هل تستطيع الولايات المتحدة لجم ميليشيات إيران في معارك العراق؟

هل تستطيع الولايات المتحدة لجم ميليشيات إيران في معارك العراق؟

sadersaraya

يصفها المسؤولون الأميركيون بأنها “قواعد تكريت” -وهي اتفاقية غير رسمية تقضي بعدم دخول الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً إلى المدن السنية التي تستعاد من “داعش” خشية إشعال فتيل توترات طائفية جديدة هناك.
لكن هذه القواعد تواجه راهناً اختباراً جدياً في الفلوجة؛ حيث القوات العراقية -المدعومة بسلسلة من المجموعات الشيعية المسلحة- تتجه نحو إعادة غزو المدينة واستعادتها من قبضة “داعش”.
تحمل الحالة في الفلوجة بعض التشابه مع أزمة كانت تفجرت في العام الماضي في تكريت؛ حيث شن المقاتلون الشيعة المدعومون من جانب إيران هجوماً مضاداً لاستعادة البلدة السنية الواقعة إلى الشمال من بغداد من دون استشارة قادة الجيش العراقي. وكانت العملية من حيث الجوهر خدعة تهدف إلى الالتفاف على وزارة الدفاع العراقية ومستشاريها العسكريين الأميركيين الذين أصابتهم الأخبار بالصدمة.
مع ذلك، سرعان ما فشل الهجوم، فطلبت الحكومة العراقية قوة جوية أميركية لكسر حالة الجمود في ميدان المعركة. لكن المسؤولين والقادة الأميركيين تباطأوا في الاستجابة. وقالوا لحكومة بغداد إنها لن تكون هناك ضربات جوية من الطائرات الحربية الأميركية أو طائرات المراقبة، ما لم تقم بسحب ما تدعى “قوات الحشد الشعبي”. وهكذا تولت وزارة الدفاع العراقية القيادة الكاملة للعملية، وقادت وحدات الجيش العراقي المدربة أميركياً الهجوم والدخول إلى المدينة.
وقال مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية لمجلة “فورين بوليسي” معلقاً على ذلك: “قلنا إننا نستطيع القيام بالمهمة فقط إذا ظلت قوات الحشد الشعبي خارج المدينة”.
والآن في الفلوجة؛ حيث ينتشر آلاف من رجال الميليشيات الشيعة في الأطراف الشمالية من المدينة، تضع الولايات المتحدة شروطاً مثل تلك التي كانت قد وضعتها في تكريت في العام 2015، كما قال المسؤول الأميركي الرفيع شريطة عدم ذكر اسمه. وقال المسؤول: “إنها مجموعة مشابهة تماماً من القواعد التي يجري تطبيقها هنا”.
لكن المشكلة تكمن في أن الميليشيات الشيعية لا تتقيد بتلك القواعد. فقد عانى السنة الذين تمكنوا من الهرب من الفلوجة من الضرب وحالات الاختفاء، بل وحتى من الإعدامات الميدانية على أيدي رجال الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً خلال الأسابيع الأخيرة، طبقاً لتقارير “ذات صدقية” استشهد بها تقرير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” والذي نشر في الفترة نفسها.
وقال برونو غيدو، رئيس بعثة وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في العراق، إن سلوك الميليشيات كان “غير مقبول على الإطلاق”.
وقال غيدو لوكالة الأنباء الفرنسية إن المزاعم بإساءة المعاملة التي تمارسها الميليشيات الشيعية “ثبتت من جانب مصادر عديدة… ومن التقارير التي تلقيناها، فقد مورس التعذيب من جانب الميليشيات”.
تثير هذه الحالات من إساءة المعاملة مخاوف أمنية وسياسية خطيرة، لأن إساءة المعاملة الشيعية يمكن أن تفضي إلى رد بالمثل من جانب السكان السنة الخائفين، مع احتمال ميلهم إلى الارتماء في أحضان “داعش” أو مجموعات مسلحة أخرى لتوفير الحماية لهم.
تظهر المخاوف في كلا جانبي الانقسام الطائفي، كما أن العمليات الانتحارية التي نفذها “داعش” في الضواحي الشيعية في بغداد مؤخراً أوقعت حصيلة كبيرة من القتلى، ودفعت الهجمات مطالب للحكومة العراقية بتركيز انتباهها على تأمين الفلوجة التي تقع على بعد 40 ميلاً فقط إلى الغرب من العاصمة، والتي لطالما كانت أرض انطلاق لهجمات شنها متطرفون سنة على بغداد.
