معركة الفلوجة الثالثة: أجندات متضاربة ومكاسب هشة

معركة الفلوجة الثالثة: أجندات متضاربة ومكاسب هشة

أهمية معركة الفلوجة

مقدمة

في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في 2003، شهدت مدينة الفلوجة معركتين كبيرتين في العام 2004 ضد القوات الأميركية التي أُرغمت على التفاوض مع أهلها لوقف القتال في المعركة الأولى، واضطرت إلى استخدام القنابل الفسفورية المحرمة دوليًا لكسب المعركة الثانية.

بعد عام كامل من الحركة الاحتجاجية التي شهدتها المحافظات السُنِّية في العام 2013 ضد حكومة نوري المالكي والتي انتهت بإحراق ساحة اعتصام الرمادي نهاية العام 2013، اتخذت الحركة طابعًا مسلحًا أجبر وحدات الجيش والشرطة الاتحادية على مغادرة مركز مدينة الرمادي، في حين سلَّمت الشرطة المحلية مدينة الفلوجة لمسلحي العشائر ليفرض بعدها تنظيم الدولة الإسلامية السيطرة على كامل المدينة في 2 يناير/كانون الثاني 2014، كأول مدينة يسيطر عليها في العراق.

شنَّت القوات الأمنية العراقية والأخرى المساندة لها قرابة 70 هجومًا فاشلًا لاستعادة المدينة بمشاركة من طيران التحالف الدولي والطيران العراقي؛ وتعرضت المدينة إلى حصار كامل منذ سقوطها بيد التنظيم، وحملات قصف بري وجوي عشوائي راح ضحيته أكثر من خمسة آلاف قتيل، معظمهم من الأطفال والنساء، حسب إحصائيات ينشرها مستشفى الفلوجة التعليمي، المصدر الوحيد لمثل هذه المعلومات من داخل المدينة التي لا يسمح تنظيم الدولة لوسائل الإعلام أو الإعلاميين بالعمل من داخلها.

في 22 مايو/أيار 2016، أعلن رئيس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة العراقية، حيدر العبادي، عملية عسكرية تحمل اسم “كسر الإرهاب” لاستعادة المدينة بعد فتح ممرات آمنة لخروج المدنيين؛ لكن القوات الأمنية باشرت عمليات القصف البري بصواريخ الراجمات وقذائف المدفعية الثقيلة بعد ست ساعات فقط من الإعلان عن العملية.

ومع مضي أسابيع على المعركة، برز بشكل جلي ما يشير إلى ترسيخ النهج الطائفي في رسم مسارات المعركة التي تخلَّلتها انتهاكات تراوحت بين اعتقالات عشوائية وتغييب المئات، إلى إعدامات ميدانية وعمليات قتل وتعذيب تعكس الوجه الحقيقي للمعركة التي يقودها الحشد الشعبي.

الأهمية الحيوية لمدينة الفلوجة

تتميز مدينة الفلوجة بتركيبة سكانية متجانسة قوميًّا وطائفيًّا؛ حيث يقتصر الوجود السكاني فيها على العرب السُنَّة.

وتأتي أهميتها الحيوية لأطراف الصراع من موقعها الجغرافي الذي يوجد على  أقل من 60 كيلومترًا إلى الغرب من العاصمة بغداد. كما أنها تقع على الطريق الواصل بين العراق والأردن بأهميته الاقتصادية والعسكرية؛ وتتفرع عنها طرق برية إلى مدينة سامراء ومنها شمالًا إلى محافظتي صلاح الدين ونينوى، ومن المدينة جنوبًا إلى محافظات بابل والنجف وكربلاء.

تتواجد نخبة من قيادات التنظيم وكوادره المتقدمة في المدينة التي يحمل سكانها شعورًا بالإقصاء واضطهاد الحكومة لهم على خلفيات طائفية عزَّزتها المواقف الحكومية من الحركة الاحتجاجية، كما يتخوف سكانها من حملات انتقامية قد يتعرضون لها على يد الحشد الشعبي والقوات الأمنية التي يغلب على عناصرها الانتماء الطائفي المغاير.

