قضايا المياه ذات أهمية حيوية لاستقرار “وادي الفرات” في سوريا

قضايا المياه ذات أهمية حيوية لاستقرار “وادي الفرات” في سوريا

SyriaFarmGreenhouseIrrigationWaterRTX2BFV3-639x405

تشير التحركات العسكرية في شرق سوريا إلى أنه سيتم القيام بهجوم كبير هذا العام للقضاء على وجود تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») في المنطقة. ويتقدم الجيش السوري نحو مدينتي دير الزور والطبقة بمساعدة الطيران الروسي، في حين يتقدم المقاتلون الأكراد والعرب المدعومين من الولايات المتحدة تحت راية «قوات سوريا الديمقراطية» من الشمال (انظر المرصد السياسي 2614 باللغة الانكليزية “معركة دير الزور: جسر الولايات المتحدة وروسيا ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»”)؟. وفي الوقت نفسه، تعهدت العشائر العربية التي تعيش تحت حكم تنظيم «داعش» في “وادي الفرات” بالولاء للتنظيم في الوقت الراهن، لكن من المرجح أن تتخلى عن هذا الولاء إذا شكّلت قوى خارجية تهديداً خطيراً عليها.

وبناء على ذلك، فقد حان الوقت للاستعداد لـ “المرحلة التي تلي حكم تنظيم «الدولة الإسلامية»” في منطقة الفرات، لا سيما في ما يتعلق بمختلف القضايا الاقتصادية التي من شأنها أن تشكل الركائز الأساسية لتحقيق الاستقرار السياسي المحلي. وبغض النظر عن الجهة التي ستسيطر على المنطقة في المرحلة المقبلة، سواء نظام الأسد أو «قوات سوريا الديمقراطية» أو غيرها من الأطراف الفاعلة، فإنها ستواجه مشكلة ندرة المياه التي لطالما دفعت الديناميكيات السياسية والاقتصادية في المنطقة.

الري الحكومي كوسيلة تحكم

إن القسم من “وادي الفرات” الواقع بين “بحيرة الأسد” ومدينة أبو كمال هو منطقة قاحلة تصعب فيه الزراعة من دون ري، لأن نسبة سقوط الأمطار لا تتعدى عادة 10 بوصات (25.4 سم). مع ذلك، أظهر التعداد الزراعي السوري الأخير (في عام 2004) أن 46 في المائة من السكان في محافظة الرقة و43 في المائة في محافظة دير الزور عملوا في الزراعة، وهذه النسبة أكثر من ضعف معدل البلاد بـ 20 في المائة. بل أن الحصة الفعلية للسكان المحليين الذين يستمدون دخلهم الرئيسي من الزراعة هي أعلى من ذلك لأن العديد من المزارعين يفضلون التعريف عن أنفسهم كـ “موظفين حكوميين” أو “ربات بيوت” بدلاً من فلاحين أو مزارعين، التي هي مصطلحات تنطوي على معنى انتقاصي في المنطقة.

وهذه الأرقام تصبح أكثر فهماً عندما يأخذ المرء بعين الاعتبار أن إنتاج النفط وفّر عدداً قليلاً جداً من الوظائف في “وادي الفرات”. كما أن معظم العاملين في صناعة النفط التي تملكها الدولة ينحدرون من قلب النظام العلوي والمقاطعات الغربية الأخرى، فضلاً عن أن عمليات التكرير تتم في أماكن أخرى (لا سيما في حمص وبانياس). وبالتالي، نظراً لهذه العزلة الاقتصادية وعوامل أخرى، اعتبر العديد من سكان “وادي الفرات” أنهم في مستعمرة داخلية تابعة لسوريا قبل اندلاع الحرب الحالية بفترة طويلة.

انقر على الخريطة لعرض نسخة عالية الدقة.

لقد تجلت الشكوى الرئيسية ضد الحكومة المركزية في القيود على الزراعة، وخاصة خطط الإنتاج الإلزامية وشبه احتكار موارد المياه. ففي محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، أرغمت الوزارات التي تشرف على الري والزراعة، المزارعين منذ وقت طويل على الانخراط في برامج تجبرهم على إنتاج القطن والحبوب وبنجر (شمندر) السكر فقط. كما أشرفت الدولة على كل أوجه السوق من خلال الشركات العامة البيروقراطية، بدءً من توزيع البذور وصولاً إلى تسويقها. وفي الحقول التي يتم ريها من سدود “وادي الفرات”، يتمتع المزارعون بالمياه بشكل شبه مجاني، ولكن يتم توفيرها وفقاً لجدول زمني حكومي كان مناسباً فقط للمحاصيل التي أراد النظام زراعتها، مما جعل التنويع الزراعي مستحيلاً. ولكن من وجهة نظر السياسيين البعثيين، لم تكن مشاريع السدود والري الكبيرة وسيلة لإضفاء الصبغة المحلية على نهر الفرات فحسب، بل لتطويع العشائر التي عاشت على ضفافه أيضاً. فعندما كانت المياه وافرة وكانت الحقول كافية لكل أسرة، ساد السلام الاجتماعي، ولكن الوضع تدهور بسرعة خلال العقد الماضي، مما أسهم في اندلاع الانتفاضة عام 2011.

انقر على الخريطة لعرض نسخة عالية الدقة.

بين عامي 1960 و2010، ارتفع عدد سكان محافظتي دير الزور والرقة من 400 ألف إلى مليوني نسمة، وبشكل طبيعي انخفض حجم المزارع مع هذا النمو السكاني السريع. وفي الوقت نفسه، لم يتم أبداً تنفيذ خطط النظام الطموحة التي تقوم على توسيع الأراضي المروية خارج “وادي الفرات” بسبب غياب التمويل ونقص المياه. ونتيجة لذلك، تضاعف عدد الآبار ومضخات المياه غير القانونية، في إطار هامش من التسامح من قبل الحكومة نظراً لأسباب سياسية أو لمجرد انتشار الفساد. وقد كانت السلطات مرنة مع العشائر العربية على طول نهر الفرات أكثر من مرونتها مع الأكراد في محافظة الحسكة، حيث تم تخفيض المساحات المروية إلى حد كبير بسبب غياب استثمارات الدولة والفشل في تحديث أساليب الري.

إلى جانب ذلك، أدى الجفاف الذي حل في الفترة بين 2007 و 2010 إلى تضخيم هذه المشاكل، لاسيما لأنها وقعت في الوقت الذي كانت تخفض الدولة من دعمها، وتزيد من سعر الوقود بثلاثة أضعاف، مما جعل عمليات الري الفردي مكلفة للغاية، وفرض [قيود] على استهلاك المياه من خلال خطة حصرية لتحديث الري. وقد كانت هذه التدابير غير فعّالة إلى حد كبير لأنها وُضعت في ظل ظروف طارئة ونُفذت في بيئة يشوبها الفساد إلى حد كبير. على سبيل المثال، كثيراً ما استولى المزارعون الأغنياء على الإعانات بتواطؤ مع المسؤولين، في حين تم تهديد صغار المزارعين بالعقوبات لاستمرارهم في الري على الطريقة التقليدية.

انقر على الخريطة لعرض نسخة عالية الدقة.

تميز الري الحكومي بسوء الإدارة من الناحية التقنية أيضاً. فقنوات الري المفتوحة لا تسمح باستخدام رشاشات المياه أو أساليب الري بالتنقيط نظراً لغياب الضغط المناسب، مما تسبب بهدر مخزٍ. على سبيل المثال، إذا أراد المزارع الذي يستخدم طريقة التغذية بالجاذبية، الحصول على متر مكعب واحد من المياه لمحاصيله، لا بد له من سحب سبعة أضعاف هذا الحجم من أي مصدر يستخدمه. ومع ذلك، فباستعماله نظام الرش، سيحتاج إلى سحب مترين مكعبين فقط، وباستخدامه نظام الري بالتنقيط سيحتاج متراً مكعباً واحداً فقط. ولكن ما هي الحوافز التي تدفع المزارعين للحصول على معدات باهظة الثمن إذا كان الماء شبه مجاني في الأراضي التي ترويها الدولة؟ ويزداد الداعي إلى استخدامهم مثل هذه التقنية لتوفير المياه في المزارع التي تستخدم الآبار، حيث أرغمت مناسيب المياه المنخفضة العديد من الناس على التخلي عن عمليات الضخ الباهظة التكلفة وعدم زراعة بعض الحقول البور. فبين العامين 2001 و2009، انخفضت نسبة الأراضي الزراعية في المناطق المروية من الآبار (على سبيل المثال، حي الثورة، وتل أبيض، ومحافظة الحسكة) ولكنها توسعت في “وادي الفرات”، حيث استخدام الآبار محدوداً.

ونظراً لهذه السلسلة من الأخطاء والتحدي الماثل من ندرة المياه في المناطق القاحلة، سيكون حل قضايا المياه في “وادي الفرات” صعباً من دون التسبب باستياء الرأي العام. بيد، من الواضح أن منهجية النظام الخاصة بالري قد فشلت، وساهمت إلى حد كبير في الانتفاضة الحالية.

انقر على الخريطة لعرض نسخة عالية الدقة.

الري في ظل حكم تنظيم «الدولة الإسلامية»

منذ أن أحكم تنظيم «الدولة الإسلامية» سيطرته على معظم أراضي “وادي الفرات” خلال الحرب، أنشأ وزارة زراعة شبيهة ببيروقراطية النظام. فهذه الوزارة هي التي تحدد المحاصيل التي يمكن زراعتها، وتستخدم مخططات مماثلة لإدارة الري، وتفرض ضرائب مرتفعة على المزارعين. ومع ذلك، فبفضل النقص الكبير في الخبرة بين عناصر التنظيم، تدهورت خدمات الري بشكل حاد مقارنة مع فترة ما قبل الحرب، مما جعل جباية الضرائب من “صندوق الزكاة” التابع للتنظيم صعبة جداً. إن نقص المياه في الأراضي التي كانت تُروى من قبل الدولة سابقاً دفع بالعديد من المزارعين إلى حفر الآبار غير النظامية. وهذا بدوره يعني زيادة في الضخ، وهو أمر مكلف جداً في ظل الظروف الطبيعية، بل هو أكثر تكلفة الآن لأن قصف التحالف لمنشآت النفط جعل من الصعب الحصول على الوقود اللازم لتشغيل المضخات. وفوق كل هذا، يفتقد المزارعون المحليون إلى الأسمدة والمبيدات الحشرية التي أصبحت نادرة ومكلفة لأنه لا يمكن شراؤها سوى من منطقة تابعة للحكومة بواسطة مهربين.

ونتيجة لهذه المشاكل، تتراجع المحاصيل الزراعية بشكل حاد، وسط عدم قدرة تنظيم «داعش» على إعادة ملء خزانات القمح التي كان قد أفرغها في وقت سابق من أجل كسب تأييد السكان. وبالتالي، إذا استمرت الظروف الحالية فإن دورة الجفاف الحتمية القادمة ستكون كارثية.

المحصلة

من الضروري توقع التحدي المتمثل في حل مشاكل الري في “وادي الفرات” قبل القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» في تلك المنطقة. من هنا، لا بد من العمل على خطة تحديث كبيرة للري والزراعة من أجل تحقيق الاستقرار في “الوادي”، ولكن أياً كان المسؤول عن بذل مثل هذه الجهود فإنه سيواجه نفس القيود المادية والاجتماعية. فموارد المياه المحلية محدودة بطبيعتها، ومن المرجح أن تصبح أكثر ندرة في العقود المقبلة. ومن الممكن الحد من بعض الهدر عبر استخدام تقنيات الري الحديثة والتخلي عن المحاصيل التي تتطلب استخداماً كثيفاً للمياه مثل القطن، إلا أن هذه الجهود تتطلب انضباطاً كبيراً ومستوى عالياً من التنمية لا يتوافق حالياً مع المجتمع العشائري في “الوادي”. لذلك، فإن السلطات التي ستحل محل تنظيم «داعش» ستواجه معضلة قاسية، لأنه إذا لم يتم اتخاذ إجراءات ملموسة بسرعة، فإن ندرة الموارد ستؤدي إلى تفاقم المنافسة العشائرية حولها.

وستكون استعادة الاستقرار في “وادي الفرات” أسهل بكثير إذا احترمت تركيا الاتفاق الدولي لتقاسم مياه الفرات مع سوريا. ويبلغ الحد الأدنى للتدفق المتفق عليه 500 متر مكعب في الثانية، ولكن يبدو أن المستوى الحالي أقل بكثير؛ إن كلاً من نظام الأسد و تنظيم «الدولة الإسلامية» ليس في موقف يسمح له بالاحتجاج على الأمر. ووفقاً لذلك، فإن قضية المياه ستعطي أنقرة نفوذاً كبيراً على الجهة التي تسيطر على “وادي الفرات”.

فابريس بالونش

معهد واشنطن