معركة الفلوجة وتجليات ما بعد داعش

معركة الفلوجة وتجليات ما بعد داعش

0201605240146655

اضطرت الولايات المتحدة، في ظل خلاف معلن أمريكي عراقي، حول اولويات الحرب على تنظيم الدولة/ داعش، إلى القبول بوجهة النظر العراقية التي ترى ان الاولوية لمعركة الفلوجة على معركة الموصل وهي وجهة نظر لها أسباب سياسية بحتة تتعلق بضرورة انجاز نصر عسكري سريع غير ممكن تحقيقه في الموصل، لكون الاخيرة معركة معقدة، تستلزم استعدادات لا يمكن اتمامها قبل الثلث الأخير من هذه السنة على أقرب تقدير. وتتعلق ايضا بالبعد الرمزي للفلوجة، المدينة التي فرضت نفسها رمزا للمقاومة ضد الاحتلال الأمريكي، وخاضت ضده حربين في عام 2004. ومع ذلك فقد عوملت هذه المدينة، على مدى السنوات الماضية، بوصفها معقلا للتمرد السني، ومعقلا للإرهاب ايضا. لأجل ذلك كله فان النصر العسكري في الفلوجة، من وجهة نظر حيدر العبادي، سيغير علاقات القوة بين الاطراف الشيعية، وسيمنحه هو شخصيا زخما حقيقيا يجعله قادرا على تثبيت نفسه رئيسا لمجلس الوزراء في ظل الدعوات التي تصاعدت من أكثر من شهرين حول سحب الثقة عنه.
اما الخلاف الأمريكي العراقي الآخر، فقد كان حول مشاركة ميليشيا الحشد الشعبي في معارك الأنبار والموصل. والواقع ان الأمريكيين لم يعترضوا مبدئيا على فكرة إنشاء ميليشيا الحشد الشعبي في بداية الامر، بل اعتقدوا أن وجودها ضروري لمواجهة داعش في ظل عجز القوات العسكرية العراقية عن انجاز هذه المهمة، كما جاء في تقرير الخبراء الأمريكيين الذين بعثوا إلى العراق بعيد سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة/ داعش، وقد أكد هذا التقرير حقيقة عجز القوات العراقية على استعادة أي من المناطق التي فقدتها، وعلى امكانية فقدانها بعض المناطق من بغداد نفسها. لذلك دعم الأمريكيون هذه الميليشيات في معارك صلاح الدين، لكنهم سرعان ما غيروا موقفهم نسبيا، تحديدا في معركة تكريت، جراء موجة الانتهاكات التي وصفتها لجنة حقوق الانسان في الامم المتحدة بأنها جرائم ضد الإنسانية ترقى إلى أن تكون جرائم حرب. حينها قرر الأمريكيون عدم تقديم دعم جوي للقوات العراقية في حال مشاركة الميليشيات في اقتحامها، وهو ما اضطر الحكومة العراقية إلى القبول بهذا الشرط على الرغم من ممانعة الميليشيات لذلك.
ولم يجد الأمريكيون بدا من دعم هذه الميليشيات جوا في معركة بيجي نظرا لحيوية هذه المنطقة، إلا أن حجم الانتهاكات التي ارتكبت في المدينة والمصفى القريب منها، والتي ادت إلى تدمير المدينة بنسبة 100٪، وإلى نهب المصفى والمعامل الصناعية المرتبطة به بالنسبة ذاتها، أوصل الأمريكيين إلى حقيقة مفادها أن أي تدخل للميليشيات في المعارك المستقبلية سيؤدي بالضرورة إلى تعقيد التوصل إلى أي ترتيبات سياسية لإدارة مرحلة ما بعد تنظيم الدولة/ داعش. من هنا جاء الاصرار الأمريكي على عدم مشاركة الميليشيات في معارك الانبار، مع التهديد بالامتناع عن تقديم أي اسناد جوي للقوات العراقية. ولقد حاولت الحكومة العراقية تجاهل هذا الشرط في البداية، عندما أطلقت عمليات تحرير الانبار في تموز/يوليو 2015، إلا أن عجز القوات العراقية والميليشيات عن تحقيق أي تقدم في المعارك، فضلا عن الخسائر الكبيرة التي تكبدتها هذه القوات، جعلت الحكومة العراقية تقتنع بانه من دون الإسناد الجوي الأمريكي لا إمكانية حقيقية لاستعادة المناطق التي يحتلها تنظيم الدولة/ داعش، ومن ثم اضطرت إلى القبول بالفيتو الأمريكي الخاص بعدم مشاركة الميليشيات في المعارك في عمق المناطق السنية، وقد تم الالتزام بهذا الفيتو في معركة الرمادي، والمعارك التي تلتها في هيت وكبيسة والرطبة.
