الهيمنة الحميدة في حقل العلاقات الدولية

الهيمنة الحميدة في حقل العلاقات الدولية

-الحميدة-في-حقل-العلاقات-الدولية-1_k8pwefc4

جرت عادة الحديث عن مجتمع باحثي العلاقات الدولية بأنّهم “متمركزون أمريكيا” وأنّهم بحاجة إلى توسيع آفاقهم البحثية، في الحقيقة أخالف – شخصيا -هذا الإدعاء، ففي منتصف السبعينيات أطلق ستانلي هوفمان على العلاقات الدولية تسمية: “علم الإجتماع الأمريكي”، لقد كانت تلك التسمية مناسبة آنذاك ولا تزال كذلك إلى اليوم خاصة بالنظر إلى كل الأفكار المهمة والنظريات التّي هيمنت على حقلنا المعرفي. لا يبدو من المرجّح أن يتغيّر هذا الوضع بشكل كبير في أي وقت قريب، لأسباب مشروعة بالكامل وقابلة للمحاججة والدفاع.

ليست المسألة متعلقة هنا بتركيبة مجتمع باحثي العلاقات الدولية الذّي يعرف وفرةً للباحثين الدارسين للسياسة العالمية من خارج حدود الولايات المتحدة. فبمجرد متابعة المؤتمر السنوي لجمعية الدراسات الدولية يبدو جليًّا أنّ باحثي العلاقات الدولية يعيشون في قريةٍ كونية. فمن المرجّح أن تنمو التعدّدية –المحبذّة بمختلف الأشكال-مع الوقت، مثلما يتزايد عدد الشباب من مختلف أنحاء العالم الذّين يتقدمون لمعاهد دراسة العلاقات الدولية. بإختصار نقول، أنّ الباحثين الأمريكيين لا يحظون بتأثير عظيم فقط لسبب عددهم –الكبير-.

ولا يسيطر الأمريكيون على الحقل أيضا بسبب أنّ المواضيع التّي تهمهم تمتاز بتجاوزها اهتمام الباحثين إلى إهتمام البلدان الأخرى أيضا، لكن لأنه في الواقع، فإنّ المسائل التّي تهم طلبة العلاقات الدولية هي تقريبا ذاتها في كل مكان، كالإنتشار النووي، وترويج الديمقراطية، والإعتماد الإقتصادي المتبادل هي مواضيع لا تهّم الولايات المتحدة وحدها فقط أو حتّى القوى الكبرى، وإنّما تهتم كل البلدان في الحقيقة بهذه المواضيع ومواضيع أخرى لا تُعد ولا تُحصى، حتّى وإن كانت لها مقاربات مختلفة للتعامل معها. على سبيل المثال، من الممكن أن تفكر كل من كوريا الشمالية والولايات المتحدة بشكل مختلف في مزايا الإنتشار النووي، لكنّ كلاهما يهتم في النهاية بذات القضية.

في نطاق المناهج وفي النظريات بشكل أخص، يسيطر الباحثون الأمريكيون على دراسات العلاقات الدولية، فالأطر التحليلية والصيغ السببية التّي يوظّفها الباحثون من دول أخرى في أعمالهم ترتبط في قسم كبير منها بالوسط الأكاديمي الأمريكي، على سبيل المثال، فإنّ الأسماء المفتاحية التّي ترتبط بأكثر ثلاث نظريات مهمة في حقل العلاقات الدولية (البنائية، اللبيرالية والواقعية) ترتبط بشكل قريب جدا بباحثين في الجامعات الأمريكية. وقلّة قليلة من المنظّرين المؤثرين في حقل العلاقات الدولية الذّين لم يدرّسوا في الجامعات الأمريكية هم في الغالب بريطانيين أو مرتبطين بالمدارس البريطانية على الأقل. لذلك، فبإمكان الواحد منّا أن يُحاجج فعلا أنّ الباحثين الأنجلو-سكسونيين هم الباحثين المسيطرين حقا على حقل الدراسة في العلاقات الدولية.

ولا يمكن أن يُستهان بأهمية النظرية في دراسة السياسة الدولية، فليس بحوزتنا أي وسيلة أخرى لنتمكن من جعل العالم الذّي يحيط بنا والمعقّد إلى أبعد الحدود عالما ذا معنى من دون النظريات. إنّ حقيقة كون الولايات المتحدة بيتًا حاضناً للمنظرين الرائدين هو ما يسمح لمجتمعها البحثي في العلاقات الدولية أن يسيطر على القيادة العليا لهذا الحقل.