انتماء معظم المقاتلين إلى نفس المدينة يعطي انطباعًا بتضاؤل احتمالات ترك المدينة، والإصرار على القتال دفاعًا عنها، بخلاف ما فعله التنظيم في مدن أخرى مثل هيت والرطبة، كما أن عدم فتح ممرات آمنة للخروج يعزِّز استمرارية المعركة طالما كانت هناك وفرة من المقاتلين والسلاح والذخيرة.

الجانب الإنساني في المعركة والبُعد الطائفي

تعرضت المدينة إلى قصف مدفعي وصاروخي عنيف منذ الساعة الرابعة فجر 23 مايو/أيار 2016، أي بعد ست ساعات فقط من إعلان الحكومة العراقية بدء عملية “كسر الإرهاب” ودعوة المدنيين لمغادرة المدينة، وهي مدة زمنية لا تكفي لنزوح آمن لما يزيد عن 50 ألف نسمة يعيشون في المدينة، ووفق تقديرات لمسؤولين في الأمم المتحدة تحدثوا عن تمكن نحو 800 شخص فقط من الفرار قبل غلق القوات الأمنية الطرق المؤدية إلى المدينة، وبالتالي “مُنع المدنيون من المغادرة”، كما صرَّحت منظمة شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة؛ وتتحمل الحكومة العراقية مسؤولية تأمين ممرات آمنة لخروج المدنيين والحفاظ على سلامتهم وفقًا للقانون الإنساني الدولي الضامن لحماية ضحايا النزاعات المسلحة.

يأخذ منع المدنيين من مغادرة الفلوجة منحيين مختلفين؛ أحدهما يتعلق بانتهاك القانون الإنساني الدولي الذي يفرض على أطراف النزاع حماية المدنيين، وتتحمل الحكومة العراقية مسؤولية حمايتهم بصفتهم “أشخاص لا يشاركون في الأعمال العدائية، كالمدنيين، وعُمَّال الصحة، وعُمَّال الإغاثة، والأشخاص الذين توقفوا عن المشاركة في الأعمال العدائية من قبيل الجرحى، والمرضى، وأسرى الحرب”، كما ورد في اتفاقيات جنيف 1949 وبروتوكولاتها الإضافية لعام 1977.

والمنحى الآخر يتعلق بقناعات تنطلق من أبعاد طائفية ذات نزعة ثأرية انتقامية تحملها الميليشيات الشيعية والحشد الشعبي ضد سكان المدينة؛ حيث تنظر قيادات شيعية إلى مدينة الفلوجة على أنها “منبع الإرهاب” وهي “وَرَمٌ يجب استئصاله” (1)، حسب تصريحات منسوبة لقائد لواء أبي الفضل العباس، أوس الخفاجي، في 23 مايو/أيار 2016.

وتعكس ممارسات فصائل الحشد الشعبي بشكل منهجي مضامين تصريحات قيادات رسمية زارت مناطق القتال، مثل نائب رئيس الجمهورية، نوري المالكي، الذي دعا في 25 مايو/أيار 2016 إلى زيادة “زَخَم” القصف الصاروخي والمدفعي على المدينة بوصفها “رأس الأفعى”.

