الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي

B5PLogECEAABiXo

يقدم البروفيسور وائل حلاق طرحًا متميزًا وجرئيًا في كتابه “الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقيالذي ترجم للعربية وصدر مؤخرًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة “ترجمان”. أقول جريئًا لأنه يثير الذهن للتفكير في قضايا أو أفكار قد تتردد على أنها بدهيات أو مسلمات أو محرمات مما يلقي حجرًا في المياه الآسنة ويحرك الروح النقدية ويشجع البحث فيما يتعلق بالدولة الحديثة وما يسمى الإسلام السياسي وكذلك التعاطي مع الحداثة والحضارة المعاصرة.

يقدم هذا الكتاب الذي قام بترجمته الدكتور عمرو عثمان، طرحًا متميزًا  لمواجهة بعض الآفات التي ابتلي بها الفكر العربي في تعامله مع التراث والحداثة على حد سواء، إذ لا يمكن لدولة ما أن تكون إسلامية بحق في ظل هيمنة الدولة القومية الحديثة والعولمة التي أنتجتها تلك الدولة.

وإذا اُفترض جدلًا إمكانية قيام تلك الدولة، فلن تكون قابلة للبقاء في ظل الظروف السائدة في عالم اليوم. فالتناقض الذاتي الأصيل في مفهوم الدولة الإسلامية الحديثة يقوم في الأساس، من وجهة نظر المؤلف، على المأزق الأخلاقي للحداثة، تلك الحداثة التي أفرغت العالم من قيمه الروحية، وتعاملت مع الكون باستعلائية مدمرة، وسعت إلى تدجين الفرد وتشكيل ذاتيته، بحيث يستسلم تمامًا لمنطق القوة والثراء. يحدث كل ذلك من خلال رفع شعارات العقلانية والتنوير والتضحية في سبيل الدولة، وغيرها من الأساطير التي قامت عليها الدولة الحديثة.

في المقابل، يقوم الإسلام كله، وشريعته التي شكلت لحمته وسداه على مدار اثني عشر قرنًا، على نظام قيمي مختلف بالكلية، نظام أخلاقي بالدرجة الأولى، استطاع أن يمنع استغلال الفرد والتحكم فيه، بالطريقة التي تقوم بها الدولة الحديثة. كما أنه قدم نظامًا مغايرًا لما يطلق عليه الآن “فصل السلطات”، وحقق نموذجًا كان، بعبارة المؤلف، “أكثر دقةً في تجسيد معنى هذا الفصل وهدفه، وأكثر تفوقًا قياسًا بما نجده في الدولة الحديثة النموذجية”.

وردَ الكتاب الذي يقع في 352 صفحة من القطع الكبير في سبعة فصول؛ يتناول الفصل الأوّل “مقدمات وصف “الحكم الإسلامي النموذجي”، ويرسم حدود مفهوم “النموذج” كما سيجري استخدامه بوصفه مفهومًا مركزيًّا في أطروحة الكتاب الكلية. ويصف الفصل الثاني الدولة الحديثة، “الدولة الحديثة النموذجية”، ويحدّد “خصائص الشكل” الذي يمثّل الصفات الجوهرية للدولة الحديثة. ويقوم بتفكيك تلك الخصائص، معترفًا في الوقت عينه بالتغيرات المتزامنة والتنوعات المتلاحقة في تكوين تلك الدولة.

أمّا الفصل الثالث “الفصل بين السلطات: حكم القانون أم حكم الدولة“، فيناقش مفاهيم الإرادة السيادية وحكم القانون فيما يخصّ مبدأ الفصل بين السلطات؛ هادفًا من وراء هذه المناقشة إلى استعراض الأطر والبنى الدستورية لكلٍّ من الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، وتسليط الضوء على الاختلافات الدستورية بين نظامَي الحكم هذين. واعتمادًا على هذه الاختلافات، يستكشف الفصل الرابع “القانوني والسياسي والأخلاقي“، معنى القانون وعلاقته بالأخلاق. ويؤكّد هذا العرض الفلسفي أساسًا الاختلافات النوعية بين المفهوم الأخلاقي للدولة الحديثة والحكم الإسلامي. وسيتحوّل هذا العرض في الجزء الثاني من الفصل الرابع إلى عرضٍ ذي طابع سياسي. وستتعزّز هذه التباينات القانونية-الأخلاقية بفعل  التباينات السياسية كاشفةً عن مجالٍ آخر من عدم التوافق بين الدولة الحديثة والشريعة.

