الطائفية والإصلاح.. مصالحة مستحيلة في عراق غير متصالح

الطائفية والإصلاح.. مصالحة مستحيلة في عراق غير متصالح

_81548_o3

أعتقد أن على الأحزاب العراقية الحاكمة أن تشكر خصومها من الشخصيات والقوى التي اجتمعت في مؤتمر باريس للمعارضة العراقية لأنهم نظموا أنفسهم في كيان واحد هو “المشروع الوطني العراقي”، بما يسهل الاتصال بهم والتفاوض معهم باتجاه صيغة توافقية ما لتوسيع العملية السياسية، وجعلها أكثر شمولا، وضمان مشاركة أكبر عدد من العراقيين فيها.

ولم تكن خطوة موفقة من السيد عمار الحكيم، رئيس المجلس الأعلى الإسلامي، أن يرفض المؤتمر، معتبرا أن “الحاضرين لا يمثلون أحدا من الشعب العراقي”. فالتمثيل السياسي مسألة تحددها وتحسمها صناديق الاقتراع وليست رغبات السياسيين ورؤساء الأحزاب أو أطراف السلطة، والحكيم بخطابه الإقصائي هذا إنما يفرض وصايته على العملية السياسية، ويطعن في رشد ووعي المجتمع العراقي ويصادر حقه في الاختيار؛ إذ كيف نعرف إذا ما كانوا يمثلون أحدا من الشعب أم لا إن لم نسمح لهم بالمشاركة في النقاش السياسي والتنافس الديمقراطي؟

وقال الحكيم، كما نقلت وكالة “شفق نيوز”، إن القوى التي كانت تحضر مؤتمرات المعارضة قبل 2003، وحزبه على رأسها، كانت “شخصيات فاعلة في المجتمع العراقي، وهذا ما أثبتته المرحلة بعد سقوط النظام”، لكنه تجاهل أن هذه المرحلة أثبتت أيضا الفشل السياسي والإداري الذريع للنخبة الحاكمة، والفساد المريع في عهد من وصفهم بالشخصيات الفاعلة، وأن القوى السياسية التي ينتمي إليها حزبه لم تستطع الخروج من عباءة المعارضة الحزبوية وثقافتها ونفسيتها، وأخفقوا في التحول إلى رجال دولة حقيقيين يتمتعون بسعة أفق ورجاحة عقل وقدرة على استيعاب مفاهيم دولة المؤسسات وسيادة القانون، والشفافية ورصانة الإدارة، والتنوع الاجتماعي والتعددية السياسية، ومبادئ المواطنة وحقوق الإنسان.

القوى الممسكة بالسلطة ترفض دخول أطراف جديدة للعملية السياسية، لما يترتب عن ذلك من مشاركة لها في الامتيازات والمنافع

معايير زائفة

واحدة من مفارقات السجال السياسي العراقي أن الفاعلين فيه يضعون معايير ذات طابع شعاراتي أخلاقوي لقبول انضمام من يريد المشاركة في العملية السياسية؛ فيقولون مرة إنهم لا يريدون “الملطخة أيديهم بدماء العراقيين” على الرغم من أن العبارة تكاد تنطبق على كل من هو في العملية السياسية حاليا، فالجميع متورطون، إما جنائيا بصورة مباشرة، أو سياسيا بصورة غير مباشرة في إراقة الدماء.

ومرة ثانية يقولون إنهم لا يريدون “المتعاونين مع الإرهاب”، وثالثة يرفضون “دواعش السياسة”، ورابعة “أزلام النظام السابق”، وكلها مصطلحات وتعابير أيديولوجية مسيّسة، غير عقلانية أو واقعية أو قانونية، فالعملية السياسية ليست مكانا للصلاة أو صومعة لتجمّع القديسين الأخيار والملائكة الأطهار والصالحين الأبرار الذين لم يرتكبوا جرما أو إثما في حياتهم؛ لكنّها، كما تفترض فلسفة الديمقراطية، مظلة شاملة وإطارا جامعا للقاء وجدال وتفاهم النشطاء السياسيين من الانتماءات والخلفيات والأفكار والمواقف والأجندات كافة، وبكل ارتكاباتهم وانتهازيتهم وفسادهم وأخطائهم وخطاياهم، في إطار صراع سياسي يتّصف بالسلمية والبراغماتية، بحيث يحيّد نزعات العنف ويقلل من الميول الشيطانية والعدوانية لدى جميع الأطراف، ويخرج بمحصلة سياسية أقل ضررا بالمجتمع وتماسكه من استمرار القطيعة والتناقض والنزاع الصفري.