أعدمت فصائل الحشد الشعبي “سبعة عشر شخصًا من بين ثلاثة وسبعين من أبناء مدينة الكرمة تم اعتقالهم بعد عزلهم عن عوائلهم”، في 29 مايو/أيار 2016، وهي عملية في سلسلة من عمليات الاستهداف على أسس طائفية منذ معركة استعادة جرف الصخر صيف العام 2014، ومحاولة الإيحاء عبر تبريرات رسمية حكومية أو من قيادات دينية أو سياسية بأنها عمليات فردية لا تعكس حقيقة منهج الحشد الشعبي المتهم بارتكاب “انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك جرائم الحرب”، حسب تقرير منظمة العفو الدولية في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2014، الذي حمَّل “الحكومة العراقية المسؤولية إلى حدٍّ كبير عما ترتكبه هذه الميليشيات التي تدعمها الحكومة وتسلحها وهي تمارس نشاطاتها بالقتل والاختطاف وفق مستويات متفاوتة من التعاون مع القوات الحكومية، ما بين موافقة هذه الأخيرة ضمنيًّا، وتنفيذ عمليات منسقة، بل وحتى مشتركة فيما بينها” (2).

أهم القوات المشاركة في عملية “كسر الإرهاب”

من ضمن أهم المعلومات التي يحرص تنظيم الدولة على عدم تسريبها، أعداد المقاتلين المدافعين عن هذه المدينة أو تلك، وأعداد الجنود والشرط المكلفين بالعمل داخل المدن، وهي معلومات متوفرة لدى عدَّة جهات متخصصة مثلًا بتوزيع الرواتب؛ لكنها تبقى معلومات متداولة في نطاق ضيق داخل التنظيم نفسه، وتظل التقديرات هي مجرد أرقام تقريبية طالما لم يصدر ما يؤكد صحتها من مصادر رسمية بالتنظيم.

تشير تقديرات أميركية إلى تواجد ما بين 500 و1000 مقاتل من تنظيم الدولة في مركز مدينة الفلوجة في مواجهة نحو 30000 من الجيش العراقي والشرطة الاتحادية والحشد الشعبي ومقاتلي العشائر السُنِّية وقوة مكافحة الإرهاب وأفواج طوارئ شرطة الأنبار.

يتصدر الجيش العراقي قائمة القوات المشاركة في عملية “كسر الإرهاب”؛ وتميَّز هذا الجيش بالأداء الضعيف في الدفاع عن مدينة الموصل؛ لكن ثمة تطور في قدراته بمساعدة التحالف الدولي الذي درَّب العديد من وحداته التي ستظل كقوة مساندة، وليست قوة أساسية في عملية اقتحام الفلوجة المرتقبة التي ستُسند مهمتها إلى قوة جهاز مكافحة الإرهاب، أو قوة العمليات الخاصة مثل الفرقة المعروفة باسم الفرقة الذهبية؛ وتعد قوة جهاز مكافحة الإرهاب من أهم القوات ذات القدرات القتالية المتقدمة التي اكتسبتها من التدريبات التي تلقتها على يد القوات الأميركية خلال فترة الاحتلال، وقتاله تنظيم الدولة خلال عامين ونصف أعقبا سقوط مدينة الفلوجة بيد التنظيم.

وتأتي في المرتبة الثانية عدديًّا، قوات الحشد الشعبي التي تحظى بدعم إيراني يشمل التدريب والتسليح المتطور؛ والأولى من حيث الهيمنة على القرار العسكري وقيادة المعركة.

ومن القوى الأخرى المساندة للعملية العسكرية، الشرطة العراقية بصنفيها: الاتحادية التي يغلب على عناصرها الانتماء (الشيعي)، والمحلية التي تتشكَّل من أبناء المناطق، وفي الأنبار، هم من العرب السُنَّة حصرًا؛ كما تشارك قوة من مقاتلي العشائر السُنِّية الذين تلقوا تدريباتهم ضمن البرنامج الأميركي لتدريب المقاتلين السُنَّة، إضافة إلى مقاتلي الصحوات العشائرية السُنِّية.

ويتلقى مجمل القوات دعمًا من تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة ينفِّذ ضربات جوية مكثَّفة ضد تنظيم الدولة في العراق وسوريا، ويتولى تدريب الفصائل والقوات التي تقاتل التنظيم.

