر الحديث في تحولات الغرب خلال عصر النهضة، والتنوير، والثورة الصناعية. وليس هناك حضارة أخرى غيره يمكن أن يعزى إليها الفضل في ولادة الحداثة. ولم يكن ذلك قد حدث مدفوعاً بنوايا حميدة لرفع مستوى الإنسانية بشكل عام؛ وإنما برزت العديد من المشاكل على طول الطريق، وقد خلف انفجار القوة الغربية في جميع أنحاء العالم بعضاً من العواقب الرهيبة على الثقافات والمناطق الأخرى. ومع ذلك، كانت النتيجة النهائية هي نشر نظرة حداثية تعتمد على العلم والعقلانية في حل المشاكل، والتي عمل الكثير منها لصالح الفائدة النهائية لسكان الكوكب.
في وقت قريب قبل نصف قرن من الآن، على سبيل المثال، ساد صراع عالمي بين الأيديولوجيات الاقتصادية. كان بوسع نيكيتا خروشوف، الزعيم السابق للاتحاد السوفياتي، الادعاء بأن الدولة أفضل من الأسواق الحرة في توفير السلع الأساسية للمواطنين، لكن مثل هذه النظرة أصبحت اليوم مدعاة الضحك؛ فقد جعل اقتصاد السوق العمال الصينيين والهنود اليوم أكثر إنتاجية مما كانوا تحت حكم ماو تسي تونغ أو جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند. وتقبل المجتمعات الآن الحقيقة البسيطة القائلة إن العمال يحتاجون إلى حوافز مادية حتى يكونوا منتجين، وبطريقة أفضلت إلى تعزيز الكرامة وتقدير الذات. كما أصبحت الغالبية العظمى من البشرية متعلمة، وأكثر قدرة على الانتقال إلى حد ما على الأقل، وتتمتع بسبل الوصول إلى مخزون العالم من المعرفة الحاضرة. ويملك ما يقرب من نصف البالغين في العالم هاتفاً ذكياً، وهناك الآن من الأجهزة النقالة المتصلة في العالم في المجموع أكثر من عدد الناس على هذا الكوكب.
وفي الوقت نفسه، أدى انتشار العلم والتكنولوجيا إلى تحسين كرامة الإنسان ورفاهه. في السابق، كان معظم الناس يعيشون حياة رديئة، بهيمية، وقصيرة. أما اليوم، فقد ارتفع معدل العمر المتوقع على قدم وساق في كل مكان تقريباً. وانخفضت وفيات الرضع والأمهات بحدة، فيما يعود الفضل فيه جزئياً إلى انتشار معايير التطهير والنظافة وبناء المستشفيات الحديثة. ووفقاً لمؤسسة بيل وميليندا غيتس، كان مرض شلل الأطفال ينتشر في 125 بلداً في العام 1988، لكن ذلك العدد هبط الآن إلى دولتين. وباستثناء مناطق طالبان وجيوب قليلة من المجتمعات في الولايات المتحدة، يقبل الجميع بفضائل اللقاحات، كجزء من إجماع عام على فضل العلم والتكنولوجيا الغربيين.
كما تحل اتجاهات العقلانية محل الخرافة بطريقة أكثر عمومية. ويقوم الناس في جميع أنحاء العالم الآن بشكل روتيني بتوظيف التحليلات الأساسية للتكاليف والفوائد عندما يبحثون عن حلول للمشاكل، مما يؤدي إلى تحسن تدريجي في سوية النتائج في كل مجال، من الزراعة والإنشاءات إلى الحياة الاجتماعية والسياسية. ويساعد ذلك في تفسير الانخفاض الكبير وطويل الأجل في معظم أنواع الصراعات والعنف، على النحو الذي وثقه الباحث في جامعة هارفارد، ستيفن بينكر.