لكن القوى السياسية الممسكة بالسلطة ترفض دخول أطراف جديدة إلى العملية السياسية لما يترتب عن هذا الانفتاح من مشاركة لها في الامتيازات والمنافع والثروة، وإخلالٍ بأصول وتوازنات اللعبة التحاصصية المكوناتية الطوائفية، وهو ما يعني أن القوى الحاكمة على الرغم من صراعاتها البينية الطاحنة ستتكتل في حالة جبهوية واحدة لإجهاض أي مشروع تغييري قادم من خارج العملية السياسية، سواء من داخل العراق أو من خارجه.

علما وأن مشاريع التغيير المعلنة حاليا تفتقر إلى الإمكانات الفكرية والأدوات السياسية التي تؤهلها لتقديم بديل للعملية السياسية الجارية يكون ملهما للجمهور، فالمشروع التغييري يحتاج إلى نظرية تغييرية، وهي غير متوفرة في الوقت الراهن، فالكلام البليغ الذي تتضمنه أدبيات المعارضة العراقية في الخارج عن الإصلاح والتغيير والمصالحة والتعايش ورفض الطائفية، لا يختلف عن الحشو نفسه الذي تتداوله منشورات وخطب المواسم الانتخابية في داخل العراق من أحزاب تنتمي إلى قوى السلطة نفسها وتتمتع بمكاسبها!

وبالعودة إلى مؤتمر باريس، يقال إن رئيس الوزراء العبادي أرسل مبعوثين لإقناع السلطات الفرنسية بالحيلولة دون انعقاد المؤتمر لكنها لم تستجب لطلبه. وهو تصرف، إن صحّ حدوثه، يفتقر إلى الدبلوماسية وللحنكة السياسية والوعي الاستراتيجي من رئيس الحكومة، فلو كنت مكان العبادي لأوفدت مستشاري الخاص لشؤون المصالحة الوطنية ليحضر المؤتمر بصفة “مراقب”، فيتقبّل بكل روح رياضية الهجوم على الحكومة والنظام السياسي من أعضاء المؤتمر، ويطلب بكل أريحية نسخا من مقرراته وبرنامج الكيان الجديد، وبهذه الخطوة اللافتة والفارقة سأبعث برسالة إيجابية إلى الأوساط العراقية والعربية والإقليمية والدولية، بأن الحكومة جادة في إنجاز المصالحة، وأنها تتمتع بما يكفي من حسن النية والثقة والموثوقية والانفتاح والسبق وروح المبادرة والذكاء السياسي في هذا المجال.

لكن العبادي لم يفعل ولن يفعل حتى لو حصل على نصيحة من هذا القبيل، خشيةً من حملات التخوين والتسقيط السياسي التي سيقودها ضده منافسوه من الأحزاب الشيعية بتهمة الاتصال بمن يصفونهم بالبعثيين وأعداء العملية السياسية ورعاة الإرهاب.

مشروع تصالحي

فتقد العراق لمشروع تصالحي لأنه يفتقر إلى نظرية تصالحية. ومن دون إرساء دعائم النظرية فكريا، لن يكون هنالك تطبيق سليم للمصالحة سياسيا وتشريعيا واجتماعيا على أرض الواقع. وثمة تعريف للمصالحة الوطنية منشور على موقع “لجنة متابعة وتنفيذ المصالحة الوطنية” التابعة لمكتب رئيس الوزراء، جاء فيه “المصالحة تسوية تاريخية عراقية تضمن الاتفاق والشراكة على الشكل النهائي لتوزيع السلطة والثروة وقضايا الأرض والإدارة”؛ بمعنى أن المصالحة عندهم هي المحاصصة، وهذا برأيي أسوأ تعريف للمصالحة يحتاجه العراق في هذه المرحلة، لأنه ربط المصالحة بالمصالح المادية لأطراف النزاع، والمتمثلة في حصول كل طرف على “حصة” من السلطة والثروة والأرض، في حين أن المصالحة يفترض أنها مفهوم سياسي وأخلاقي يتّصل بتحقيق مصلحة سياسية مشتركة للجميع، تتجسّد في تكريس الأمن والسلام والاستقرار وتعزيز الثقة على أساس إقرار مجموعة قيم ومبادئ عليا مشتركة يسلّم بها ولها الجميع، بما يتيح للأحزاب كافة أن تدير صراعا أكثر سلمية وسلاسة وانسيابية ونجاعة وإثمارا، في سياق أكثر مؤاتاةً ومطاوعةً لتحقيق مصالحها السياسية والسلطوية، ثم في ظل هذا السياق الجديد يأتي التفاهم حول تقاسم السلطة وتوزيعها؛ إذ يفترض بالأحزاب أن تتصالح ثم تتقاسم لا أن تتقاسم لتتصالح.

إن ربط المصالحة بالتقاسم، ربطا شرطيا يجعل توزيع الحصص شرطا لتحقيق المصالحة، من شأنه أن يفرغ المصالحة من مضمونها ويجعلها غير مقصودة لذاتها، حيث يتسبب في عرقلة المصالحة إذا ما تعثّر التقاسم أو افتقر للعدالة، أو لم ينل رضا أطراف النزاع كافة.

إنه منطق يستدعي العنف كأداة سياسية تستخدمها أطراف النزاع للابتزاز الأمني المتبادل، والاستثمار في إعاقة المصالحة والمساومة على السلام، بهدف التأثير في قواعد التقاسم وتعظيم حصصها. كما أن الذهاب مباشرة إلى التحاصص السلطوي كمدخل للعملية التصالحية المفترضة، يشي بافتقار الفاعلين السياسيين للأفق السياسي وهزالهم الأخلاقي، وعجزهم عن الاضطلاع بالمهمة الوطنية وتقديم التنازلات للأطراف الأخرى لإنجاز المصالحة، كما يكشف افتقاد المشروع في مجمله للمصداقية.

من مفارقات السجال السياسي العراقي أن الفاعلين فيه يضعون معايير شعاراتية أخلاقوية، لقبول الانضمام إلى العملية السياسية

اختزال تقني

حين نتذكر أن المحاصصة الطائفية، بما تعنيه من تقاسم للسلطة والثروة على أساس مذهبي وعرقي، هي سبب جوهري من أسباب النزاع الطائفي في العراق، سنكتشف عندها سطحية وركاكة هذا التعريف الرسمي للمصالحة ومدى هشاشة الأطروحة الحكومية حولها.

يضيف التعريف الحكومي للمصالحة أنها يجب أن تستند إلى “التسوية الشاملة وليس التنازل أحادي الجانب”، غافلا عن أن وقائع التاريخ وتجارب المجتمعات تقول إن أكثر نماذج المصالحة فاعلية ونجاحا ورسوخا وإلهاما هي التي كان أحد أطرافها أكثر قدرة من غيره على تقديم التنازلات، وتحمّل الجزء الأكبر من أعباء المهمة الوطنية والأخذ بزمام المبادرة الأخلاقية، ليتحول في نظر العالم من خصم في نزاع إلى راعٍ للعملية التصالحية وأخٍ أكبر لبقية المتنازعين؛ مثل تجربة مانديلا في جنوب أفريقيا.

وهو بهذا الموقف، إذ يزوّد المصالحة بالزخم الأخلاقي والوقود السياسي والمعنوي، قد يخسر السلطة أو الثروة لكنه سيكسب ثقة الجمهور به وبمشروع المصالحة ونجاعته، ودعم الجمهور للمشروع هو عنصر مهم وحاسم في نجاح العملية التصالحية، لأنه يشكّل عامل ضغط على الأطراف كافة لإنجاز تعهداتها والمضي قدما في المشروع التصالحي.

قد يضحي الطرف الأكثر شجاعة وجرأة وإقداما على التصالح والتنازل في السلطة السياسية؛ لكنه سيربح السلطة المعنوية والمكانة الاعتبارية في العملية السياسية والمجتمع، وسيجني المصداقية ورأس المال السياسي والاجتماعي وثقة الخصوم والأصدقاء، ما يؤهله للتأثير في القرار السياسي بقوة، وربما الصعود إلى السلطة في المستقبل.

همام طه

صحيفة العرب اللندنية