الحشد الشعبي: الدور المفروض

مهمات الحشد الشعبي، حسب تصريحات الأمين العام لمنظمة بدر، هادي العامري، تتمثَّل في “محاصرة المدينة من كل الاتجاهات وتأمين الدعم للقوات الأمنية”، وقرار الحشد الشعبي هو “عدم الدخول إلى الفلوجة مع القوات الأمنية إلا عندما تعجز الأجهزة الأمنية عن تطهير المدينة” (3).

ابتدأت المرحلة الثالثة والأخيرة، حسب توقيتات وتسميات خاصة بالحشد الشعبي، بعد “الانتهاء من محاصرة مدينة الفلوجة بالكامل، لتكون مهمة تحرير مركزها موكلة للقوات الأمنية وجهاز مكافحة الإرهاب من دون مشاركة الحشد الشعبي الذي “أنهى المهمة التي أُوكلت له، وهي محاصرة المدينة بالكامل بعد تحرير الكرمة والصقلاوية والبوشجل” (4)؛ وترفض هذا الموقف قوى وقيادات شيعية لها فصائل تقاتل ضمن الحشد الشعبي، مثل رئيس المجلس الأعلى الإسلامي، عمَّار الحكيم، الذي يشارك جناحه المسلح، سرايا عاشوراء في المعركة؛ ويرى أن من حق المقاتل “الذي يجود بدمه أن يقاتل في أي مكان من العراق” (5)، في إشارة إلى الرغبة في المشاركة باقتحام الفلوجة والدخول إليها.

وترى الولايات المتحدة حسب تقديراتها “عدم وجود خطة لدخول مقاتلي الحشد الشعبي إلى المدينة الذين سيبقون على أطراف المدينة التي من المفترض أن تدخل إلى مركزها القوات الأمنية مع 4 آلاف مقاتل من العشائر السُنِّية” (6)، بحسب المتحدث باسم التحالف الدولي، العقيد ستيف وارن؛ وستتوقف “الغارات الجوية ومساندة الجيش لتحرير الفلوجة إذا اقتحم الحشد المدينة، وكان التحالف الدولي قد نفَّذ 48 غارة على الفلوجة خلال أسبوعين فقط” (7)، كما قال الناطق باسم القوات الأميركية في العراق، الجنرال كريستوفر كارفر، لكنها تبقى عمليات دعم لا تندرج في إطار الدعم المباشر لعمليات الحشد الشعبي على شكل غطاء جوي لإسناد عملياته القتالية.

الحكومة العراقية أعلنت في 1 يونيو/حزيران 2016، تأجيل اقتحام الفلوجة للحفاظ على حياة المدنيين داخل المدينة، والعسكريين خارجها، ولكن ما لبث رئيس الوزراء أن تراجع عن هذه التصريحات؛ ولم يحظ الإعلان بأي اهتمام من قيادات الحشد الشعبي التي واصلت عملياتها المعتادة في مناطق عملياتها، ونفت “شائعات توقُّف عملية تحرير الفلوجة” (8)؛ إلا أن ضابطًا عراقيًّا أرجع سبب الإعلان إلى الخسائر الكبيرة، “التي بلغت 1350 قتيلًا في صفوف الحشد الشعبي خلال عشرة أيام، في حين بلغ عدد القتلى في صفوف الجيش نحو 400، بينهم ضباط؛ وبلغ عدد قتلى الحشد العشائري نحو 200، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى وخسائر مادية عالية” (9).

يرفض الحشد الشعبي المشاركة في المعارك بغطاء جوي أميركي؛ فيما تحاول الولايات المتحدة استبعاد الحشد الشعبي من المشاركة في عمليات استعادة المدن لعدَّة أسباب:

  1. الحرص على الحدِّ من الأسباب المؤدية لتأجيج المشاعر الطائفية كنتيجة لانتهاكات الحشد الشعبي للمدن السُنية المستعادة.
  2. بذلت الولايات المتحدة جهودًا كبيرة للحدِّ من قدرات تنظيم الدولة على تجنيد المقاتلين، وتعتقد الولايات المتحدة أن إشراك الحشد الشعبي يمكن أن يكون عامل جذب للانضمام إلى صفوف التنظيم كردِّ فعل على ممارساته الطائفية.

