لماذا لم تتحول معركة داعش في العراق إلى حرب وطنية

لماذا لم تتحول معركة داعش في العراق إلى حرب وطنية

349

لا يختلف اثنان من العراقيين على حقيقة أن داعش منظمة إرهابية متطرفة احتلت ثلث أراضي العراق في العاشر من يونيو عام 2014 لأسباب لم تعد خافية على أحد، وأهم تلك الأسباب أن هذه المنظمة هي صنيعة تخدم مصالح الدول الكبرى والمتوسطة. وكان واجبا على حكومة العراق أن تحول المعركة ضد داعش إلى حرب وطنية عراقية يشارك فيها جميع العراقيين وليست فئة أو طائفة، ولا أن تتحول إلى غطاء لهيمنة نفوذ خارجي، فالتاريخ الإنساني والعراقي يؤكد أن معارك التحرير الوطنية تشكل فرصة ذهبية لتجاوز الخلافات الداخلية والسياسية، وتحول الشعب إلى قوة متماسكة تغيب فيها نعرات الثأر والحقد وتصفية الحسابات، وخلالها تتم الاستعانة بكل جهد وطني لصالح المعركة.
والأمثلة كثيرة؛ فهذه فيتنام وتلك اليابان وكوريا الجنوبية وغيرها كثير، حيث شكلت تلك الحروب فرصة لانتعاش الروح الوطنية وغياب الخلافات الفرعية واندحار نزعات الحقد والاختلاف الديني والمذهبي والعرقي، وتحولت تلك البلدان بعد نهاية حروبها بسنوات قليلة إلى أقوى الدول إنتاجية في العالم. للحروب الوطنية معايير ومعطيات، فحين يتعرض شعب لاحتلال أجنبي، مهما كان شكله، توضع استراتيجيات خاصة للمواجهة تستنفر خلالها كل الجهود والموارد الوطنية، وأهمها الجهد البشري والتعبوي الذي يرقى إلى مستويات استثنائية في الرعاية والاهتمام من قبل قيادة البلد، وتعطى أولويات خاصة لتلك الحرب، وتجمد مشاريع تنموية ويتحول المال إلى الجهد الحربي، كما توضع المخططات للتعبئة الوطنية الإعلامية والسياسية، لأنها العناصر الأولى للانتصار على العدو.

وخلال الحرب تجتث رؤوس الفساد ويضيق الخناق على أشخاصها إلى درجة قطع رؤوسهم بالعدل، ويصبح الوطن هو الشعار الأول في التعبئة والإعلام. مثال قريب حصل في ميدان تعبئة الموارد البشرية، فخلال الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988) استنفرت قيادتا البلدين عناصر التعبئة بصورة صحيحة، ووضعت البرامج لاستثمار أي جهد بشري حتى وإن كان مخالفا للنظام القائم، حيث قام رئيس النظام الإيراني في ذلك الوقت هاشمي رفسنجاني بدعوة جميع الكفاءات الإيرانية من المهندسين والعلماء الذين غادروا بلادهم بعد سقوط الشاه وأسقطت عنهم جميع التهم، فانضموا إلى الجهد الحربي الإيراني ضد العراق وحققوا نتائج مهمة لصالح حرب إيران ضد العراق، وحصلت مثل تلك السياسات في الجانب العراقي عندما جنّدت قيادة النظام في الجهد العسكري البشري جميع المكونات وخصوصا الشيعة الذين شكلوا النسبة الغالبة في تعداد الجيش العراقي.

فهل ما يحصل اليوم في المعركة ضد داعش يقترب من المبادئ العامة للحرب الوطنية؟ الجواب للأسف كلا، فعراق اليوم يخضع لنظام تقوده أحزاب لها رؤيتها العقائدية والسياسية الطائفية التي تصف داعش بأنه منظمة “تكفيرية سنية تشكل امتدادا للسعودية ودول الخليج”، ولهذا فالمعركة ضده هي بذات الوقت معركة ضد المعسكر الطائفي الآخر، كما وضعت العرب السنة في العراق في صف واحد مع داعش، ولهذا فشلت القيادة الحالية للبلد في تحويل مفردات معركة داعش إلى قضية تهم جميع العراقيين سنة وشيعة وعربا وأكرادا وتركمانا ومسيحيين. كما عظمت أوصاف تلك العصابة المتطرفة حتى وصفت من قبل بعض مفكري قيادات الأحزاب الشيعية بأنها “أمة بائسة” وهو وصف طائفي.

داعش في حقيقته مجموعة من العصابات المتطرفة المعزولة عن العرب السنة رغم أنها تحركت في حواضن مدنهم، تشكلت ونمت بسرعة مذهلة بمعاونة قوى دولية وإقليمية كبيرة باعترافات مسؤولين استخباريين أميركان وأوروبيين، وهو وليد خبيث للقاعدة التي دخلت العراق في الأنبار وهزمـت منها عام 2006 بسرعة على أيدي أهل الأنبار أنفسهم (الصحوات). لقد شنت حملة سياسية وإعلامية ظالمة ضد أهل الأنبـار والفلوجة وكأنهم المسؤولون عن قدوم داعش، وكان الجدير بحكومة حيدر العبادي أن تشخص ومن خلال التحقيق الدقيق أسباب الهزيمة العسكرية لاجتياح يونيو 2014، علما بأن التحقيق قد تمت لفلفته ممـا دفع برئيس اللجنة، حاكم الزاملي، إلى التصريح قبل أيام بأن هناك أسبابا سياسية حالت دون استكمال نتائج التحقيق وتجميد هذا الملف، وإن ثلاثة من القادة العسكريين المسؤولين قد هربوا مع أموال طائلة إلى خارج العراق. ومعروف أن قسما كبيرا من أبناء المحافظات العربية السنية والذين بقوا في ديارهم قد أجبروا على التحول إلى حاضنة لداعش الإرهابي، وكان لسياسة البطش والإقصاء والإفقار والتمييز من قبل الحكومة وأحزابها دور في ذلك.

