كاريزما أردوغان وعقدة أتاتورك المنقضية

كاريزما أردوغان وعقدة أتاتورك المنقضية

free-2454316184020408404

ثمة مقاربة نفسية للميول الاستبدادية المتصاعدة لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تتمثل في «عقدة الكاريزما» لدى رجل سعى كثيراً إلى احتلال موقع «مصطفى كمال بك» كأب للأتراك، ولكن يبدو أن أحداث ميدان تقسيم قبل نحو العامين قد أصابته بجرح كبير، حاول الهروب منه دائماً إلى الأمام، فتكرر وقوعه فى شراك النزعة الأبوية، على نحو قضى على جل تحالفاته حتى مع شركائه السياسيين، وأقربائه الفكريين، خصوصاً فتح الله غولن وجماعته، ظهيره السياسي القديم، ثم صديقه ورفيقه عبدالله غُل، رئيس الجمهورية السابق، الذي أزاحه من موقعه فى الحزب والدولة على نحو خشن كاد أن يمزق الحزب لولا حكمة غل، وصولاً إلى إزاحة داود أوغلو، المنظر الثقافي للعثمانية الجديدة، والانفتاح الاستراتيجي على المحيط العربي، بعد خمسة عشر عاماً شهدت تبلور النموذج التركي، شغل خلالها الرجل مواقع نافذة بالقرب من أردوغان، مستشاراً له، ثم وزيراً لخارجيته، وأخيراً رئيساً للحكومة.

يمتلك أردوغان نوعاً من الكاريزما ينبني على الإنجاز الواقعي ومراكمة الخبرات الناجحة على الأرض سواء فى قيادة مدينة أسطنبول أو في الحزب أو الحكومة، وليس على السمات الشخصية المرتبطة بالكاريزما التقليدية، التي ميزت قادة كباراً فى عصور سابقة تمتعوا بجاذبية الحضور كما بسحر الغياب، وبملاحة اللغة، كما بشعبوية الخطاب، وهي سمات لم تعد مقبولة تماماً في القرن الحالي، أو ممكنة فى سياق مجتمع ديموقراطي، نمت فيه الذات الفردية إلى حد صار مانعاً للحركة خلف قائد يقود الجمع إلى حيث لا يعرفون، على منوال نابليون ثم ديغول في فرنسا، أو جمال عبد الناصر في مصر. فالناس في جل المجتمعات الحديثة والحرة صارت تطلب نمطاً كريماً من العيش، ربما تقبل معه الحديث عن كبرياء الوطن، ورسالة الأمة، فإذا ما غاب العيش الكريم لم يعد لذلك الحديث معنى، وزالت البشاشة من الوجوه وتوقفت الأيدي عن التصفيق.

نعم تظل المجتمعات في حاجة إلى قيادة جذابة قادرة على تحفيز أحلامها وحشد طاقاتها، مهما بلغت حداثة وحرية، لكنها صارت تطلب قيادة على مستواها من النضج، وجاذبية تفي بمتطلباتها في الإقناع، على المنوال الذي صاغه الماليزي مهاتير محمد في القرن العشرين، وجسده أردوغان نفسه مطلع الحادي والعشرين، فما المشكلة إذن؟.

المشكلة هي أن الرجل الذي صنع كاريزميته بمعايير عصره، عاد ليطلب الكاريزما التقليدية، تلك القائمة على الجاذبية والسحر. فكاريزما الإنجاز مرهقة بقدر ما هي واقعية، تتطلب عملاً لا ينقطع مصحوباً بشكوك المعارضين واتهامات المنافسين، ومساومات الرفقاء الحزبيين. فإذا ما تباطأ العمل تآكل الحضور. إنها كاريزما تخلو من ذلك السحر الذي يضفي على السلطة رونقاً، ويمنح الزعيم قداسة تعفيه من المسؤولية. فمن من الجماهير يحاسب محبوب الجماهير، ومن من الشعب يراقب ضمير الشعب، ومن من الأمة يراجع روح الأمة؟.

والبادي أن أردوغان شعر مؤخراً بالإرهاق السياسي، فازدادت حاجته إلى كاريزما السحر، وهو أمر تبدى في خطابه السياسي منذ أزمة ساحة تقسيم، وانساب فى كلماته الحادة التي لامت المحتجين، ووشت بصدمة الذهول من تحديهم له على رغم النجاح الذي حققه لهم طيلة العقد المنقضي من تجربة العدالة والتنمية. كما تبدى بعد ذلك في سلوكه حيال شركائه، ومواقفه من القضاء والشرطة والإعلام، إذ اعتبر الجميع، بقدر أو آخر، عملاء ومأجورين يتشاركون في مؤامرة على الحزب والدولة، سعياً إلى إهدار التجربة الكبيرة الناضجة ثقافياً، والحيوية سياسياً، والجذابة خارجياً. وحتى لو كانت هناك بعض المشكلات تدور حول العدالة الاجتماعية، أو الفساد، فكلها، من وجهة نظره، مشكلات محدودة لا تنال من بهاء الإنجاز، فلماذا إذن يتنكر الأتراك له؟. لماذا لا يجعلون منه أباً إسلامياً لهم على نحو ما كان أتاتورك هو الأب العلماني؟. فإذا كان الأتراك قد منحوا مصطفى بك هذا اللقب لأنه حرر الأرض التركية، وصاغ الوطن الجديد، فهو من قام بانتشال الوطن من أزماته، وأضاف إلى وحدة الأرض حرية القرار، وفرض على الأوروبيين احترامه، وعلى الأميركيين استقلال مواقفه… فلماذا يضنّون عليه بأبوته لهم؟ بأن يخاطبهم كأبناء، بأن يوبخهم أحياناً فيقبلون، ويأمرهم أحايين فيستجيبون، وهو حفيد السلاطين وسليل الخلفاء؟.

ما لم يعرفه أردوغان بعد هو أن هذا العصر غير ذاك العصر. لقد انتهى زمن السحر، وصارت الشعوب مريضة بداء الجدل، مهجوسة بفضيلة المكاشفة، مدفوعة برذيلة تأكيد الذات، وأن ما قام به من انجاز لن يقف حائلاً دون رغبة الناس فى حسابه ضمناً وصراحة، بل ربما مثلت انجازاته نفسها حافزاً للرغبة في محاسبته من جانب العديدين، فمن كان همه بالأمس أن يأكل ويشرب، صار اليوم، حيث ارتقى عيشه وانتظم دخله، مهجوساً بحريته. فالتنمية تزكّي الطموح، والتحديث ينمّي الشخصية، وكلاهما يدفع إلى البحث عن ذاتية أرقى، وعن كرامة مصونة.

ما لم يدركه الرجل إذن هو أن «الأتراك الجــــدد» قد يمنحونه شرعية الصندوق طالما استمر قائماً على حياتهم، خادماً لهـــم، يراكم الإنجازات لأولادهم والثروة لأحفادهم، لكنهم أبداً لن يمنحوه صكاً أبدياً، يتصور أنه يستحقه، بأبوتهم أو بحــــق السيطرة على مصائرهم. باختصار يراه الأتراك مجرد قائد ناجح وليس زعيماً ملهماً، ناهيك عن أن يكون أباً روحــــياً، ومن ثم يستمر تأييدهم له طالما استمر عطاؤه وإلا فهي النهاية. وما عليه أن يدركه حتماً وبالضرورة أن تلك هي شروط القيادة في الزمن الجديد، الزمن المليء بأدوات التواصل الاجتماعي حيث الجميع كاتب ومتلقٍّ، والجميع مؤثـــــر ومتأثر، إنه زمن يخلو مــــن السحر والقـــداسة، يتنكر للملهمين، ولا يتـــذوق الآباء الروحيين، فإما أن يقبل بهذه الشروط، وإلا فليس أمامه إلا فك العقد مع المتعاقدين. فالأتراك لن يعودوا أبناء لأحد، حتى لو كان مصطفى بك، أو حتى أحد السلاطين القدماء، وتلك مفارقة التاريخ وحكمة الزمان التي لا يعطلها منع أدوات التواصل الاجتماعي، ولا تعوقها محاولات تضييق المجال العام.

صلاح سالم

صحيفة الحياة اللندنية