تكتيكات التنظيم في مواجهة القوات المهاجمة

أعلنت قيادة العمليات المشتركة انطلاق عملية “كسر الإرهاب” لاستعادة مدينة الفلوجة من تنظيم الدولة بالهجوم عليها من ثلاثة محاور جغرافية، وعلى ثلاث مراحل زمنية غير محددة لإحكام الحصار على المدينة وقطع خطوط إمدادات تنظيم الدولة في مرحلتها الأولى التي نجحت في استعادة ناحية الكرمة، في المحور الشرقي؛ إضافة إلى مناطق واسعة من محيط ناحية الصقلاوية في المحور الشمالي، ومنطقة النعيمية في المحور الجنوبي، وهما بوابتا الدخول إلى أطراف المدينة ومركزها.

وأعلنت قيادة العمليات المشتركة عن بدء المرحلة الثانية من معركة الفلوجة في 26 مايو/أيار 2016؛ وتتضمن تعزيز السيطرة على المناطق التي استعادتها من تنظيم الدولة، والتقدم نحو أهداف محددة لتضييق الخناق وصولًا إلى أطراف المدينة تمهيدًا لاقتحامها في مرحلة العملية الثالثة والأخيرة التي أُعلن عنها في الأول من يونيو/حزيران 2016.

تبدأ المرحلة الثالثة، وفق مسؤولين عسكريين، بتأمين السيطرة على نقاط استراتيجية تتحكم بالمحور الغربي للمدينة؛ مثل الطريق الرابط بين ناحية عامرية الفلوجة، وتقاطع السلام، على طريق المؤدي إلى معسكر الحبانية وناحية الخالدية، مركز تجمع وحدات الفرقة الثامنة وعدد من أفواج طوارئ شرطة الأنبار وفصائل تابعة للحشد الشعبي.

بعد أقل من ثلاثة أيام على بدء العملية، خسر تنظيم الدولة مدينة الكرمة شرق الفلوجة، وأجزاء كبيرة من ناحية الصقلاوية القريبة من الفلوجة على محورها الشمالي؛ كما خسر مناطق أخرى في المحورين الجنوبي والشرقي؛ في مقابل ذلك حقَّق نجاحات في مدن مثل قضاء هيت الذي سيطر على مركزه وأكثر من نصف أحيائه السكنية، كما هي الحال في ناحية كبيسة المجاورة، بهدف تأمين خطوط الإمداد إلى الفلوجة من خلال استعادة السيطرة على مناطق شمال الرمادي، مثل أجزاء من منطقتي البوفراج والبوعيثة جوار الطريق الدولي من جهة؛ ومن جهة أخرى، تشتيت القوات الأمنية لتخفيف الضغط على جبهة قتاله في الفلوجة.

تقترب التكتيكات القتالية لتنظيم الدولة في مواجهة عملية اقتحام مدينة الفلوجة من تكتيكاته المعروفة بالاعتماد على العمليات الانتحارية في التصدي للقوات المهاجمة، والهجمات المعاكسة لاستنزاف القوة المهاجمة، إضافة إلى زرع العبوات حول المدينة على عدة خطوط تنتهي بتفخيخ المباني الواقعة في اطراف الأحياء السكنية حول المدينة؛ وهو التكتيك المتبع في الدفاع عن مدينتي تكريت التي خسرها التنظيم في 2 أبريل/ نيسان 2015، والرمادي التي خسرها في نهاية العام 2015، والفلوجة المتوقع خسارتها خلال فترة تطول لأسابيع أو اشهر، حيث تعدد جبهات الدفاع عن مناطق سيطرته في أكثر من نقطة اشتباك وميدان معركة في سورية والعراق، مع غياب وجه المقارنة في الموازنة العددية بين مقاتليه والقوات المُشكلة من أكثر من طرف، وكذلك غياب التوازن في القوة التسليحية بين الطرفين؛ مع احتمالات ضئيلة لنجاح تنظيم الدولة في كسر الهجوم وتحقيق انتصارات وفق الحسابات العسكرية في حال تفكك التحالفات الضمنية بين الحشد والقوات المقاتلة الأخرى، أو التخلي النهائي للتحالف الدولي العامل الحاسم في استعادة المدن.