وتتعزّز هيمنة الباحثين الأمريكيين بحقيقة أنّهم طوّروا نظريات غنيّة مختلفة والتّي تُعّدُ بدورها ذات فائدة كبيرة لفهم سياسة النظام الدولي. لكن هذا لا يعني أنّه لا يوجد متّسع لنظريات جديدة أو حتّى للجدل الأساسي في النظريات القائمة. أو أنه أنْ ليس هناك متسع لنظريات جديدة، خصوصا إذا تعلق الأمر بنظريات المستوى (أو المدى) المتوسط. كما أنّ هناك دوما متسع لتنقيح النظريات القائمة. لا يزال هناك فرص محدودة بالنسبة للباحثين خارج الولايات المتحدة الأمريكية، مثلما هو الأمر بالنسبة لهؤلاء في الداخل، لتطوير كل النظريات الجديدة. إذا كنّا سنة 1945 فإنّ الأمر كان ليكون مختلفا بشكل لافت.

إنّ المجال الذّي تُسلّط النظريات الأمريكية عليه الظلّ الأكبر في حقل العلاقات الدولية ينعكس في الكيفية التّي يتحدّث بها ويفكر بها طلبة التخرج وما بعد التخرج خارج الولايات المتحدة الأمريكية حول السياسة الدولية. فأينما أتحدث في الخارج-بغض النظر عن الموضوع المتحدَث فيه-فإنّ التعليقات والأسئلة التّي يطرحها الطلبة تكاد تكون نفسها تقريبا تلك التّي أتلقاها من الطلبة حينما أتحدّث في الجامعات الأمريكية. وفي الحقيقة، يبدو أنّ الطلبة داخل وخارج الولايات المتحدة يقرأون نفس المقالات والكتب بل ويستخدم القسم الأكبر منهم ذات المصطلحات والحجج.

أوّد أن أضيف كمنظّر واقعي، من الناحية الفكرية أشعر أننّي في بيتي حينما أكون في “بكين” أكثر من وجودي في “واشنطن”، لأنّ الباحثين الصينيين وكذا صنّاع القرار هناك يميلون للتعاطف أكثر مع الواقعية من نظرائهم الأمريكيين. وحينما أتحدّثُ في الصين -حيث يوجد إنبهارٌ شديد بنظريات العلاقات الدولية الأمريكية-فإنّي أبدأ أحيانا حديثي بقولي: “إنّه لمن دواعي سروري أن أكون مُجَدَّدا موجوداً بين جمهوري”، ورغم أنّي لا أتكلم كلمةً صينيةً واحدة، فإنّي أجد نفسي أتحدّثُ نفس لغة متحدثيَ الصينيين حينما نتحدث عن الحقائق الأساسية للسياسة الدولية.

وتتعزّز الهيمنة الأمريكية على حقل العلاقات الدولية عبر حقيقة أنّ العديد من الطلاب الجامعيين الموهوبين في مرحلة التخرج يَقدُمون الولايات المتحدة من جميع أنحاء العالم لإجراء بحوث التخرج، وهناك يتّم تدريسهم أنّ النظريات والمناهج التّي تهيمن على المشهد الفكري في الجامعات الأمريكية تُعّد أدوات أساسية ليصير هؤلاء الطلبة في عِداد الباحثين الأوائل عالمياُ، ومعظم هؤلاء يذهبون لتكوين سير ذاتية ناجحة، ليس في الولايات المتحدة وحسب وإنّما في دول أخرى أيضا، حيث يُزودون أفكارهم بالمزيد بما تعلموه في الدراسات العليا.

ويسمع المرء أحيانا حججا تَدّعي أنّ هناك خطابا مهيمنا في حقل العلاقات الدولية وأنّ الأمريكيين الذّين يتحكمون فيه يعملون بنشاط لقمع الأفكار الجديدة الناشئة والقادمة من الأطراف الأخرى في الخارج. بعبارة أخرى فإنّه ستكون هناك قائمة أكثر غنىً وتنوعا لنظريات العلاقات الدولية عندما لا يُتاح “لحراس البوابة الأمريكيين” الحيلولة دون هذا الخطاب.

ولكن هذا الإدّعاء إدّعاءٌ خاطئ ويسهل دحضه، وللمبتدئين نقول، فقط اسئلوا أنفسكم: أين هي الأفكار التّي يتّم قمعها؟ أين هي الأدلة التّي تُثبتُ أنّ الأكاديميين الأمريكيين يقومون بمنع الآخرين من الدفع والإقدام على أفكار جديدة تتعلق بالسياسة الدولية؟ في الحقيقة، لا يوجد شيء من ذلك. ومن فضلكم تذكروا أنّنا نعيش في عصر الإنترنت، حيث يكون من المستحيل إيقاف أفكار جديدة، خصوصا تلك الجيدة منها، من الوصول إلى جمهور واسع.