وإذا استمرت هذه السياسة فسيولد داعش جديد مرة أخرى، ولعل من الأسباب التي عقّدت الأوضاع الطائفية أن القيادات السنية الهزيلة المشاركة في العملية السياسية لم تتخذ مواقف جريئة لرفع الحيف الطائفي، والضغط باتجاه إعادة التوازن بما يليق بمكانة المواطنين وكرامتهم. وفضل هؤلاء الحفاظ على امتيازاتهم على التعبير عن مصالح أبناء جلدتهم.

لقد منعت بيئة المعركة الحالية وعطلت الانتفاضة الشعبية الهائلة ضد الفساد والمفسدين، مع أن القضاء على الفساد ومحاكمة رموزه وشبكاته وإعادة الأموال المسروقة وتعديل مسار العملية السياسية يخدم المعركة، لكن هذا لم يحصل، ووجد العبادي فرصته الذهبية للتخلص المؤقت من العبء الذي مر به في الأيام الأخيرة لإبعاد المخاطر التي تتحدى مركزه الوظيفي، ولهذا فهو يخشى حين صرح قبل أيام “من أن تسرق المظاهرات انتصار الفلوجة”، كما تحولت المعركة ضد داعش استراتيجيا وسياسيا إلى فرصة لتسريع وتيرة الهيمنة الإيرانية على العراق باعتباره التاج الأول لتصدير الثورة قبل سوريا ولبنان، وهناك استثمار إيراني ذكي لحالة ضعف ووهن إدارة باراك أوباما، ولجعل هذا البلد قاعدة مواجهة استراتيجية ضد السعودية والخليج بعد تعطيل أي فرصة لإعادة العراق إلى محيطه العربي، ولهذا لم تتمكن المبادرة الخجولة بإرسال موفدين للعبادي إلى بعض العواصم العربية من تقليل حجم الأضرار التي لحقت بالعراق جراء عزلته العربية، لأنها لم تنبع من سياسة حقيقية وإنما لأغراض تكتيكية رغم أن وزير الخارجية إبراهيم الجعفري لم يوفق في تصريحاته “بأن قاسم سليماني مستشار للحكومة العراقية”، أو تبريراته بالانتهاكات الصارخة ضد المدنيين التي استهجنت من جميع المؤسسات الحقوقية في العالم. كما لم يوفق رئيس الوزراء العبادي في استيائه وانفعاله من القنوات الفضائية العربية لأنها نقلت الانتهاكات الجسيمة في الفلوجة.

العبادي يعرف، وهو الذي عاش أكثر من ربع قرن في بريطانيا (بلده الثاني)، جزاء من يعتدي على حقوق الحيوانات فكيف بمشاهد الجلد المبرح والشتائم الطائفية ضد مدنيي أهل الفلوجة الأبرياء وكيف يذبحون كالشياه وتقطع رؤوسهم وتجمع في الأواني وتصور، وكيف يساق رتل من هؤلاء الشباب إلى الموت في تكرار مفجع للمشهد الإجرامي الذي قام به داعش ضد الشباب الأبرياء في “سبايكر” قبل سنتين، حيث يتم الثأر من شباب الفلوجة الأبرياء المساقين للموت وتلقى عليهم شعارات السباب والشتائم من قبل أفراد الميليشيات مثل “هذا جزاؤكم يا أهل الأنبار، السن بالسن والعين بالعين”، فهل هذه أفلام مفبركة كما يتراءى للبعض، وسط اعتراف العبادي الضمني بها؟ وهل هذه هي بيئة “المعركة الوطنية” ضد داعش؟

ولم توقف تلك الانتهاكات اعترافات العبادي وزميله في المسؤولية رئيس البرلمان سليم الجبوري ودعوتهما إلى تشكيل لجان تحقيقية، في حين بارك السفير الأميركي ببغداد تلك الانتهاكات، واعتبر ما يجري حالة طبيعية، ويصمت السياسيون السنة المنتفعون والمتاجرون بالدماء العراقية الزكية، وبدأ بعض هؤلاء التجار من داخل الأنبار الترويج لتصفية حسابات محلية ستزيد من تعقيدات الأوضاع في الأيام المقبلة.

واقع الحال يشير إلى أن هناك تواطؤا إقليميا وأميركيا للتغطية على ما يجري من انتهاكات مرتبطة بالمشروع المقبل لما بعد داعش، ويتطلب الوضع أن يرتفع صوت العقلاء من داخل البيت السياسي الشيعي من الغيورين على أبناء بلدهم، إلى جانب كل صوت وطني عراقي شريف غير ملطخ بالفساد والإرهاب والطائفية لتعطيل هذه السياسات الغريبة عن أهل البلد والتي تستهدف تمزيق شعب العراق بسنته وشيعته، وهي لا علاقة لها بقضية تحرير البلد من داعش وإنما يتم استخدامها كغطاء، ولعل أخطر الحلقات ما يمكن أن يقع في الأيام المقبلة في الموصل من عمليات مماثلة لما يحصل ضد أبناء الفلوجة وستكون الصورة أكثر قساوة لا سمح الله.

ماجد السامرائي

صحيفة العرب اللندنية