كانت القوات الأمنية العراقية قد حققت نجاحات سريعة في عملية استعادة السيطرة على مدينة هيت؛ وتكررت هذه النجاحات بشكل أكثر سهولة في عملية استعادة قضاء الرطبة التي انسحب منها مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية، في 18 مايو/أيار 2016، دون معارك مهمة لتصل نسبة الأراضي التي خسرها التنظيم في العراق إلى حوالي 45% قبل بدء عملية “كسر الإرهاب”(10)، وفق تصريحات وزارة الدفاع الأميركية في 17 مايو/أيار 2016.

تمسكت القوات الأمنية في عملية “كسر الإرهاب” بتكتيك اقتحام المدن على غرار اقتحام مدينة الرمادي، في 27 ديسمبر/كانون الأول 2015، التي بدأت بالسيطرة على مناطق جديدة في محيط المدينة للاقتراب من مركزها بشكل تدريجي تمهيدًا لاقتحامها من قِبل “الفرقة الذهبية”، القوة الأساسية المعوَّل عليها في اقتحام المدن. وقد نجحت باستعادة أكثر من مدينة قامت بتسليمها إلى قوات أخرى لتباشر اقتحام مدن ثانية؛ كما حدث في استعادة قضاء هيت، في 2 إبريل/نيسان 2016، والانطلاق منه نحو مدينة الرطبة التي استعادتها في 17 مايو/أيار 2016.

أسباب ترجيح احتمالات خسارة التنظيم للمدينة

على الرغم من أهمية مدينة الفلوجة ومكانتها لدى قادة تنظيم الدولة، وهي المعقل الأهم له في الأنبار؛ إلا أن التنظيم لا يواصل القتال حتى النهاية في معركة خاسرة عسكريًّا عندما يتيقن بحتمية الخسارة؛ وفي معركة الفلوجة “قد” يقاتل التنظيم حتى النهاية لعدم إمكانية سحب مقاتليه من المدينة بعد ان أحكمت القوات المهاجمة الطوق حولها من جانب، وانتماء غالبية المقاتلين إلى المدينة نفسها، من جانب آخر.

ويمكن تقسيم الأسباب التي ترجِّح خسارة تنظيم الدولة معركة الفلوجة، أو انسحابه من المدينة، إلى أسباب ذاتية تقع ضمن خيارات متاحة أمامه، وأخرى تفرضها عوامل ترتبط بموازين القوى والأساليب العسكرية التي يستخدمها التحالف الدولي والحكومة العراقية، من بينها سياسة الأرض المحروقة التي تؤدي إلى تدمير المدينة.

من بين أهم هذه الأسباب:

1-      الحفاظ على أرواح مقاتليه

يعتقد التنظيم أن لديه مشروعًا يتعدى أهمية السيطرة على المدن والبقاء فيها، ويأتي الحفاظ على أرواح مقاتليه في أولويات استراتيجيات مشروعه الذي لا يمكن إنفاذه إلا بخزان كبير من المقاتلين.

2-      رفض التنظيم تقبل خسارة المعارك وفق معايير النصر والهزيمة في المعايير العسكرية

يدرك تنظيم الدولة التباين الكبير بين عدد مقاتليه وتسليحهم مقارنة بعدد القوات المهاجمة وتفوقها التسليحي، خاصة دخول طيران التحالف الدولي العامل الحاسم في خسارة التنظيم لكل معاركه في بيجي وجرف الصخر وتكريت والرمادي وغيرها.

