هل نريد زعماء أقوياء؟

هل نريد زعماء أقوياء؟

580

يبدو أن اتجاها نحو قدر أعظم من السلطوية بدأ ينتشر في مختلف أنحاء العالم؛ فقد استخدم فلاديمير بوتين القومية بنجاح لإحكام قبضته على روسيا، ويبدو أنه يتمتع بشعبية أكبر الآن. ويُعَد شي جين بينغ أقوى زعماء الصين منذ ماو تسي تونغ، وهو يتولى شخصيا قيادة عدد متزايد من لجان اتخاذ القرارات الحاسمة.

ومؤخرا، قرر رجب طيب أردوغان في تركيا تغيير رئيس وزرائه، فاستعاض عنه برئيس وزراء آخر أكثر امتثالا وتوافقا مع سعيه إلى تركيز السلطة التنفيذية. ويخشى بعض المعلقين أن يُثبِت دونالد ترامب، في حال فوزه بالرئاسة الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني، كونه “موسولينيالأميركي”.

الواقع أن إساءة استغلال السلطة ممارسة قديمة قِدم التاريخ البشري. يذكِّرنا الكتاب المقدس كيف قام ديفيد، بعد أن أوقع الهزيمة بجالوت وأصبح مَلِكا، بإغواء بثشبع وإرسال زوجها عمدا إلى الموت المحقق في المعركة. إن الزعامة تنطوي على استخدام السلطة، وكما حذر لورد أكتون في تعليقه الشهير فإن السلطة تفسد حقا، ولكن القائد الذي يفتقر إلى السلطة (القدرة على حَمل الآخرين على القيام بما يريد) يعجز عن ممارسة القيادة.

ذات يوم، ميز عالِم النفس ديفيد مكليلاند من جامعة هارفارد بين ثلاث مجموعات من الناس وفقا لدوافعهم؛ فأولئك الذين يولون القدر الأعظم من الاهتمام لإنجاز المهام بشكل أفضل تحركهم “الحاجة إلى الإنجاز”، وأولئك الأكثر اهتماما بالعلاقات الودية مع الآخرين تحركهم “الحاجة إلى الارتباط”، أما أولئك الأكثر اهتماما بالتأثير على الآخرين فيُظهرون “الحاجة إلى السلطة”.

وقد تبين أن المنتمين إلى المجموعة الثالثة هم الزعماء الأكثر فعالية، وهو ما يعيدنا إلى أكتون. بيد أن امتلاك السلطة ليس أمرا طيبا أو سيئا في حد ذاته، بل الأمر أشبه بالسعرات الحرارية في النظام الغذائي، فالإقلال منها يؤدي إلى الضعف والهزال، والإكثار منها يؤدي إلى السمنة والبدانة. والنضج العاطفي والتدريب من الوسائل المهمة للحد من شهوة السلطة النرجسية، كما تشكل المؤسسات المناسبة ضرورة أساسية لإيجاد التوازن الصحيح.. ومن الممكن أن تعزز الأخلاق والسلطة كل منهما الأخرى.

ولكن الأخلاق قد تستخدم أيضا كأداة لزيادة السلطة. تناول ميكافيلي أهمية الأخلاق للقادة والزعماء، ولكن في المقام الأول ما يتصل منها بالانطباع الذي يخلفه الاستعراض المرئي للفضيلة على الأتباع؛ إذ يشكل مظهر الفضيلة مصدرا مهما للقوة الناعمة التي يتمتع بها الزعيم أو القدرة على الحصول على ما يريد بتوظيف جاذبيته وليس القهر أو تقديم المقابل.

“يلجأ ترامب، في إشباع حاجته النرجسية إلى السلطة، إلى تضخيم حالة السخط والاستياء بين شريحة من السكان من خلال الاستغلال الذكي للبرامج الإخبارية التلفزيونية ووسائل الإعلام الاجتماعي”

والواقع أن فضائل الأمير في نظر ميكافيلي لابد أن تكون ظاهرة، ولكن ليست حقيقية أبدا: “بل وسوف أتجرأ حتى على التأكيد على أن امتلاكه وممارسته لهذه الفضائل على نحو ثابت يجعلها ضارة مؤذية، في حين يكون مظهر امتلاكها مفيدا”.