لكن السياق السياسي لمعركة الفلوجة، فرض على الأمريكيين هذه المرة القبول بتسوية مختلفة فيما يتعلق بالميليشيات، وهي تسوية تعكس إلى حد ما تداخل العلاقات الإيرانية الأمريكية في العراق، فالعبادي المحتاج للدعم الإيراني الصريح في الصراع السياسي الشيعي الشيعي القائم في العراق اليوم، كان مضطرا لإشراك الميليشيات المدعومة إيرانيا في هذه المعركة، ذات الطابع الرمزي، خاصة بعد أن كان لميليشيا بدر دور كبير في إفشال حركة الاعتصام في مجلس النواب، عندما أدى انسحابها من الاعتصام إلى الاخلال بالنصاب، ومن ثم عجز النواب المعتصمون عن تحقيق جلسة قانونية. وتقضي التسوية التي قبلها الأمريكيون على مضض، بمنح الميليشيا حصتهم من الانتصار الرمزي في معركة الفلوجة عبر اعطائها قاطع الكرمة، المدينة التي تبعد مسافة 18 كم، في مقابل الاكتفاء بدور المتفرج في معركة مدينة الفلوجة نفسها. لذلك اكد رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي، ومعه هادي العامري قائد ميليشيا بدر، وستيف وارن الناطق الرسمي باسم التحالف الدولي، على ان الميليشيات لن تشارك في اقتحام المدينة، وأنها ستكتفي بدور التطويق والدعم.
مع هذا يبدو ان الرأسمال الرمزي لمدينة الفلوجة سيجعل من الصعب على الميليشيات وقادتها الالتزام بما ألزموا به، لاسيما مع عجز العبادي، بوصفه القائد العام للقوات المسلحة، على ضبط حركة هذه الميليشيات، أو التحكم بحركتها! وهو ما سيعقد العملية إلى حد بعيد، خاصة إذا ما قرر الأمريكيون وقف الإسناد الجوي، وقد تأتي تصريحات قائد قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش شون ماكفارلاند حول صعوبة وتعقيدات معركة الفلوجة في هذا الاتجاه.
الامر الاكثر تعقيدا في المشهد العراقي في سياق العمليات العسكرية القائمة اليوم، هو غياب الاستراتيجية لمواجهة مرحلة ما بعد داعش لدى الحكومة العراقية، ولدى الأمريكيين على السواء! حين يصر الطرفان على المقاربة العسكرية دون أية مقاربة سياسة موازية مع تباين في رؤيتهما لمرحلة ما بعد داعش؛ فالعبادي ومن خلفة التحالف الوطني يعتقد ان هزيمة تنظيم الدولة/ داعش ستمكنه من فرض رؤيته ومن ثم رؤية التحالف الشيعي، لطبيعة الدولة العراقية، أما الأمريكيون فيعتقدون ان هذه الهزيمة يمكن أن تقود إلى مقاربة سياسية مختلفة عما كان عليه الامر قبل سيطرة تنظيم الدولة/ داعش على المناطق السنية! لكن الوقائع على الأرض تؤكد أن الرؤية الاولى هي التي تفرض نفسها. ففي محافظة صلاح الدين انتهت المعركة ضد داعش بهيمنة الميليشيات المطلقة على المحافظة، إلى درجة التحكم بانتخابات منصب المحافظ نفسه. وفي الرمادي انتهت مرحلة ما بعد داعش إلى صراع نفوذ بين الفاعلين الرئيسيين في المدينة. وفي هيت وكبيسة والرطبة اعطيت لأمراء الحرب، من حلفاء الحكومة المركزية في بغداد، السلطة الفعلية على هذه المدن، وهو ما سيقود إلى توترات اجتماعية وسياسية مع سكان هذه المدن من جهة، وإلى صراع على الموارد من جهة ثانية. هذا فضلا عن محاولات أخرى لتغيير علاقات القوة بين العشائر في هذه المناطق، بناءً على طبيعة العلاقة مع الدولة، وهو ما سيقود في النهاية إلى صراعات عشائرية على النفوذ والهيمنة.
من كل ذلك يبدو من تجليات ما بعد داعش أنها إعادة انتاج للسياسات نفسها التي انتجت ظاهرة داعش، الذي تحول بفعل هذه السياسات وخلال أربع سنوات فقط من تنظيم مطارد باسم دولة العراق الإسلامية إلى ما سمي بدولة خلافة سيطرت في لحظة ما على أكثر من ثلث مساحة العراق وسوريا معا! وهو ما يهدد عمليا بفشل إمكانية هزيمة تنظيم الدولة/ داعش بشكل نهائي من جهة، ويهدد أيضا بإمكانية إنتاج جيل ثالث من القاعدة أكثر عنفا وأكثر راديكالية.

يحيى الكبيسي

صحيفة القدس العربي