ويقدِّم التحالف الدولي دعمًا للقوات الأمنية العراقية، وبالتالي سيكون هناك دعم لجميع القوات التي تقاتل تحت قيادة القوات الأمنية، أي القوات التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع.

3-      طبيعة تكتيكات القوات الأمنية في السيطرة على محيط المدينة

كما سبق أن حصل في الرمادي، تعتمد القوات الأمنية عمومًا تكتيكيًا يُفضي إلى التقدم ببطء نحو أطراف المدينة تمهيدًا لاقتحام مركزها؛ وقد فرضت تلك القوات سيطرتها على الكثير من المناطق في محيط المدينة من محاورها شمالًا وشرقًا وجنوبًا، فيما ظلَّ محورها الرابع بعيدًا عن المعارك القتالية قبل الإعلان عن المرحلة الثالثة من العملية لإحكام الحصار على المدينة من محاورها الأربع.

4-      الرغبة في الحفاظ على البنية التحتية ومنازل المدنيين

مَرَّ تنظيم الدولة بتجربتين متماثلتين في الرمادي وكوباني حيث تعرضت المدينتان إلى دمار تام جرَّاء قصف طيران التحالف لهما؛ وجُوبِه التنظيم بانتقادات شديدة حمَّلته مسؤولية الدمار الذي حلَّ بمدينة الرمادي لعدم سحب مقاتليه وإعطاء التحالف الدولي الذريعة لتدميرها.

وفي حالة الفلوجة الراهنة يبدو الأمر أكثر تعقيدًا مع وفرة المزيد من احتمالات تدميرها بعد دخول عاملي الانتقام الثأري والحقد الطائفي الذي ظهر جليًّا على لسان مسؤولين وقادة في الحشد الشعبي والميليشيات الشيعية، ومارسه بعض الفصائل بشكل يعكس نهجًا طائفيًّا خلق ردود أفعال غاضبة على صعيد القوى السُنِّية السياسية أو الشعبية.

5-      انسحاب التنظيم لا يعني تأمين المدينة ومحيطها

ستحتاج الحكومة العراقية إلى قوات قادرة على حماية المدن ومنع سقوطها ثانية بيد تنظيم الدولة؛ حيث ستضغط الولايات المتحدة لسحب مقاتلي الحشد من مدن الأنبار وتسليمها لقوات حكومية كشرط مسبق لمشاركتها بالغطاء الجوي، بخلاف ما عليه الحال في محافظة صلاح الدين التي ما زالت فصائل الحشد الشعبي تسيطر على مدن تكريت وبيجي وسامراء؛ وقد عملت الولايات المتحدة على تدريب عدة آلاف من شرطة الأنبار ومقاتلين عشائريين لهذا الغرض لكن أثبت الهجوم على هيت عدم قدرتهم على حماية المدينة.

نتائج محتملة

استعادة الفلوجة لن تؤدي إلى نهاية التفجيرات التي تضرب العاصمة بشكل متواصل؛ كما يرد على لسان بعض المسؤولين في الحكومة والحشد الشعبي؛ فقد شهدت مدينة الصدر شمال العاصمة تفجيرًا انتحاريًّا أدَّى إلى مقتل حوالي مئة شخص في 11 مايو/أيار 2016، على الرغم من الحصار المفروض على الفلوجة. كما أن استعادة المدينة لا تعني تأمين مركزها أو محيطها الذي قد يحتاج إلى عدَّة أشهر.

مع خسارة الفلوجة والانتهاكات التي رافقتها، ومع غياب قوة مسلحة سُنِّية بديلة قادرة على حماية السكان السنَّة، سيؤدي ذلك إلى التحاق المزيد من الشباب السُنِّي بالقتال في صفوف التنظيم.