كما أكد ميكافيلي على أهمية قوة القهر الصارمة وتقديم المقابل عندما يواجه الزعيم مقايضة مع قوة الجذب الناعمة، “لأن كونه محبوبا يتوقف على رعاياه، في حين يعتمد كونه موضع خشية عليه شخصيا”. يعتقد ميكافيلي أنه عندما يضطر المرء إلى الاختيار، فمن الأفضل أن يكون موضع خشية على أن يكون محبوبا، ولكنه فهم أيضا أن الخوف والحب ليسا ضدين، وأن عكس الحب (الكراهية) يشكل خطورة على الزعماء بشكل خاص.

كان العالَم الفوضوي في الدولة المدينة في عصر النهضة الإيطالي أكثر عنفا وخطورة من الديمقراطيات اليوم، ولكن عناصر نصيحة ميكافيلي تظل على أهميتها بالنسبة لزعماء العصر الحديث. وبالإضافة إلى شجاعة الأسد، أطرى ميكافيلي أيضا على الخداع الإستراتيجي الذي يتمتع به الثعلب. والحق أن المثالية في غياب الواقعية نادرا ما تعيد تشكيل العالم، ولكن عندما نحكم على زعماء الديمقراطية في عالَمنا المعاصر، فينبغي لنا أن نضع نصائح كل من ميكافيلي وأكتون نصب أعيننا، ويتعين علينا أن نبحث عن -وندعم- الزعماء الذين يمتلكون العنصر الأخلاقي المتمثل في ضبط النفس والحاجة إلى الإنجاز والارتباط فضلا عن الحاجة إلى السلطة.

ومع ذلك فهناك جانب آخر من معضلة أكتون فضلا عن الجانب المتمثل في أخلاق الزعماء: وهو جانب مطالب الأتباع. فالزعامة تتألف من مزيج من سمات القيادة، والأتباع، والمطالب، والسياق الذي تتفاعل في إطاره كل هذه العناصر. فالشعب الروسي الذي يشعر بالقلق والانزعاج إزاء مكانة روسيا، والشعب الصيني القلق حيال الفساد المستشري، والشعب التركي المنقسم حول العِرق والدين: كل هذا يخلق بيئة تعمل على تمكين الزعماء الذين يشعرون بالحاجة النفسية إلى السلطة.

“كان المؤسسون الأميركيون يتصارعون مع المعضلة المتمثلة في تحديد مدى القوة التي نريد أن يكون عليها زعماؤنا، وكانت استجابتهم مصممة لصيانة الحرية، وليست لتعظيم كفاءة الحكومة”

وعلى نحو مماثل، يلجأ ترامب، في إشباع حاجته النرجسية إلى السلطة، إلى تضخيم حالة السخط والاستياء بين شريحة من السكان من خلال الاستغلال الذكي للبرامج الإخبارية التلفزيونية ووسائل الإعلام الاجتماعي.

وهنا تلعب المؤسسات دورا حاسما. في بدايات تأسيس الولايات المتحدة، أدرك جيمس ماديسون وغيره من مؤسسي الدولة الجديدة آنذاك أنه لا الزعماء ولا الأتباع من الملائكة، وأن المؤسسات لابد أن تكون مصممة لتعزيز القيود. وقد خلصوا من دراستهم للجمهورية الرومانية القديمة أن المطلوب لمنع صعود زعيم متغطرس مزهو بنفسه مثل يوليوس قيصر يتلخص في إنشاء إطار مؤسسي يقوم على الفصل بين السلطات، حيث يوازن كل فصيل الآخر، وكانت استجابة ماديسون لإمكانية ظهور “موسيليني أميركي” متمثلة في نظام الضوابط والتوازنات المؤسسية التي تضمن أن الولايات المتحدة لن تشبه أبدا إيطاليا في عام 1922، أو روسيا أو الصين أو تركيا اليوم.

كان المؤسسون الأميركيون يتصارعون مع المعضلة المتمثلة في تحديد مدى القوة التي نريد أن يكون عليها زعماؤنا، وكانت استجابتهم مصممة لصيانة الحرية، وليست لتعظيم كفاءة الحكومة.

وقد اشتكى العديد من المعلقين من الفساد المؤسسي، في حين أشار آخرون إلى التغيرات -مثل ظهور برامج تلفزيون الواقع ووسائل الإعلام الاجتماعي- التي جعلت الخطاب العام خشنا فظا. وفي وقت لاحق من عامنا هذا، قد نكتشف مدى صمود الإطار الذي وضعه المؤسسون الأميركيون للسلطة والزعامة حقا.
جوزيف س. ناي الإبن
الجزيرة