بعد الاسترقاق والسجن، يشكل الفقر أكثر الحالات التي يمكن أن يختبرها الإنسان مهانة. وفي العام 2000، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان عن خفض الفقر العالمي المدقع إلى النصف بحلول العام 2015 كواحد من الأهداف الإنمائية الطموحة للألفية. وقد تم تحقيق هذا الهدف إلى حد كبير، كما توقع مجلس الاستخبارات القومي الأميركي خفض الفقر المدقع بقدر أكبر بحلول العام 2030 -وهو ما سيشكل واحداً من أهم التطورات الرائعة والجديرة بالملاحظة في التاريخ البشري. وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن يزيد عدد أعضاء الطبقة الوسطى العالمية من 1.8 مليار في العام 2009 إلى 3.2 مليار شخص في العام 2020، و4.9 مليارات في العام 2030. كما انخفض معدل وفيات الرضع في العالم من حوالي 63 حالة وفاة لكل 1000 ولادة حية إلى 32 وفاة في العام 2015. ويعني ذلك خفض عدد وفيات الرضع بأكثر من أربعة ملايين في كل عام.
مع ذلك، وبدلاً من التفاؤل بهذا التقدم كله، يشاهد المرء قدراً أكبر من التشاؤم في الغرب هذه الأيام، والمتصل بثلاثة تحديات راهنة: الاضطرابات في العالم الإسلامي؛ وصعود الصين؛ والتصلب الاقتصادي والسياسي داخل الغرب. لكن هذا التشاؤم لا مبرر له، لأنه ليس من بين هذه التحديات الثلاثة ما لا يمكن التغلب عليه.
تحديث المسلمين
يضم العالم الإسلامي، من المغرب إلى إندونيسيا، نحو 1.6 مليار نسمة -أكثر من واحد من كل خمسة أشخاص على كوكب الأرض. وتتقاسم الأغلبية العظمى منهم الطموحات العالمية المشتركة لتحديث مجتمعاتهم، وتحقيق معايير معيشة الطبقة الوسطى، وعيش حياة سلمية منتجة، ومُرضية.
وعلى العكس مما يؤكد البعض، يتوافق الإسلام تماماً مع التحديث. وعندما بنت ماليزيا أبراج بتروناس وبنت دبي برج خليفة، فإنهما لم تكونا تنشئان هياكل مادية وحسب، وإنما كانتا ترسلان أيضاً رسالة رمزية: إننا نريد أن نكون جزءاً من العالم الحديث في جميع الأبعاد. وقد قامت العديد من المجتمعات الإسلامية بتعليم نسائها. وفي الجامعات الماليزية، يفوق عدد النساء الرجال بنسبة 65 إلى 35 في المائة. وقد بدأت حتى بعض البلدان الإسلامية التي كانت مترددة بدايةً في احتضان التحديث، باعتناقه. وعلى سبيل المثال، تضم قطر، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة الآن فروعاً من الجامعات الغربية الكبرى. وكان أحد أسباب هذا التحول هو أن التجربة في مناطق أخرى، مثل آسيا، أظهرت أن التحديث لا يعادل التغريب -وأن من الممكن متابعة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، على سبيل المثال، في حين تحتفظ المجتمعات بخصائصها الثقافية المميزة.
صحيح أن هناك عدداً معيناً من الشباب المسلمين الذين سيستمرون في اختيار التمرد على العالم الحديث بدلاً من الاندغام فيه، والانضمام إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة ومحاولة إلحاق الضرر حيث يمكن. وقد انضم حوالي 30.000 مقاتل مسلم من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك من الغرب، إلى “الدولة الإسلامية”، المعروفة أيضاً باسم “داعش”. ولكن، مهما يكن الخطر الذي يشكلونه على قضايا الأمن العالمي كبيراً، فإنهم يتضاءلون، مثلاً، أمام الـ200 مليون من المسلمين غير المتطرفين الذين يعيشون بسلام في إندونيسيا وحدها. وقد انتخبت إندونيسيا اثنين من القادة على التوالي، ملتزمَين بدمج البلاد في العالم الحديث، وقامت أكبر منظمة إسلامية فيها، “نهضة العلماء” المكونة من أكثر من 50 مليون عضو، بشجب أعمال وأيديولوجية “داعش” علناً.
بذلك، لا يتمثل التحدي الحقيقي في العالم الإسلامي في حد ذاته، وإنما في التعرف إلى كيفية تعزيز الاتجاهات المؤيدة للتحديث في ذلك العالم، بينما يتم احتواء الاتجاه المتطرف. وقد ارتكب الغرب خطأ عندما التزم الصمت بينما زاد التمويل السعودي بشكل كبير عدد المدارس الدينية المتطرفة في مختلف أنحاء العالم. ومن شأن استثمار مناقض اليوم، والذي يتمثل في بناء مدرسة حديثة جيدة إلى جوار كل واحدة متطرفة، أن يخلق تنافساً على الشرعية، والذي يُرجَّح أن ينشر قيم التنوير في كل مكان. ويمكن أن تنهض بهذا البرنامج وكالات الأمم المتحدة، اليونسكو واليونيسيف، بكلفة متواضعة نسبياً، وسيكون ذلك واحداً فقط من العديد من خطوط التقدم المحتملة في مجابهة المشكلة.
التحدي الصيني
التحدي الكبير الثاني الذي يُقلق الكثيرين هو صعود الصين. ومع ذلك، يمكن النظر إلى نجاح الصين على أنه بمثابة الانتصار النهائي للغرب. كان الإمبراطور تشيان لونغ قد كتب رسالة شهيرة إلى ملك بريطانيا العظمى جورج الثالث في العام 1793، والتي قال فيها: “تمتلك إمبراطوريتنا السماوية كل شيء بوفرة كبيرة، ولا تفتقر إلى أي منتج داخل حدودها. ولذلك ليست بنا حاجة إلى استيراد المصنوعات من البرابرة الخارجيين مقابل منتجاتنا الخاصة”. وبعد قرنين من ذلك، أصبح الصينيون يفهمون أن استيعاب الحداثة الغربية في مجتمعهم كان حاسماً في عودة بلدهم إلى الصعود، وأنه هو الذي قاد النمو الاقتصادي السريع، والبنية التحتية الجديدة البراقة، والإنجازات في استكشاف الفضاء، ودورة الألعاب الأولمبية المذهلة في بكين العام 2008، وأكثر بكثير من ذلك.
مع ذلك، وحتى مع قبول المجتمع الصيني الحداثة بحماس كبير، فإنه لم يتخل عن جذوره الثقافية الصينية. ما يزال الصينيون ينظرون إلى حضارتهم الصينية الحديثة ويؤكدون صينيتها، ولا يرون فيها أي تعارض مع عراقتهم. وفي الحقيقة، تشهد الصين الآن نهضتها الثقافية الخاصة التي يغذيها ثراؤها الجديد.
تنعكس هذه الثنائية في القصة الصينية في استجابة الغرب لها، والموسومة بالفصام. فقد سعت إدارة نيكسون بشغف إلى تحسين العلاقات مع الصين تحت حكم ماو. وعندما غامر دنغ شياو بينغ بفتح بلاده، صفق الغرب للتغيير وأشاد به. وقبلت الولايات المتحدة بسخاء قدوم المنتجات الصينية إلى أسواقها، وسمحت بتحقق فوائض تجارية ضخمة، ورحبت بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في العام 2001، وأبقت الممرات البحرية العالمية مفتوحة بحيث تستطيع الصين أن تتاجر بحُرية. كل هذا مكن الصين من الصعود لتكون القوة التجارية رقم واحد في العالم بحلول العام 2013. كما سمحت الولايات المتحدة بكرم أيضاً بقدوم أكثر من مليون طالب صيني للدراسة في جامعاتها.
مع ذلك، تسبب صعود الصين أيضاً بمخاوف عميقة. ما يزال يدير الصين حزب شيوعي غير راغب في تبني الديمقراطية الليبرالية. كما عرضت الصين جانباً عدوانياً في بعض تعاملاتها مع اليابان وبعض أعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا، حول نزاعات إقليمية في بحار الصين الشرقية والجنوبية. ولا يمكن استبعاد ظهور صين عدوانية ذات نزعة عسكرية.
لكننا قطعنا شوطاً طويلاً منذ الأيام التي تحدث فيها ماو علناً عن إمكانية كسب حرب نووية، ويشير التاريخ الصيني إلى أن بكين سوف تفضل في نهاية المطاف الانضمام إلى -وليس استبدال أو رفض- النظام الراهن القائم على القواعد، والذي صنعه الغرب. وباعتبارها القوة التجارية الأولى في العالم، فإن لدى الصين الكثير لتخسره من انهيار النظام الاقتصادي العالمي. وبالإضافة إلى ذلك، يخاف الصينيون تاريخياً من الفوضى. وقد يتسبب ذلك في بذل جهود مشددة للحفاظ على النظام في الداخل، لكنه ينبغي أن يدفع بكين إلى دعم سيادة نظام قائم على القواعد على المستوى العالمي أيضاً. ومن المؤكد أن الصين ستصبح أكثر حزماً مع كسبها المزيد من القوة. وقد حدث هذا فعلاً. ولكن، بما أن الصين في حاجة إلى بضعة عقود من السلام من أجل استكمال التحديث، فإن لديها أسباباً قوية لكبح جماح نفسها عسكرياً وتجنب الصراع.
لن يكون المجتمع الصيني في أي وقت نسخة طبق الأصل من المجتمع الغربي؛ فثقافة الصين الخاصة بالغة الغنى بحيث لا يمكن استيعابها في أي تكوين ثقافي آخر. ومع ذلك، سوف تعرض الصين المنخرطة في التحديث طموحات متداخلة مع الغرب في العديد من المجالات، كما يحدث، على سبيل المثال، في الانتشار السريع للموسيقى الكلاسيكية الغربية. في العام 2008، كان نحو 36 مليون طفل صيني يدرسون البيانو (ستة أضعاف عدد نظرائهم الذين يدرسونه في الولايات المتحدة)، وكان 50 مليون طفل آخر يدرسون الكمان. وتستطيع بعض المدن الصينية ملء قاعات 15 داراً للأوبرا في أمسية واحدة.
توفر صين حديثة، بموسيقى كلاسيكية مزدهرة وجامعات على النمط الغربي، تجسيداً قوياً لانصهار الحضارات. وعلى الساسة الغربيين أن يسمحوا لهذه الدينامية بأن تكسب زخماً، بينما يتحلون بالصبر إزاء مناطق أخرى من التغيير، كما هو الحال في المجال السياسي. ولن يكون تطور الصين خطيَّاً بالضرورة، ولكنه يجب أن يواصل التحرك في اتجاه إيجابي على المدى الطويل.
الشعبويّون المتشائمون
يتمثل التحدي الثالث الماثل اليوم في فقدان الغرب الثقة بنظامه وإمكانياته المستقبلية الخاصة إلى حد كبير. ويعمل تباطؤ النمو في جميع أنحاء العالم المتقدم؛ والمداخيل الراكدة لكثير من السكان؛ وارتفاع اللامساواة الاقتصادية؛ والجمود السياسي، وظهور حركات التمرد الشعبوية على جانبي الطيف السياسي، تعمل هذه العوامل كلها على تغذية شعور شائع بأن النماذج الغربية للحكم والإدارة الاقتصادية تعاني من التعثر والتخبط.
ولا شك في أن العديد من هذه المشاكل حقيقية ومهمة. لكنها ليست خارج نطاق قدرة قيادة تتحلى بالتصميم على حلها، كما أنها لا تشكل نقاط ضعف أساسية للنموذج الغربي. وبذلك، يكون التشاؤم الذي يضربنا مبالغاً فيه إلى حد كبير، مثل نوبات سابقة من الإحساس بالتراجع والقلق من ذهاب أفضل أيام الغرب. ويكمن الخطر الأكبر في الحقيقة من تحوُّل هذا التشاؤم الشائع إلى نبوءة تحقق ذاتها. وسيكون صناع القرار والرأي العام الغربي المنطوين على مزاج قاتم عرضة لرؤية التهديدات أكثر من رؤية الفرص، واختيار النأي عن العالم بدلاً من الاستمرار في قيادته بنجاح.
يظهر هذا الاتجاه بشكل ملحوظ في المعارضة المتزايدة، على سبيل المثال، للشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي صفقة تجارية كبرى ينبغي أن تساعد في توسيع وتعميق الأنظمة الليبرالية عبر رقعة واسعة من العالم. كما يتجلي في تصاعد الشكوك إزاء المهاجرين واللاجئين، وفي الدعم المتزايد لإغلاق الحدود. وتمكن رؤيته في إنهاك واحتمال تفكك المؤسسات الدولية، مثل الاتحاد الأوروبي، الذي شكل في السابق نموذجاً للتكامل الدولي التقدمي.