لا يُستبعد قيام الحشد الشعبي والقوات الأمنية بارتكاب أعمال انتقامية ضد سكان الفلوجة بدافع مشاعر الكراهية والثأر الموجودة أصلًا على خلفية تطرف المكونين السُنِّي والشيعي الذي عزَّزته الانتهاكات المتبادلة، والحديث العلني بالانتقام على لسان قادة الحشد الشعبي وقيادات دينية شيعية ظهرت بالزي العسكري منذ إعلان عملية “كسر الإرهاب”؛ وستؤدي تلك الانتهاكات إلى تعميق الشرخ الطائفي في البلاد.

على الرغم من تأكيدات مسؤولين عسكريين في الجيش العراقي على إعطاء “حماية المدنيين أولوية قصوى”، ستظل خشية العرب السُنَّة من تكرار الانتهاكات ضد سكان المدينة قائمة بعد دخول الحشد الشعبي إليها، كما حدث في جرف الصخر وتكريت.

انتماء معظم المقاتلين إلى نفس المدينة يُعطي انطباعًا بتضاؤل احتمالات ترك المدينة، والإصرار على القتال دفاعًا عنها على غير ما فعله التنظيم في مدن أخرى مثل هيت والرطبة.

_________________________________

رائد الحامد – مركز الجزيرة للدراسات

مراجع

1 أوس الخفاجي يحرِّض على “استئصال ورم الفلوجة ومنبع الإرهاب”.. والعبادي يتبرأ منه: “لا يمثِّل الحشد الشعبي ولا يقاتل فيها أصلًا”، سي إن إن العربية، 26 مايو/أيار 2016 (تاريخ الدخول: 7 يونيو/حزيران 2016)

http://arabic.cnn.com/middleeast/2016/05/26/fallujah-operations-tensions-abbadi-khafaji

انظر في: منظمة العفو الدولية، إفلات تام من العقاب: حكم الميليشيات في العراق، رقم الوثيقة: MDE 14/015/2014، 14  أكتوبر/تشرين الأول 2014.

3 العامري: “الحشد لن يدخل الفلوجة”، قناة الحرة الفضائية، 24 مايو/أيار 2016 (تاريخ الدخول: 7 يونيو/حزيران 2016) http://www.alhurra.com/content/iraq-fallujah-offensive/307381.html

المهندس يعلن انتهاء المرحلة الثانية من معركة تحرير الفلوجة، قناة المنار، 5 يونيو/حزيران 2016 (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2016)

http://www.almanar.com.lb/322430

الحكيم يرفض عدم مشاركة الحشد باقتحام الفلوجة: لا خطوط للحشد، موقع شفق نيوز، 5 يونيو/حزيران 2016 (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2016)

http://www.ara.shafaaq.com/74874

6 التحالف الدولي: قوات الحشد الشعبي لن تدخل الفلوجة، وكالة أنباء الاناضول، 26 مايو/أيار 2016 (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2016) إضغط هنا.

الحشد الشعبي: التحالف الدولي لا يريد تحرير الفلوجة على يد أبناء العراق، شبكة رووداو الاعلامية، 5 يونيو/حزيران 2016

 (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2016)

http://rudaw.net/arabic/middleeast/iraq/0406201614

الحشد الشعبي ينفي شائعات توقف عملية تحرير الفلوجة، شبكة رووداو الاعلامية، 24 مايو/أيار 2016 (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2016) http://rudaw.net/mobile/arabic/middleeast/iraq/2405201611

تأجيل اقتحام الفلوجة سببُه ارتفاع قتلى الجيش، الجزيرة نت، 4 يونيو/حزيران 2016 (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2016 http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2016/6/4/%D8%AA%D8%A3%D8%AC%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D9%88%D8%AC%D8%A9-%D8%B3%D8%A8%D8%A8%D9%87-%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B9-%D9%82%D8%AA%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4

10 البنتاغون: نفوذ تنظيم الدولة تقلَّص بالعراق وسوريا، الجزيرة نت، 17 مايو/أيار 2016 (تاريخ الدخول: 6 يونيو/حزيران 2016) إضغط هنا.