إلى جانب ذلك، تُولي جميع الأوساط العلمية أهمية قصوى في إبداع حجج مبتكرة، خصوصا حينما يواجهون الحِكم التقليدية السائدة أو النظريات التقليدية، بل وحتّى حينما يتسبّبون في إغضاب الباحثين البارزين في الحقل.

إنّ مجتمع العلاقات الدولية الأمريكي هو مجتمع دولي وليبرالي في جوهره، ممّا يجعل من الصعب تصديق بعض الباحثين في هذا العالم حينما يهتمون بحماية خطاب المهيمن، ناهيك عن أن يكونوا قادرين على تنظيم الجهود لبلوغ هذا الهدف. حتّى وإن مارس بعض الباحثين “سياسة ما” وحاولوا تهميش فكرة مبتكرة لا تروق لهم، فإنّ غيرهم من الباحثين سيتدخلون للترويج لها والإنخراط فيها، خصوصا إذا كانت تسلط الضوء على مشكلة مهمة.

قد يقول قائل أنّ التركيز على الثقافة، كمتغير تفسيري، من شأنه أن يسمح للباحثين غير الأمريكيين، بتقديم نظريات جديدة وتوسيع آفاق البحث في حقل العلاقات الدولية. على سبيل المثال فإنّ عددا من الباحثين والمثقفين ادعوا بأنّ للصين ثقافة كنفوشيوسية، والتّي لا يزالون يعتبرونها ذات تأثير عميق على ماضي سياسة الصين الخارجية وسوف تستمر في ممارسة هذا التأثير أيضا في المستقبل. وأن هناك عنصر مهم في كتاب هنري كيسنجر عن الصين الصادر سنة 2011، ومن الواضح أنّها حجّة مشروعة. لكنَّ حُججا ثقافية من هذا النوع سبق لها وأن سيطرت لعقود داخل الدوائر الأكاديمية الأمريكية، أثناء الحرب الباردة مثلا، حافظ عدد قليل من الباحثين الأمريكيين على ادعائهم بأنّ هناك استراتيجية سوفيتية ثقافية تهتم بشكل كبير بتفسير سلوك موسكو. كلّ ذلك لنقول أنّ الحجج الثقافية لم تقدم سبيلا جديدا لتوسيع مجالنا الفكري في العلاقات الدولية.

ومن المرجّح أن تخّف الهيمنة الأمريكية على الخطاب في العلاقات الدولية إلى حدّ ما في العقود المقبلة في الوقت الذّي يصير فيه الباحثون من الدول أخرى أكثر انخراطا وبشكل متزايد في جهودٍ لمحاولة تطوير نظريات جديدة وصقل النظريات القائمة. بعد كل ذلك، فليس للأمريكيين استعداد خاص لصياغةِ النظريات، بحيث لا تُسيطر أمريكا دوما على القالب النظري للحقل. لقد سيطرت كل من بريطانيا وألمانيا على الخطاب الفكري للعلاقات الدولية قبل الحرب العالمية الثانية، ولم يتصاعد تفوق الولايات المتحدة حتّى بعد سنة 1945. علاوة على ذلك، فحينما انخرط الأمريكيون بشكل جدّي في المجال المعرفي للعلاقات الدولية، فقد حملت نظرياتهم تشابها واضحا مع تطورات الأوضاع في أوروبا آنذاك. فكروا فقط في التأثير العميق لإيمانويل كانط وهانز مورغانثو -وكلاهما ألمان-على نظريات العلاقات الدولية في الولايات المتحدة الأمريكية.

الشيء الذّي تُطلعنا عليه هذه المسألة أنّ هؤلاء الباحثين غير الأمريكيين الذّين صاروا بمثابة الروّاد المنظرين في بعض القضايا المستقبلية إنّما يقفون على أكتاف الأكاديميين الأمريكيين، أكثر من الطريقة التّي وقف بها رواد أمريكا البارزين على أكتاف أجدادهم الأوربيين، وبهذه الطريقة يتطوّر المجال المعرفي.

—————————

(2) جون ميرشايمر: أحد أبرز المنظرّين الأمريكيين المعاصرين في حقل العلاقات الدولية، ويعّد من رواد النموذج المعرفي الواقعي في هذا الحقل، وخاصة مع إسهاماته في النظرية الواقعية الكلاسيكية الجديدة، ومقاربة الواقعية الهجومية، وقد أصدر عددا مهما من الكتب والدراسات كان أبرزها كتابه التأسيسي: “مأساة القوى العظمى”، كما ألّف كتابا مشتركا مع “ستيفن والت”، أثار جدلا واسعا في الولايات المتحدة وأوروبا تحت عنوان: “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية”، يعمل ميرامار أستاذا محاضرا للعلوم السياسية بجامعة شيكاغو الأمريكية.

جلال خشيب

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية