الصين والجيوبوليتيك العالمي الجديد

الصين والجيوبوليتيك العالمي الجديد

349
بينما تواصل الصين صعودها على سلم القوى العالمي، يتبلور جيوبوليتيك عالمي جديد. وفي الأثناء، تلقي ظروف الصراع الدولي في القرن الواحد والعشرين، الذي تنبأ الاستراتيجي الأميركي، ألفرد ماهان، قبل أكثر من مائة عام بأنه سينتقل من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ، تلقي بظلالها على النظريات الجيوبوليتيكية.
من أكثر العناصر الخالدة في الدراسات الجيوبوليتيكية حتمية “الصراع بين القوى البحرية والقوى البرية على النفوذ والسيطرة”. فعلى مدار التاريخ، ظهرت أشكال مختلفة من هذا الصراع؛ آخرها الحرب الباردة (1945 – 1989). أبرز الدول التي احتلت مكانة القوى البرية الكبرى: فرنسا (1648 – 1815)، ألمانيا (1870 – 1945)، وروسيا (1715 – 2016). بخلاف ذلك، تمثل بريطانيا (1680 – 1956)، واليابان (1871 – 1945)، والولايات المتحدة، في القسم الأكبر من السنوات المائة الماضية، نماذج للقوى البحرية العالمية. في مطلع القرن العشرين، ازدهر التفكير الجيوبوليتيكي الذي قام على أساس ذلك الصراع، في ألمانيا وبريطانيا، ولاحقاً في الولايات المتحدة. في هاتين الدولتين الأنكلوساكسونيتين (القوتين البحريتين)، ظهرت النظريتان الأساسيتان لعلم الجيوبوليتيك؛ “قلب العالم” و”حافة القلب”.
تأثر السير البريطاني هالفورد جون ماكيندر الذي صمم النظرية الأولى بـ”اللعبة الكبرى” بين روسيا القيصرية وبريطانيا العظمى، فيما تأثر العالم الأميركي نيكولاي سبيكمان الذي طور النظرية الثانية بظروف الحرب العالمية الثانية، والقلق من انتصار دول المحور (ألمانيا، إيطاليا واليابان) على الولايات المتحدة وحليفيها الاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى. إذن، شكلت القوة البرية الشغل الشاغل للنظريتين. ومن شبه المؤكد أن الوضع العالمي اختلف منذ أن صيغتا في النصف الأول من القرن العشرين. ومن جهة أخرى، لم يعر ماكيندر اهتماماً كبيراً للصين، في حين اعتبرها سبيكمان جزءاً من منطقة “الحافة”، تلك الملتصقة بالقلب. وبنمو الصين، تحرّك موقعها على الخريطة، ليشكل مركزاً جيوبوليتيكياً، لا جزءاً من منطقةٍ تابعة لمركز آخر. ويستتبع هذا الأمر تحولاً مشابهاً في العلم الجيوبوليتيكي.
وطوال القسم الأكبر من تاريخها، لم تكن الصين فحسب قوةً بريةً كبرى، في آسيا، بل كانت

قوة بحرية أيضاً. تربعت الصين، أكثر من عشرين قرناً، على عرش القوة الصناعية الكبرى في العالم. مع ذلك، لم تطور بكين سياساتٍ عالميةً في الحقبات التي كانت لها اليد الطولى في القوة العالمية. وربما عاد ذلك إلى البنية اللامركزية للنظام الدولي في تلك العصور. ولكن الآن، لا سبيل إلى ذلك؛ فلدى الصين علاقات تجارية مع جميع دول العالم، وتحتفظ بوجود قوي عسكري واقتصادي وبشري (!) في أفريقيا، ونفوذ اقتصادي هائل تجاه أميركا الجنوبية، فضلاً عن علاقاتها الراسخة مع دول القارة الآسيوية، ونفوذها التجاري على دول القارة الأوروبية. باتت هذه الصين اليوم محوريةً أكثر فأكثر في النظام العالمي. لكن، من دون أن تتطوّر، حتى الآن، نظرية جيوبوليتيكية قادرة على تحديد معالم صراع دولي، يشكل رداً على عودتها العالمية.

