في نشوء «داعش»

في نشوء «داعش»

تنظيم-داعش-28

قضية «داعش»، والفلوجة، والموصل، والرقة، و»الخلافة، والطائفية والمذهبية، ليست وليدة اليوم. لن نعود إلى التاريخ القديم على أهمية ذلك. يكفي أن نستعيد بعض المحطات المفصلية منذ التدخل الأميركي في العراق لنكتشف أسباب ما وصلنا إليه من حروب بين «المكونات» المتناحرة.

المحطة الأولى كانت بعد انتهاء حرب الخليج الأولى عام 1988، حين بدأت الولايات المتحدة حملتها لوضع صدام حسين في القفص، وتفكيك العراق، فالرئيس اعتبر نفسه منتصراً على إيران وراح يطالب بتتويجه إمبراطوراً على الشرق الأوسط، من دون أن يكون لديه حليف واحد في المنطقة. أما في الداخل فكان الشعب منهكاً، والاقتصاد منهاراً، بعد تسع سنوات من الحرب. استغلت واشنطن هذا الوضع وبدأت اتصالاتها مع «المكونات»، وفي مقدمها الأكراد. ووجدت في غزوه الكويت فرصتها الذهبية للانقضاض على العراق، ومحاصرته عسكرياً وسياسياً بانضمام الدول العربية إليها لإخراجه من هذا البلد الذي اعتبره مجرد محافظة من محافظات العراق.

المحطة الثانية كانت مرحلة فرض عقوبات على بغداد وطهران، في ما أطلق عليه «الاحتواء المزدوج»، وتحول العراقيون، كل العراقيين، إلى أسرى، ومات خلال 13 سنة أكثر من مليون طفل، وانتشرت أمراض السرطان الناجمة عن اليورانيوم المنضب الذي استخدم في أسلحة فتاكة. وفشلت الشعارات العروبية والتبجح بالانتصارات في شفاء مريض في بلد انهارت منظومته الطبية، بعدما كان من أفضل البلدان في هذا الحقل بالذات.

المحطة الثالثة بدأت بتكثيف الاتصالات الأميركية بزعماء «المكونات» الذين بدأوا يهيئون أنفسهم لوراثة النظام، من دون أن يكون لديهم أي تصور للحكم بعد انهياره. بعضهم كان يستعد عسكرياً في إيران وكردستان، وبعضهم كان ينشط سياسياً في واشنطن ولندن. وعقدوا مؤتمراً عام 1992 في أربيل، وآخر في لندن عام 2002، برعاية زلمان خليل زاد الذي كان ناشطاً مع الاستخبارات الأميركية، قبل أن يصبح رئيساً لأفغانستان. وكان الحضور يمثلون كل المذاهب والأعراق، ووضعوا أسس التقسيم والمحاصصة.

المحطة الرابعة كانت عندما اتخذ بوش الابن قرار إطاحة النظام، معتمداً، مع رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، أكاذيب أصبحت مفضوحة، منها أن صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل، ويستطيع استخدامها خلال 45 دقيقة، وأنه على علاقة قوية بتنظيم «القاعدة» الإرهابي. وكانت الحرب التي حولت العراق إلى دمار، وتهافتت المعارضة القادمة من إيران ومن بلدان أخرى، وحضر زعماء «المكونات» ليتسلموا السلطة من الحاكم الأميركي بول بريمر الذي حل الجيش ووضع الأسس القانونية لتقسيم العراق بموافقة أعضاء «مجلس الحكم» الذي شكل على أساس طائفي وعرقي، حتى سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي حميد مجيد موسى اختير عضواً في المجلس على هذا الأساس.

في هذا الوقت كانت مقاومة الاحتلال تنمو. انضمت إليها أعداد كبيرة من الجيش المنحل، ومن أعضاء حزب البعث الذي اتخذ بريمر قراراً باجتثاث قادته وفكره وتوجهاته، واعتبر خطراً على المجتمع. ومن أول القرارات التي اتخذها «مجلس الحكم» إلغاء قانون الأحوال الشخصية المدني، واستبداله بقوانين المذاهب. وبدأ النزاع على الحصص والمناصب، بين الأحزاب المذهبية وداخلها أيضاً، بين الحكيم والصدر، بين المالكي والعبادي، بين الحزب الإسلامي (الإخوان) وآل النجيفي…

في هذا المناخ الطائفي ولد «القاعدة»، مستغلاً السخط على الحكام الجدد وعلى الأميركيين فوجد حواضن، خصوصاً في الأنبار. وكانت الفلوجة مركز المقاومة فدمرها الاحتلال، وشكل من مسلحي العشائر ما عرف بـ «الصحوات» لمحاربة التنظيم الذي هزم، وخرج «داعش» من رحمه. وأصبح أكثر توحشاً، زاعماً العودة إلى «الخلافة»، محتكراً تمثيل السنّة في أي مكان كانوا. وتمدد إلى سورية ليصبح شبه دولة لديها موازنتها وجيشها وقوانينها. وتُرك لينقل تجربته إلى بلاد الشام بأسماء مختلفة، وليدمر التاريخ والحاضر والمستقبل.

الآن هزم «داعش» في الفلوجة، وقد يهزم في الموصل قريباً. لكن لا شيء يضمن عدم عودته باسم مختلف، وفي مدن أو بلدان أخرى، فهزيمته عسكرياً لا تقضي على فكره المنتشر في مجتمعاتنا. بداية القضاء على «داعش» نهائياً تكون في تغيير جوهري في حكم الطوائف والأعراق والمذاهب. ووقف الخلافات على المحاصصة. لكن هذا التغيير يبدو مستحيلاً، أقله في المدى المنظور.

مصطفى الزين
صحيفة الحياة اللندنية