ويرى الفصل الخامس “الذات السياسية والتقنيات الأخلاقية لدى الذاتأنّ الدولة القومية الحديثة والحكم الإسلامي يميلان إلى إنتاج مجالين مختلفين من تكوين الذاتية، وأنّ الذوات التي ينتجها هذان المجالان النموذجيان تتباين تباينًا كبيرًا، الأمر الذي يولّد نوعين مختلفين من التصورات الأخلاقية والسياسية والمعرفية والنفسية والاجتماعية للعالم. وتلك الاختلافات العميقة بين أفراد الدولة القومية الحديثة ونظرائهم في الحكم الإسلامي إنّما تمثّل التجليات المجهرية المصغّرة للاختلافات الكونية المادية والبنيوية والدستورية، وكذلك الفلسفية والفكرية.

ويحاجج الفصل السادس “عولمة تضرب حصارها واقتصاد أخلاقي” في أنّ الأشكال الحديثة للعولمة ووضع الدولة في هذه الأشكال المتعاظمة القوّة، يكفيان لجعل أيّ صورة من الحكم الإسلامي إمّا أمرًا مستحيل التحقّق، وإمّا غير قابل للاستمرار على المدى البعيد هذا إذا أمكن قيامه أصلًا. وبعبارة أخرى، يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها: إذا جرى أخذ كلّ العوامل في الحسبان، فإنّ الحكم الإسلامي لا يستطيع الاستمرار نظرًا للظروف السائدة في العالم الحديث.

ويختم الكاتب بالفصل السابع “النطاق المركزي للأخلاقي”، متفحّصًا مآزق أخلاقية حديثة مع الإشارة إلى أسسها المعرفية والبنيوية بصفتها تؤسّس لأصل الأزمات الأخلاقية التي واجهتها الحداثة في كلّ صورها الشرقية والغربية. ويرى المؤلف أنّ استحالة فكرة الحكم الإسلامي ناتجة بصورة مباشرة من غياب بيئة أخلاقية مواتية تستطيع أن تلبّي أدنى معايير ذلك الحكم وتوقعاته، ويرى أنّ هذه الاستحالة هي تجلٍّ آخر لعدة مشاكل أخرى ليس أقلّها شأنًا الانهيار المطّرد للوحدات الاجتماعية العضوية ونشأة أنماط اقتصادية استبدادية، إضافةً إلى ما هو أكثر أهمية من ذلك، وهو الدمار الشامل للموائل الطبيعية والبيئة.

تزداد أهمية هذا الكتاب من وجهة نظر المترجم لصدوره في وقت تبدو فيه بعض الشعوب العربية والإسلامية ساعية لتحديد أسس مرجعيتها وملامح هويتها، تحسبًا لاغتنام الفرصة التاريخية السانحة. وربما تكون التيارات الإسلامية مهما كانت درجة إخلاصها بصفة عامة أحق من غيرها باللوم في هذا السياق.

الكتاب كما يصرح المؤلف لا يهدف في أحد هوامشه إلى إصابة القارئ المسلم والعربي بالإحباط واليأس من عدمه، قدرته على الفكاك من ورطة الحداثة التي وجد نفسه فيها بلا اختيار منه، ومن استحالة قيام دولة إسلامية تحافظ على خصوصيته الأخلاقية والتاريخية في ظل مناخ دولي لن يسمح لتلك الدولة أن تزدهر. فهو يعرض المشكلة بأبعادها التاريخية المعقدة ويطرح سريعًا مسارات للحل.

يختتم الكتاب بالقول إن العيش معًا في سلام على الأرض هو عمل شاق، وقد يكون يوتوبيا حديثة أخرى. بيد أن إخضاع الحداثة لنقد اخلاقي يعيد هيكلتها ويبقي الحاجة الأساس لا لقيام حكم إسلامي فحسب؛ بل لبقائنا المادي والروحي.

خالد وليد محمود – التقرير

http://goo.gl/QHAuNk