سوف يكون عاراً كبيراً إذا تخلى الغرب عن النظام الدولي نفسه الذي كان قد أنشأه بنفسه بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يسَّر السبل لتحقيق الكثير من الأمن والازدهار والتنمية على مدى عقود. وبدلاً من ذلك، ينبغي على الغرب أن يحاول إنعاش وتنشيط هذا النظام، من خلال ثلاثة تحركات على وجه الخصوص: العمل مع الصين والهند؛ وتعزيز القواعد الدولية؛ وإبراز الاتجاهات العالمية الإيجابية التي أصبحت تضيع الآن في كل هذه الهستيريا حول الاتجاهات السلبية.
لماذا الصين والهند؟ لأن لديهما أكبر عدد من السكان والاقتصادات في العالم النامي، ويقودهما قادة أقوياء ذوو توجهات إصلاحية، وهما تقاربان المستقبل بدينامية وتفاؤل وأمل. وتدرك كلتا الدولتين أنها بحاجة إلى تحمل مسؤوليات أكبر في مواجهة المشاكل العالمية. وقد شرعتا في ذلك عملياً كما يبين اتفاق المناخ في باريس.
مع أن صعود الصين كان إحدى عجائب الدنيا المعترف بها عالمياً في هذا العصر، كان صعود الهند الأخير مثيراً للإعجاب أيضاً؛ حيث احتضنت الهند بدورها التحديث والعولمة، وعقلانية عصر التنوير. وعلى طول الطريق، حافظت الهند على بقائها أكبر ديمقراطية في العالم، واستوعبت بنجاح فسيفساء ثقافية وديموغرافية متنوعة بشكل مثير للدهشة، واحتفظت بعقلانيتها وقيمها حتى وهي تحت الهجمات الإرهابية المتكررة.
على الرغم من أن الصين والهند قوتان آسيويتان كلتاهما، فإنهما تختلفان كثيراً بحيث ستكون القدرة على العمل بشكل وثيق مع كليهما والتعلم من كل واحدة منهما خطوة كبيرة إلى الأمام في اتجاه إتقان إدارة نظام عالمي حقاً. وسوف توفر سرعة انتشار الجامعات والفرق الموسيقية على النمط الغربي في الصين جسوراً جديدة بين الصين والغرب. كما ستوفر الجالية الهندية العرقية الناجحة بشكل استثنائي في الولايات المتحدة جسوراً مع الهند، وسوف يزيد كل هذا التعاون عملية الانصهار الحضاري.
على النقيض من الصين والهند، أحجمت روسيا عن احتضان الحداثة بشكل كامل، حتى مع أن الاتحاد السوفياتي بدأ مشروع التحديث قبل الصين والهند. وقد ترددت روسيا في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية ولم تقبل بعد بحقيقة أن المشاركة حسنة النية في النظام الحالي القائم على القواعد يمكن أن تساعد في تيسير تقدمها الخاص. ومع ذلك، كلما ازداد ازدهار بكين ونيودلهي، أصبحت الحجة لصالح التحاق موسكو بركبهما أكثر إقناعاً.
بينما يعمل الغرب عن قرب مع القوى الكبرى الصاعدة، ينبغي عليه تكثيف جهوده لبناء عالم قوي قائم على القواعد بشكل عام. وكان الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون قد قال في العام 2003 إن على الأميركيين محاولة “خلق عالم بقواعد وشراكات وعادات سلوكية، من النوع الذي سنودُّ العيش فيه عندما لا نعود القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية العظمى في العالم”. وإذا استطاع مواطنو كلينتون قبول هذه النصيحة، فإن مواطني معظم البلدان الأخرى سيكونون على استعداد لفعل الشيء نفسه. وريما يكون تحقيق ذلك أسهل مما يعتقد الكثيرون.
كان الكثير من المعمار العالمي متعدد الأطراف اليوم هدية قيمة من الغرب إلى العالم. ومع ذلك، ضمنت القوى الغربية الكبرى أن لا تصبح هذه المؤسسات في أي وقت قوية بما فيه الكفاية أو مستقلة بما يكفي لخلق متاعب حقيقية للذين أنشأوها. فكان الأمناء العامون للأمم المتحدة من خلق الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وكانت قيادات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تأتي حصراً من الولايات المتحدة وأوروبا، كما تم استغلال الهيمنة في هذه المؤسسات المالية في كثير من الأحيان لتحقيق أهداف خارج النطاق المالي. وينبغي إعادة النظر في هذه السياسات، لأن شرعية النظام تعتمد على إدراك حقيقة أن أسسه وقواعده تتطور بتطبيقها بصورة عادلة ومتساوية على الجميع، بدلاً من تفصيلها لتناسب المصالح الضيقة لقليلين. وسوف يكون اختيار قادة أقوياء للمؤسسات الدولية الرئيسية، وحفظ عمليات تلك المؤسسات من التقويض أو التسييس خطوة كبيرة إلى الأمام.