من أين يمكن البدء
الصين قوة مزدوجة في النظام الدولي. فهي إحدى أهم القوى العالمية البرية اليوم. كما أن بحريتها من أسرع البحريات في العالم نمواً وتوسعاً. إن قوةً بمثل هذه المواصفات، على الأرجح، لن تتورّط في نزاعات عالمية كبيرة.
كانت الصين، طوال العقود الماضية، قوة محافظةً على الأمر القائم في النظام الدولي. تمسكت بمناهضة التغيير في الأوضاع العالمية، خشيةً من النزوع التعديلي للاتحاد السوفييتي، والذي قد يطاولها نفسها. وفي ما بعد، خوفاً من “العقيدة الخلاصية” للولايات المتحدة، في حقبة القطب الواحد بعد انهيار المعسكر الشرقي. ومع النمو الكبير للقوة الصينية، إبّان العقود الثلاثة الماضية، بات الحفاظ على الوضع القائم جزءاً من الشعارات السياسية فقط، ولم يعد محدّداً لاستراتيجية بكين، على الأقل الإقليمية. حالياً، تتبنى الصين نهجاً تعديلياً شاملاً، في ما يتعلق بجوارها القريب.
إن تصاعد القوة الصينية بطبيعتها المزدوجة (البرية والبحرية)، وتزايد النزعة التعديلية لسياسيات بكين، يجعلان الصراع والمواجهة أساس علاقات الصين مع القوى البرية والبحرية في النظام العالمي القائم. تقف في مقدمة هذه القوى الولايات المتحدة وروسيا، واليابان والهند، إضافة إلى توتر مع دزينةٍ من القوى الأصغر في جنوب شرق آسيا.
وقد تكون هذه الخلفية السياسية مفيدة للتحليل الجيوبوليتيكي المقبل.

نحو نظرية جيوبوليتيكية متكاملة
أظهرت أحداث ما بين الحربين (1919-1939)، والحرب العالمية الثانية (1939-

1945) والحرب الباردة (1945-1989) عوامل الضعف الكامن في نظرية ماكيندر، خصوصاً منها إغفاله أهمية منطقة الحافة. تجاوز سبيكمان، في نظريته، نقائص نظرية “قلب العالم”. على الرغم من اختلاف نظريتهما، اتفق ماكيندر وسبيكمان على أن قلب العالم يقع داخل أراضي روسيا القيصرية – الاتحاد السوفييتي، (القسم الأكبر منه موجود في آسيا الوسطى، خصوصاً كازاخستان). اعتقد ماكيندر أن في الوسع السيطرة على القلب. كتب يقول إن من “يسيطر على دول شرق أوروبا يسيطر على قلب العالم، ومن يسيطر على القلب يسيطر على الجزيرة العالمية (أوراسيا + أفريقيا)، ومن يسيطر على الجزيرة العالمية يسيطر على العالم”. وبعد معاينته حقيقة أن سيطرة هتلر على شرق أوروبا لم تؤدِّ إلى السيطرة أوتوماتيكياً على الاتحاد السوفييتي، رأى سبيكمان أن منطقة الحافة التي تشمل، إلى جانب أوروبا الشرقية، كلاً من تركيا وإيران والخليج العربي وباكستان وأفغانستان، وصولاً إلى منغوليا والصين، هي مفتاح القوة العالمية. فعلياً، دار الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إبّان الحرب البادرة على هذه المناطق، إلا أن زبيغنيو بريجنسكي اعتبر أن الصراع العالمي، بعد نهاية الحرب البادرة، اتخذ أبعاداً أكبر، وبات يشمل الساحتين الأوروبية والآسيوية، واللتين أطلق عليهما “أوراسيا”، وقدّم عرضاً لما يجب أن تكون عليه الاستراتيجية الأميركية في هذه الرقعة الشطرنجية، لضمان مصالحها الجيوبوليتيكية.
ومع أن الجدل التالي يستند إلى نظريتي ماكيندر وسبيكمان، من أجل التوصل إلى فهمٍ أعمق للجيوبوليتيك العالمي الراهن، وموقع الصين فيه، إلا أنه لا يكتفي بهما. فعالم اليوم أشد تشابكاً من العالم في القرون السابقة. وإذا كان المبدأ الخالد في النظريات الجيوبوليتيكية هو الصراع بين القوى البرية والبحرية، من أجل النفوذ والسيطرة العالمية، والذي كانت الحرب الباردة المثال الأوضح عليه، فإن الصراع العالمي المقبل أكثر تعقيداً، لا يمكن اختزاله بهذه البساطة.

المشهد الجيوبوليتيكي العالمي المتشكل
من الطبيعي أن الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا هي أطراف جيواستراتيجية في المشهد الجيوبوليتيكي العالمي المتشكل. أما الهند والصين، فهما آخر القوى المنضمة إلى قائمة الفاعلين الجيواستراتيجيين العالميين. يزيد تعقيد المشهد العالمي، أنه، ولأول مرة في التاريخ، تدخل كل من الصين والهند وروسيا في تنافسٍ للسيطرة على ما أمكن في منطقتي القلب والحافة.
ولكي يكتمل تعقيد المسرح الذي يقوم عليه المشهد العالمي، عملت الصين بشكلٍ مكثف، في العقدين الماضيين، على بناء نفوذ قوي في أفريقيا جنوب الصحراء. وسيكون لهذه الخطوة الصينية أكبر الأثر على تطور النظرية الجيوبوليتيكية؛ لم يعد مسرح “اللعبة الكبرى” منحصراً في وسط آسيا وشرق أوروبا فقط (ماكيندر)، أو الشرق الأوسط وأوروبا وشرق آسيا فحسب (سبيكمان)، أو حتى الرقعة الشطرنجية الأورواسية (بريجنسكي)، بل انضافت إلى الأخيرة أفريقيا. سيشمل الصراع الآن ما سبق وأطلق عليه ماكيندر “الجزيرة العالمية”. تطور القوى العالمية، بغض النظر عن تصنيفها برية أو بحرية أو مزدوجة، استراتيجياتٍ ليس فقط تجاه مناطق الحافة أو القلب، وإنما أيضاً تجاه أفريقيا.

موقع الصين واستراتيجيتها العالمية
من دون إغفال نقاط ضعفها العديدة، للصين عدة سمات أساسية، تميّزها عن بقية الفاعلين

الجيواستراتيجيين. لأنها تقع على الطرف الأقصى لمنطقة الحافة في أكثر نقاطها ديناميكية (الشرق الأقصى)، وعلى المحيط المحوري للسياسات العالمية (الباسفيكي)، وتلتصق، من طرفٍ آخر، بمنطقة القلب في أهم نقاطه (كازاخستان – منغوليا الداخلية)، فإن الصين، ببساطة، هي في موقع فريدٍ للغاية في الجيوسياسية العالمية. يتعزّز هذا الموقع من حقيقة أن الصين قوة كبرى ذات طبيعة مزدوجة برية وبحرية، وهو ما يمكّنها من تعزيز اتصالاتها مع القلب، وعبر الحافة، جنباً إلى جنب. وبخلاف الولايات المتحدة، القوة البحرية الخارجية بالنسبة لأوراسيا، والتي تحتاج إلى مواقع أرضية ووسائط بحرية لنقل القوة ونشرها، فإن الصين جزء طبيعي من أوراسيا. وعلى عكس روسيا، القوة البرية تاريخياً، التي لا تملك قوةً بحريةً يُعتدّ بها، وطاقتها البشرية في تراجع، فإن الآفاق واعدةٌ أمام نمو القوة العسكرية الصينية، بشقيها البحري والبري، في العقدين المقبلين، فضلاً عن أن الصين تطل على المياه الدافئة، على عكس روسيا التي تكافح لضمان الوصول المستمر والآمن إلى تلك المياه. وربما شابهت الهند الصين، سواء من حيث عدد السكان أو الاتصال بالقلب (على الرغم من أنه غير مباشر وعبر أفغانستان) والتماسّ مع أجزاء واسعة من الحافة (عبر البر مباشرةً أو من خلال مياه المحيط الهندي وبحر العرب)، إلا أن الصين تفوق الهند بإطلالتها على الباسيفيكي، ولكونها جزءاً من ديناميكية القوى في شرق آسيا، فضلاً عن أن ازدواجية القوة، بالنسبة للدولة الأولى، أوضح منها بالنسبة للثانية.
تمكّن الطبيعة المزدوجة للقوة الصينية بكين من تحدّي خصومها، سواء في البر أو البحر. مع ذلك، وريثما تطوّر بكين ذراعها البحرية، وتعزّز سيطرتها على بحر الصين الجنوبي (البحر المقابل للمتوسط في شرق آسيا)، وهو الأمر الذي يشكل تهديداً محتملاً لموقع كلّ من الولايات المتحدة واليابان الباسفيكي والعالمي، وستكون له تداعيات على موازين القوى الإقليمية في شرق آسيا، تركّز الحكومة الصينية استراتيجيتها على التوغل في قلب العالم (آسيا الوسطى)، وصولاً إلى الخليج والبحر الأبيض المتوسط وشرق أوروبا. هذا ما دفع السلطات الصينية إلى إحياء “طريق الحرير التاريخي” عبر مشروع “الحزام”.
هكذا تتألف الاستراتيجية الصينية من عنصرين متكاملين، بحري ينصب، في الدرجة الأولى، على تحقيق الهيمنة على بحر الصين الجنوبي، وبرّي من شعبتين. هدف الأولى تعزيز النفوذ الصيني في قلب العالم، والثانية تأسيس ربط وعلاقات قوية مع بقية الدول الواقعة في منطقة الحافة. ولهذه الاستراتيجية مظاهر تعبّر عنها بشكل جلي. منها: التطور المتسارع لعلاقات بكين بكل من دول آسيا الوسطى وباكستان، زيارات الرئيس الصيني، تشي جيبينغ، إيران والسعودية ومصر في منطقة الشرق الأوسط في مطلع العام الجاري، واهتمامه الكبير بشرق أوروبا واليونان، ذلك كله بالترافق مع إعلان وزارة الخارجية الصينية عن وثيقةٍ جديدةٍ للتعامل مع الدول العربية وزيادة الانخراط الدبلوماسي الصيني في المسألة السورية.
يتلخص المشهد الجيوبوليتيكي العالمي في تنافس أربع دول كبرى، اثنتان منها مزدوجتا القوة (الصين والهند)، الثالثة بحرية (الولايات المتحدة) والأخيرة برية (روسيا)، على النفوذ والسيطرة، ليس فقط في منطقة الحافة، بل أيضاً في “القلب العالمي”، وأخيراً أفريقيا.

أنيس الوهيبي
صحيفة العربي الجديد