عودة الأيديولوجيا إلى الغرب!

عودة الأيديولوجيا إلى الغرب!

nuit_debout_lakome_319050576

لا يزال مئات الشباب الفرنسيين معتصمين في الساحات الباريسية مرددين شعارات الثورة والتمرد الحالم في إطار حركة «منوي دبو» الاحتجاجية التي لم يخفت زخمها بعد أشهر من الانطلاق، على عكس حركات احتجاجية مماثلة عرفتها كبريات المدن الغربية منذ نهاية 2011: «أوكيبي ستريت» في نيويورك و«إندياتوس» في مدريد.

هل تشكل هذه الحركات تحولاً نوعياً في الساحة السياسية والتوجهات الأيديولوجية أم هي مجرد موجة استعراضية شكلية تعبر عن مناخ الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف منذ سنوات بمركز الرأسمالية العالمية؟

الكثيرون من الذين راهنوا على طبيعة حركيّة العولمة وانحسار الصراع الأيديولوجي بعد نهاية الحرب الباردة، اعتبروا أن العالم لم يعد فيه مكان للأنساق الأيديولوجية، وأن منطق السوق الكوني الموحد كرس معادلة أحادية لا يمكن الخروج عليها من منظور مفاهيم السيادة والخصوصية الثقافية المتجاوزة.

ولقد انهارت بالفعل أحزاب اليسار بعد تفكك المعسكر الشيوعي ولم تعد لها قوة انتخابية معتبرة، بل إن الأحزاب الاشتراكية في أوروبا غيرت برامجها وتوجهاتها وأصبحت أقرب لأحزاب الوسط الليبرالي وأغلبها دخل في تحالفات مع الأحزاب المحافظة اليمينية.

بيد أن العديد من الظواهر الأخيرة التي بدأت تستوقف الانتباه، تسير كلها في اتجاه استفاقة اليسار الراديكالي وعودته بقوة للساحة، من أبرزها: القوة المتصاعدة لحزب «بدموس» في إسبانيا و«سيرزيا» في اليونان، وفوز «جرمي كوربين» بزعامة حزب «العمال البريطاني»، وصعود «بيني ساندرز» في الانتخابات التمهيدية للحزب «الديموقراطي» الأميركي.

الأمر هنا لا يتعلق بتيار أيديولوجي جديد على غرار المنظومات الأيديولوجية السابقة، بل إن كل ظاهرة من هذه الظواهر لها خصوصيتها المحلية، بيد أنه يمكن أن نستبين خيوطاً جامعة بين هذه التوجهات الجديدة، في مستويين أساسيين هما:

أولاً: مواجهة هيمنة العولمة المالية بصفتها نمطاً من التسلط الوحشي والديكتاتورية الخفية، وإعادة الاعتبار للسياسة بصفتها التعبير عن الإرادة المشتركة والهوية الجماعية المتضامنة، وإذا كان هذا التوجه بدأ منذ التسعينيات بحركة العولمة المضادة التي تركزت في بلدان أميركا الجنوبية وأفضت إلى قيام الحكومات البوليفارية في عدد من هذه البلدان فإن الأزمة المالية الحادة التي عرفها لعالم منذ 2007 أججت الحركة الاحتجاجية في البلدان الغربية، وأدت إلى إضعاف الأحزاب التقليدية وإلى تنامي التنظيمات اليسارية التي كانت هامشية ضعيفة الحضور السياسي والانتخابي. من هنا تركيز هذه الاتجاهات الجديدة على السياسات الاجتماعية من تشغيل وضمان صحي وعودة الدولة القوية إلى ضبط حركيّة الاقتصاد والمالية.

ثانياً: بروز توجه شعبوي يساري بالموازاة مع التيارات الشعبوية اليمينية المتطرفة التي عرفت صعوداً استثنائياً في كل البلدان الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية كما هو جلي في ظاهرة المرشح الجمهوري «دونالد ترامب». اليسار التقليدي كما هو معروف بتميز نزعته الإنسانية الكونية وعزوفه عن الهويات القومية وميوله الاجتماعية، بينما اليسار الجديد لم يعد يدافع عن مصالح طبقية في سياق عملية الصراع الاجتماعي، بل يدافع عن الهوية الجماعية في مواجهة منطق القولبة الكونية للأسواق وخصخصة المنافع العمومية. ولعل أهم من بلور هذه الرؤية هو المفكر الأرجنتيني «أرنست لاكلو» الذي أثر بقوة في التيارات الاحتجاجية الجديدة (يعتبر الأب الروحي لحزب بوديموس الإسباني) في كتابه «العقل الشعبوي» (صدر 2005). في هذا الكتاب، ينتقد لاكلو الأطروحة الماركسية في الصراع الطبقي، معتبراً أن السياسة ليست هي التعبير السياسي عن الصراع الاقتصادي الاجتماعي، بل تكمن في إبداع الهوية المشتركة التي تتجاوز المطالب الخصوصية للأطراف المتصارعة لبناء قوة هيمنة تربط بين خصوصيات متمايزة في شكل تيار احتجاجي يتحول إلى قوة انتخابية في عملية الصراع السياسي.

وإذا كان من الصحيح أن هذه الأفكار لا تصل إلى مستوى المشروع الفكري أو الأيديولوجي المكتمل، إلا أنها تتقاطع مع توجهات فلسفية وفكرية ملموسة في الغرب تسير كلها في اتجاه إعادة التفكير في مقومات ومقتضيات العيش الجماعي الذي هو موضوع السياسة، ومن هنا الاهتمام المتزايد بإشكالية «المشترك» في الكتابات الفلسفية بعد أن أصبح الوعي متزايداً بعجز الدولة القومية السيادية عن تأمين هذا الأفق وفشل الرهان على خيار السيادة المتقاسمة الذي طرحته أدبيات العولمة بعد نهاية الحرب الباردة.

د. السيد ولد أباه

نقلا عن جريدة الاتحاد