الشرق الأوسط لا يزال بحاجة إلى تركيا

الشرق الأوسط لا يزال بحاجة إلى تركيا

563687e0c46188e52f8b45ed

دائمًا ما كان ينظر إلى تركيا، لسبب وجيه، على أنها نموذج يحتذى به في الشرق الأوسط؛ فقد كانت جمهورية راسخة، أكثر استقرارًا وأكثر ديموقراطية من معظم دول المنطقة. فقد منح الإرث الحداثي لأتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، دولته ميزة دائمة تميزها عن معظم بلدان العالم العربي. كما أن موقعها بين قارتين يجعلها مناسبة تمامًا لتكون جسرًا ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا بين أوروبا والشرق الأوسط.

يغلب على تركيا أيضًا الدين الإسلامي، ما يجعلها أكثر استعدادًا لتكون نموذجًا يحتذى به للدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط. وقد عزز وصول حزب “العدالة والتنمية” للحكم قبل 14 عامًا، وهو حزب يوصف بأنه إسلامي معتدل، هذا النموذج. فقد أثبت الحزب أنه من الممكن لحزب مثل هذا ليس فقط أن يصل للسلطة بطرق ديموقراطية سلمية في جمهورية علمانية، ولكن أيضًا أن يجمع سجلًا قويًا من الحكم الرشيد والنمو الاقتصادي، كما فعل “العدالة والتنمية” في سنواته الأولى.

إن المنطقة الصعبة التي تحيط بتركيا تمنحها حافزًا للتواصل مع الدول الموجودة إلى جنوبها، وحتى ولو كان فقط من أجل الحيلولة دون وصول مشكلاتها إلى تركيا، وقد قامت حكومة العدالة والتنمية بهذا بالفعل. حتى إن مشكلة انفصال الأكراد بدا وكأنها أصبحت أقل إثارة للمشاكل؛ حيث انفتحت تركيا على الأكراد واتخذت موقفًا أكثر إيجابية تجاه حكومة إقليم كردستان شمال العراق.

لكن هذه الصورة الإيجابية للدور التركي قد تمزقت خلال السنوات القليلة الماضية؛ لسببين أساسيين: الأول هو الطرق الاستبدادية المتزايدة لرجب طيب أردوغان؛ فقد انتقل رئيس الوزراء السابق إلى الرئاسة عازمًا على تحويل هذا المنصب إلى سلطة تنفيذية قوية، لكن أي تعديل دستوري مشابه هو الآن أقل أهمية من التآكل المثير للقلق للحقوق المدنية والسياسية؛ حيث يتم تكميم أفواه الصحفيين وإعاقة عمل القضاة. وكانت الخطوة الأخيرة لأردوغان في محاولاته للقضاء على أي اعتراض على تجميع السلطات في يديه، هي إعلان الحركة التي يقودها فتح الله كولن حركة إرهابية -وهو اتهام عارٍ تمامًا عن الصحة.

أما السبب الرئيسي الثاني الذي غيره الدور التركي، فقد كان الحرب الأهلية في سوريا، على الحدود الجنوبية لتركيا. فقد انتهت الحال بالعلاقات المتقلبة بين أنقرة والنظام في دمشق أن أصبحت عداءً قويًا، مع عرقلة إصرار أردوغان على معارضة النظام السوري لجهود الآخرين لمكافحة ما يطلق عليه تنظيم الدولة الإسلامية، أو داعش. وقد اشتعلت الأزمة الكردية من جديد، في ظل معارضة أنقرة لأي تعاون مع المجموعات الكردية المسلحة في سوريا، والتي يراها البعض خصمًا فاعلًا للدولة الإسلامية، في حين تعتبرها الحكومة التركية ذراعًا لجماعة المتمردين الأكراد داخل تركيا.

