سقوط المستقبل العربي في الماضي

سقوط المستقبل العربي في الماضي

download
يؤخذ على الأمة العربية بأنها أمة عاطفية يحركها الوجدان منذ ما قبل الإسلام. هكذا عبر عنها الشعر العربي والسير العربية. بل وحتى أيام العرب المشهودة كان بعضها نتاج حالة انفعالية انتابت الفرد أو القبيلة فخاض لأجلها حروباً دامت عقوداً. هذا ما تحكيه حرب البسوس، وداحس والغبراء، ونستثني منها معركة ذي قار. ومن المؤسف أن بعض النصوص الفلسفية والعقلانية واجهت حروباً شعواء وحملة تشويه وتكفير مثل التي واجهتها كتب ابن سينا وابن رشد. فيبدو أن ثمة صراعاً خفياً عانته الحضارة العربية بين العقل والوجدان أعاق استمرار الحضارة العربية الإسلامية في التربع على قمتها لأكثر من ثلاثة قرون أو أربعة في مختلف مراحلها.
مناسبة الحديث عن صراع العاطفة مع العقل في الحالة العربية، هو سقوط الطائرة المصرية التي كانت متوجهة من فرنسا إلى القاهرة. صحيح أن التحقيقات لم تكتمل لتكشف عن سبب سقوط الطائرة. ولكن علينا أولاً أن نستحضر السقوط السابق لطائرة السياح الروس التي سقطت في سيناء. وعلينا أيضاً أن نلاحظ الحملة التي تُشن ضد شركة مصر للطيران والحملة المضادة للترويج لها والدفاع عنها. وقد يكون سقوط طائرة شركة مصر للطيران بسبب خلل تقني، ولكن الحادث تم استغلاله لضرب السياحة في مصر للمرة الألف. ولضرب الاقتصاد المصري المتمثل في الشركات الوطنية. وكل تلك المعطيات لا تخرج عن الاستهداف الإرهابي لمصر الرامي إلى تخريب البلد وتدميرها وتفكيكها شأنها شأن ليبيا وسوريا والسودان واليمن والعراق. صحيح أن مصر تأثرت كثيراً بالاضطرابات التي تعرضت لها في السنوات الخمس الأخيرة، ولكنها لم تسقط ولم تتعرض للانهيار الكلي أو شبه الكلي الذي تعرضت له دول عربية أخرى.

وحالة التدمير التي تعرض لها الوطن العربي مرت على بساط من الجدل الوجداني المتمثل في الآمال والطموح للشعوب العربية والخيبات الطويلة والآلام المريرة التي عانتها المنطقة جراء حكم الأنظمة غير الرشيدة التي زادت البون بين واقع الوطن العربي وواقع الدول الأخرى التي قطعت شوطاً مقبولاً في التنمية والتطور. وفي لحظة فارقة من الاندفاع العاطفي للشعوب العربية لم تتنبه إلى بعض المعطيات العقلية التي كان بالإمكان أن تحول دون وقوع هذا الكم من الخراب المرعب.
على سبيل المثال فقد كانت تونس من الدول المتقدمة جداً في الوطن العربي. كانت الأولى لسنوات عديدة في مستوى التنمية وكانت رقعة الجغرافيا المدنية تزداد سنويا بمختلف خدماتها الإسكانية والعمرانية. كان أعداد المدارس والجامعات والمصانع يزيد سنوياً. وبرغم قساوة القبضة الأمنية التي مارسها نظام ابن علي على الشعب التونسي إلا أن أغلبها، في حقيقة الأمر، كان موجهاً نحو المعارضين الراديكاليين. عدا ذلك كانت تونس تتميز بحرية التعبير والتفكير وهو ما عزز التقدم الثقافي فيها.
وحين نقارن الوضع التنموي والاقتصادي والأمني لزمن ابن علي مع واقع تونس اليوم فإننا نجد تراجعاً غير مسبوق في مستويات التنمية وحالة شبه شلل للسياحة نتيجة الاضطرابات الأمنية وتفشي الخلايا الإرهابية وتدهوراً اقتصادياً كبيراً أدى إلى نشوء ظواهر اجتماعية لم تكن موجودة في تونس سابقاً.
وفي القضايا السابقة يثور جدل عربي سقيم منشؤه في كثير من الأحيان اضطراب التوازن بين العقلاني والوجداني في الإدراك العربي. فحين يُثار الحديث عن سلبيات المآل الذي آلت إليه بعض الدول العربية وحين تتم الإشارة إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية وتراجع التنمية وعودة بعض المشكلات القديمة التي تم حلها أو القضاء عليها في الوطن العربي مثل الأمية وعمل الأطفال وعودة بعض الأمراض الفتاكة، لا يتوانى البعض عن اتهام الطرف الآخر بالعمالة للأنظمة أو نعته بالخور والجبن وعدم النزوع لرغبات الحرية والعدالة والشجاعة والمواجهة. ويزداد الحوار سقماً حين تتدخل الأيديولوجيا الإسلاموية أو المقارنات غير المتساوية بين الدول وحين يتحدث أحدهم من علٍ متجاوزاً آلام الشعوب المحطمة ومآسيها.
ونستطيع استنتاج نتائج عدم الانسجام بين المعطيات الوجدانية والمعطيات العقلانية في السلوك العربي من حالة الانحراف الحضاري الذي سقطت فيه الأمة العربية بسبب دعاوى التغيير التي جعلت من حال الدول الأوروبية هدفاً ترنو إليه عمليات التغيير التي طالبت بها الجماهير العربية. فبدل أن تتوجه اليوم مؤشراتنا نحو المستقبل المتمثل في التنمية والتحضر وقيم العدالة والحرية. فإن ثلاثة أرباع الوطن العربي تقريبا قد سقط في تنامي مؤشرات الفقر وتدهور أوضاع الأطفال وتراجع وضع المرأة وانتشار الإرهاب.
ثمة خلل ما وقع لم يجعل الأهداف العربية هي النتيجة الحتمية للإجراءات التي انخرطت فيها جماهير الشعب. وثمة خلل حقيقي في مسارات الحوارات العربية. وثمة خلط كبير غير مبرر للقضايا العربية نتج عنه أن مستقبلنا يتوجه نحو الماضي بدل الصعود إلى الأمام.

د. انتصار البناء
صحيفة الخليج