وأخيراً، يجب على صناع السياسة الغربية تسليط الضوء على الأشياء الجيدة التي تحدث في العالم، بدلاً من تركيزهم على الأشياء الرديئة. فقد خرج مئات الملايين من الناس من ربقة الفقر في العقود الأخيرة، بينما انخفضت الصراعات العسكرية. ويعني تقارب الطموحات والتطلعات العالمية أن الغالبية العظمى من البلدان تحبُّ أن ترى التطور وهو يعقب الآخر نحو إعادة تشكيل البنية العالمية. وينبغي أن يقود ظهور المشاكل الخطيرة العابرة للحدود الوطنية إلى تقارب في المصالح وفي اتجاه التعاون لإيجاد حلول مشتركة. وسوف يساعد وجود طبقات وسطى كبيرة وحسنة التعليم في مختلف البلدان وفي جميع أنحاء العالم في إبقاء الحكومات سائرة على الطريق الصحيح.
هناك كل الأسباب التي تدعو إلى الثقة بأن حالة العالم سوف تستمر في التحسُّن، بينما تصبح البراغمانية وتحكيم المنطق توجهات عالمية. وكانت الجامعات الغربية محركاً حاسماً في هذا الاتجاه. ولا يقتصر الأمر على محاكاة مناهجها في جميع أنحاء العالم؛ وإنما يتم الآن تكرار النظام البيئي لجامعة الأبحاث الحديثة برمته، ويقوم خريجو هذه الجامعات على النمط الغربي بترويج الأساليب الحديثة في التعليم، والصحة العامة، والإدارة الاقتصادية، والسياسة العامة بشكل أكثر عمومية. وقد أسهمت شركات الاستشارات الإدارية العالمية أيضاً في إحراز التقدم وفي نشر أفضل الممارسات والأفكار الجيدة من الغرب إلى “البقية”، وعلى نحو متزايد من البقية إلى الغرب مرة أخرى. ونتيجة لذلك، أصبحت حتى دول كانت يائسة وغير فعالة في السابق، مثل بنغلاديش وإثيوبيا، تدخل الآن بثقة في العالم الحديث.
باختصار، على الرغم من عناوين الصحف اليومية التي تصرخ بالشؤم والبوار، فإن العالم يتقارب في الواقع ويتجمع معاً، ولا يوشك على الانهيار. وحتى الآن، كان الدافع وراء انصهار الحضارات في المقام الأول هو حقن الحمض النووي للحضارات الغربية في جينات الحضارات الأخرى. وبمرور الوقت، من المرجح أن يذهب تدفق الثقافة والأفكار في كلا الاتجاهين. وقد هذا حدث بالفعل في المطبخ، حيث اخترقت التأثيرات العالمية المطابخ الغربية تماماً، وينبغي أن يحدث شيء مشابه في المجالات الثقافية كافة.
لن نعدم وجود التحديات. بل إنها ربما نرى نكسات كبيرة. ويمكن أن يبدو انصهار الحضارات والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة به مهدداً لبعض، وأن يخلق فرصاً للديماغوجيين لاستغلال المخاوف الشعبية، حتى في قلب العالم الصناعي المتقدم. لكن من المرجح أن تتمكن المجتمعات المفتوحة والمستنيرة على نحو متزايد من تجنب هذا الخطر. في القرن الحادي والعشرين، سوف يُحكم العالم بسلطة الأفكار أكثر مما يُحكم بفكرة السلطة. وباختصار، يبدو الاتجاه التقدمي للتاريخ البشري، والذي رفع حالة الإنسانية إلى آفاق لم يسبق له مثيل من قبل، منذوراً لمواصلة الطريق.

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

صحيفة الغد