وقد كان تأثير هذه التطورات في العلاقات التركية مع القوى الخارجية عميقًا وسلبيًا. فبالنسبة للغرب تمثل تركيا، التي كانت هي نفسها شريكًا أساسيًا في الكثير من المسائل الدبلوماسية والأمنية (ولا تزال ثاني أكبر جيش في حلف الناتو)، مشكلة كبيرة في مجال حقوق الإنسان. والسبب الوحيد الذي لم يجعل العلاقات الغربية مع تركيا أكثر سوءًا هو الاعتماد الأوروبي على تركيا في وقف تدفق المهاجرين من الشرق الأوسط إلى أوروبا.

وقد أصبح التراجع في العلاقات التركية الروسية أكثر حدة؛ بعد أن كانت هذه العلاقة تشهد تحسنًا كبيرًا قبل عشر سنوات، على الرغم من نشوب عدة حروب بين الإمبراطوريتين العثمانية والروسية؛ فقد أعادت الحرب الأهلية في سوريا، في ظل دعم تركيا وروسيا لطرفين متنازعين، بالإضافة إلى قرب الحرب الشرسة من الحدود مع تركيا، إلى حالتها السابقة. وقد كان الفصل الأسوأ في العلاقات المضطربة بين البلدين في نوفمبر الماضي عندما أسقطت تركيا طائرة روسية اخترقت مجالها الجوي خلال مهمة لها ضد المعارضة السورية. وقد أظهر استطلاع حديث للرأي أن الشعب الروسي الآن يعتبر تركيا واحدة من أكبر ثلاثة خصوم لروسيا، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وأوكرانيا. وتصر الحكومة الروسية على أن تركيا يجب أن تتحمل مسؤولية الحادث الذي وقع في نوفمبر قبل عودة العلاقات لطبيعتها.

ما يجب أن تتذكره القوى الخارجية هو أنه بغض النظر عن مدى سوء علاقاتهم بالرئيس أردوغان، فإن تركيا هي فاعل أساسي في الشرق الأوسط؛ فمشاركتها الفاعلة ضرورية لأي تهدئة أو حل للحرب المدمرة في سوريا. كما أن أنقرة تلعب دورًا رئيسيًا في استقرار العراق. والتعاون التركي مهم جدًا في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية والأشكال الأخرى للإسلاميين المتعصبين والإرهاب. وكونها واحدة من ثلاث دول كبرى غير عربية في المنطقة، إلى جانب إيران وإسرائيل، فإن هذا يجعل تركيا جزءًا رئيسيًا من توازن القوى في الشرق الأوسط. ولا تزال تركيا تمثل نموذجًا يحتذى به كدولة ديموقراطية حديثة ذات أغلبية مسلمة.

وتحتاج القوى الأخرى للعمل بجد، على الرغم من الخلافات المفهومة مع الأتراك، لاحترام المخاوف والحساسيات السائدة اليوم في تركيا -والتي تذهب إلى ما هو أبعد من طموحات أردوغان- بينما يبحثون عن سبل للتعاون العملي مع أنقرة. وبالنسبة للغرب، هذا لا يعني تجاوز التعدي على الحريات المدنية والسياسية، التي تحط من قدر النموذج الذي يجب أن تقدمه تركيا للشرق الأوسط، وتستطيع بالفعل تقديمه. وهذا يعني عدم التركيز تحديدًا على مشكلة الهجرة، والعمل مع تركيا على الجوانب الأخرى لعدم استقرار الشرق الأوسط.

وبالنسبة لروسيا، هذا النوع من التعاون سوف يحتاج إلى مرونة أكبر لتجاوز إسقاط الطائرة الروسية. إنها تتوقع الكثير جدًا من تركيا بمطالبتها بتحمل كل اللوم على الحادث، على الرغم من أن الطائرة هي التي دخلت المجال الجوي التركي. تحتاج روسيا وتركيا إلى العودة إلى علاقاتهما في أقرب وقت. هناك العديد من المصالح المشتركة بين الدولتين على المحك الآن.

التقرير