لكن التقارير عن الإعدامات بالقرب من الفلوجة دقت أجراس الإنذار في واشنطن؛ حيث أعرب المسؤولون العسكريون والمدنيون دائماً عن قلقهم من دور الميليشيات واحتمال إثارتها لسفك دماء طائفي.
كما أنه ليس من الواضح أن النفوذ والضغط الأميركيين على الحكومة العراقية -بما في ذلك التهديد بسحب القوة الجوية الأميركية- سيكون كافياً لكبح جماح معظم الميليشيات القوية الشيعية في الغالب، والتي تنفذ مشيئة رعاتها الإيرانيين.
من جهتها، أوضحت إدارة أوباما، التي تعرف بأمر تقارير الإعدامات ضد السنة، للحكومة العراقية أن أي إساءات للمعاملة ستكون غير مقبولة، كما قال مسؤولون.
لكنهم تشجعوا حتى الآن من خلال إدانة رئيس الوزراء حيدر العبادي للانتهاكات، وإعلانه وعوداً على الملأ بمعاقبة المسؤولين عنها.
وقال المسؤول الرفيع المذكور نفسه: “إلى الدرجة التي تثبت هذه المزاعم صحتها، سيكون من المهم بالنسبة للعبادي التعبير عن الرفض، وليس بالكلمات فقط، وإنما بالأفعال أيضاً من خلال اعتقال الأشخاص الذين يرتكبون الانتهاكات وتحميلهم المسؤولية”.
وعلى الرغم من أن واشنطن منزعجة من التقارير التي تفيد بأن الميليشيات الشيعية تسيء معاملة السنة، فإن الإدارة لم تهدد بوقف غارات القوة الجوية الأميركية في الفلوجة، فيما يعود في جزء منه إلى أن حكومة العبادي وعدت بأن الجيش العراقي سيكون في طليعة الهجوم على المدينة وليس الميليشيات، وفقاً لهذا المسؤول.
وعندما سئل عما إذا كانت واشنطن تدرس جدياً وقف الدعم الجوي، قال المسؤول: “لسنا في أي مكان بالقرب من تلك النقطة”. وأضاف المسؤول: “إننا لا نستطيع أن نكون مركزين على أي شيء أكثر من تأكيد مدى أهمية هذا، وكذلك إيضاح أن توضيح القرار أيضاً… سيحدد قدرتنا على مساعدة الحملة”.
وكانت الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة تكثفت حول الفلوجة في الأيام الأخيرة قبل سقوط المدينة، لكن المسؤولين أصروا على أن تلك الغارات دعمت عمليات الجيش العراقي في الجنوب، وليس عمليات الميليشيات الشيعية في الضواحي الشمالية. وخلال الأسبوع قبل الماضي، شنت طائرات حربية أميركية أكثر من 30 ضربة جوية حول الفلوجة، كما قال الكولونيل كريس غارفر، الناطق بلسان الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة في بغداد.
وكانت الضربات تتصاعد بشكل كبير؛ حيث دمرت طائرات الائتلاف 23 موقع قتال للدولة الإسلامية، ومستودع أمداد وأهدافاً أخرى في المدينة، وفق إحصائيات القيادة الأميركية الوسطى.
ولا تريد الميليشيات الشيعية ورعاتها الإيرانيون تكرار حادثة تكريت؛ حيث تم تهميش ميليشيات الحشد الشعبي، بينما كانت النجومية لدور القوة الجوية الأميركية، كما يقول ماثيو ماك آينز، محلل الاستخبارات السابق الذي أصبح حالياً زميلاً مقيماً في معهد إنتربرايز الأميركي. وقال: “كان ذلك محرجاً بالنسبة إليهم”.
ومنذ عملية تكريت، تلقت الميليشيات المزيد من التدريب وأسلحة جديدة، بما في ذلك أسلحة روسية مضادة للدبابات. وقال ماك آينز: “لقد أنفق الإيرانيون كمية كبيرة من الوقت وهم يحسنون قدراتهم”.
ومبرزاً الأولوية التي منحتها طهران لعملية الفلوجة، قام الجنرال قاسم سليماني، قائد قوات فيلق القدس الإيرانية شبه العسكرية، بزيارة مقاتلي الميليشيا بالقرب من الفلوجة في نهاية الشهر الماضي.
تاريخياً، عولت إيران على ثلاث ميليشيات لممارسة نفوذها في العراق. وكانت كل المجموعات قد تشكلت قبل وجود تهديد “داعش”، وكل واحدة منها تدعم بصراحة الزعيم الروحي الإيراني الأعلى، بالإضافة إلى نظريتها الثورية. وهناك اثنتان من هذه المجموعات على الأقل مرتبطتان بهجمات مميتة على قوات أميركية خلال الاحتلال الأميركي للعراق في الفترة ما بين 2003-2011.
يشكل تنظيم بدر أكبر هذه الميليشيات وأقدمها أيضاً. وكان تشكل في العام 1982 في طهران، وعمل أصلاً كقوة إيدلوجية مساعدة متحمسة لصالح إيران خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية الثماني. ويتحدث هادي العامري، قائد فيلق بدر، اللغة الفارسية بطلاقة ويحمل جواز سفر إيرانياً، وهو مقترن بزوجة إيرانية. كما أنه يقود أيضاً قوةً من حوالي 20 ألف رجل عراقي ويقود معظم ميليشيات الحشد الشعبي.
وتأتي في المرحلة الثانية من حيث الضخامة ميليشيات “عصائب أهل الحق” التي كانت شكلت في إيران في العام 2006 لمهاجمة القوات الأميركية التي تحتل العراق. ومثل بدر، أعلنت العصائب الولاء لعقيدة إيران وإيلاء القوة السياسية لرجال الدين. واستطاعت المجموعة أن تجند بكثافة خلال القتال ضد “داعش”، رافعة عدد أعضائها إلى حوالي 10 آلاف إلى 15 ألف مقاتل، وفق فيليب سميث، البحاثة في الميليشيات الشيعية في جامعة ميريلاند. كما كانت العصائب مسؤولة أيضاً عن واحدة من أبشع الهجمات على القوات الأميركية خلال الحرب الطويلة: ضربة وجهتها في العام 2007 على قاعدة أميركية بالقرب من مدينة كربلاء، والتي أسفرت عن مقتل 5 أميركيين.
أما المجموعة الثالثة، كتائب حزب الله، فهي من أكثر الميليشيات تعقيداً في العراق؛ حيث ينتمي أعضاؤها الأساسيون إلى عناصر مؤيدة لطهران بقوة في فيلق بدر. وقد ارتبط اسم المجموعة أيضاً بمقتل جنود أميركيين في العراق، وعرف عنها أنها كانت ترسل أشرطة فيديو عن هجمات على القوات العراقية والأميركية على الإنترنت. ومع أنها أصغر من المجموعتين الأخريين، فإنها تدعي بأنها تتوافر على 10 آلاف رجل تقريباً. وتتمتع كتائب حزب الله بوصول خاص إلى الأسلحة الإيرانية والتدريب. ويعد مؤسسها، أبو مهدي المهندس، بمثابة اليد اليمنى لسليماني في العراق، وهو نائب رئيس ميليشيات الحشد الشعبي، ويتولى ترتيب اللوجستيات والتخطيط للعمليات بحيث يراه العديد من المقاتلين القائد الفعلي للمجموعة.
ثمة اثنتان من الميليشيات الشيعية -كتائب بدر ومقاتلو كتائب حزب الله- واللتان ضبطهما بالتحديد شهود عيان ومسؤولون محليون في محافظة الأنبار، وهما ترتكبان -وفق تقرير نشرته منظمة هيومان رايتس ووتش مؤخراً- حالات عدة من الضرب المبرح وممارسات عنيفة ضد السنة الذين هربوا من الفلوجة. وقالت المجموعة إنها تلقت “مزاعم ذات صدقية عن إعدامات ميدانية وحوادث ضرب لرجال عزل وحالات اختفاء قهري وتشويه للجثث” من جانب الميليشيات والشرطة الاتحادية خلال فترة أسبوعين منذ 23 أيار (مايو) الماضي.
وعلى الرغم من تقارير الملاحقات التي تنفذها الميليشيات، دعت الحكومة العراقية سكان الفلوجة إلى الهرب قبل أن تدخل قواتها المدينة.
وفق آخر إحصاء، هرب أكثر من 16.000 شخص من الفلوجة منذ 3 أيار (مايو)، بما في ذلك عائلات استخدمت إطارات السيارات والثلاجات لعبور نهر الفرات، وفق غيدو. وقال إن أولئك الذين ظلوا في المدينة التي يسيطر عليها “داعش” “يتضورون جوعاً وغير قادرين على العثور على غذاء”. وهم يطحنون نوى التمر لإعداد دقيق.
وكان الزعيم الشيعي العراقي البارز آية الله الكبرى علي السيستاني دعا إلى ضبط النفس في الفلوجة. ودعا ممثله، عبد المهدي الكربلائي، مؤخراً إلى الهدوء، داعياً القوات الأمنية إلى حماية المدنيين وعدم التصرف بطريقة “خيانية”.
وذكر أن بعض قادة الميليشيات تحدثوا ضد سوء المعاملة مع السنة. لكن عضواً من كتائب حزب الله، واحدة من المليشيات الوكيلة، قدم تبريراً محتملاً للانتقام الطائفي ضد المدنيين السنة. ويوم الأول من شباط (فبراير)، قال إن (80 في المائة) من سكان الفلوجة متحالفون مع “داعش”.
يدرك قادة الميليشيات المدعومة من إيران في الغالب أنهم لا يستطيعون استعادة الفلوجة من تلقاء أنفسهم، ولا يستسيغون فكرة احتلال مدينة سنية بعد طرد متشددي “داعش” منها، كما قال المحللون.
لكن المحللين يقولون أيضاً إن الميليشيات تريد أن يكون لها دور رئيسي في الهجوم بحيث يكون لها تواجد دائم في الطرقات الرئيسية المفضية إلى بغداد، والأكثر أهمية الترويج للتحرير النهائي للفلوجة في دعايتهم.
وقال باتريك مارتين، محلل الأبحاث الخاصة بالعراق في معهد دراسة الحرب: “بغض النظر عن نتيجة العملية، فإنهم سيحاولون تجيير الفضل في التحرير لصالحهم”.
بعد شن الهجوم المضاد يوم 23 أيار (مايو)، قرعت القوات العراقية أبواب الفلوجة من عدة اتجاهات حتى لو أنها وجدت صعوبات في النفاذ بعمق إلى داخل المدينة. وقد عكفت كتائب الفرقة الرابعة في الجيش العراقي على تطهير أجزاء من الأطراف الشمالية للمدينة، بينما ما تزال كتائب من الفرق العراقية الأولى والسابعة عشرة والثانية تطهر الطرق من القنابل والعوائق الأخرى بالقرب من نهر الفرات.
وقال غرامز للصحفيين يوم الأربعاء قبل الماضي إن “مقاتلي عشائر الأنبار” السنة الذين يطهرون المناطق التي تم تجاوزها بهدف تطهير جيوب “داعش” قد انضموا إلى القوات العراقية.
وقال الناطق بلسان الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة إن القتال في الجنوب “ما يزال كثيفاً” وإن مقاتلي “داعش” يستخدمون “الانفاق بكثافة والعوائق وأجهزة تفجير بدائية كألغام حقول”، على نحو يشبه القتال الذي دار في الرمادي في كانون الأول (ديسمبر) الماضي.
من جهتها، تعمل قوة مكافحة الإرهاب النخبوية في العراق -والتي كانت قد لعبت دوراً حاسماً في المعارك من أجل الرمادي وبيجي وتكريت في العام الماضي- في جنوب الفلوجة، وسيتم استدعاؤها لتوجيه الضربة الرئيسية لمقاتلي “داعش” في المدينة. وكانت هذه القوة التي تعرف أيضاً باسم جهاز مكافحة الإرهاب من تأسيس وتدريب مستشارين عسكريين أميركيين، ويقال إنها لا تثق بالميليشيات المدعومة إيرانياً.
ما يزال التقدم بطيئاً حتى تاريخ كتابة هذا التقرير. لكن حكومة بغداد امتدحت التقدم الذي أحرزته قوات مكافحة الإرهاب العراقية من الأطراف الجنوبية من المدينة إلى شارع في ضاحية الشهداء في الفلوجة.

ترجمة: عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد