كتاب ‘الحروب الصليبية كما رآها العرب’: تنقية التاريخ من لوثة التحامل

كتاب ‘الحروب الصليبية كما رآها العرب’: تنقية التاريخ من لوثة التحامل

_83780_120

تقرير لجنة الهيئة العلمية ومجلس الأمناء لجائزة الشيخ زايد في دورتها العاشرة، التي قررت منح أمين معلوف لقب شخصية العام الثقافية، أثنى على الكاتب اللبناني من منطلق أنه قدم للعالم باللغة الفرنسية تاريخ العرب عبر أبرز محطاته الأساسية، وتاريخ الشرق ككل.

المعايير التي اعتمدتها اللجنة لإسناد اللقب إلى معلوف، تشير إلى معضلات فكرية وتاريخية متداخلة. أولاها متصلة بأن أمين معلوف وخاصة من خلال رواية “الحروب الصليبية كما رآها العرب”، (الصادرة عام 1983) تقصّد أن يقدم للقارئ الغربي، وبلغة فرنسية، رؤية تاريخية عربية للحروب الصليبية؛ إذ برر معلوف صياغة مؤلفه بالقول “ما أردنا أن نقدمه ليس كتاب تاريخ آخر بقدر ما هو -انطلاقاً من وجهة نظر أُهمِلت حتى الآن- رواية حقيقية عن الحروب الصليبية وعن هذين القرنين المضطربين اللذين صنعا الغرب والعالم العربي ولا يزالان يحدّدان حتى اليوم علاقاتهما”.

وجهة النظر “المهملة” التي بنى عليها معلوف كتابه هي وجهة النظر العربية للحروب الصليبية، أي التأريخ العربي الإسلامي وروايات الإخباريين العرب؛ “ينطلق هذا الكتاب من فكرة بسيطة: سرد قصة الحروب الصليبية كما نَظَر إليها وعاشها وروى تفاصيلها في”المعسكر الآخر”، أي في الجانب العربي. ويعتمد محتواه على شهادات المؤرخين والإخباريين العرب في تلك الحقبة”، كما يعلل أمين معلوف.

هناك أهمية معرفية أخرى تتخذها كتابات أمين معلوف التي مزج فيها بين التاريخ والرواية، تنطلق من زمن صدورها. فرواية “الحروب الصليبية كما رآها العرب” أو “ليون الأفريقي” (1984) أو “سمرقند” (1986) صدرت في زمن موسوم بتعطل الحوار بين الشرق والغرب أو بانسداده وإصابته بلوثات سوء الفهم والتناقض في الرؤى، وكان كل طرف يرى في نظيره “معسكرا آخر” بكل ما تعنيه الكلمة من اصطفاف، وما عزز ذلك غياب محاولات معرفية تتلمس رؤية الآخر أو تتفهمها. وكانت الحروب الصليبية مجال جدل تاريخي وديني بين المؤرخين والعلماء العرب والمستشرقين والمؤرخين الغربيين.

الكتاب يسرد قصة الحروب الصليبية كما نظر إليها وعاشها وروى تفاصيلها في “المعسكر الآخر”، أي في الجانب العربي

لذلك كانت متون أمين معلوف باللغة الفرنسية محاولة جريئة، لا فقط لتقريب الرؤية التاريخية العربية للمتقبل الغربي، بل أيضا لتوفير المزيد من الموضوعية التي تقتضي التعاطي مع الصياغات المختلفة للحدث التاريخي. الحروب الصليبية حدث تاريخي قُتلَ بحثا من قبل المؤرخين والمستشرقين الأوروبيين، إلى درجة أن سادت رؤية أحادية للحدث شكلت منطلقا للعلاقة بين الأوروبيين المسيحيين والعرب المسلمين.

تفاديا للسقوط في السرد التاريخي لأطوار الحروب الصليبية، نشير إلى أن أمين معلوف، في كتابه المشار إليه، وفي سعيه لإعادة الاعتبار للرؤية العربية الإسلامية للحدث، انطلق من تقديم تصور عربي حتى للمصطلحات التي هيمنت طويلا على المدونة التاريخية المتصلة بالحروب الصليبية، ليتطرق بأسلوبه الروائي إلى دحض ونفي العديد من التصورات المترتبة على الصيغة الأوروبية، والتي عززتها لاحقا الكتابات الاستشراقية، لبعض الأحداث والمعارك. يشير معلوف إلى أن العرب لا يتحدثون عن “حروب صليبية بل عن حروب أو غزوات إفرنجية وقد كُتِبت الكلمة التي تدلّ على الإفرنج بأشكال مختلفة باختلاف المناطق والمؤَلِّفين والأزمنة”، وشدد على أنه اختار طلبا للتوحيد “أكثر الأشكال اختصاراً، أي الشكل الذي لا يزال مُستَخْدَماً حتى اليوم في المحكيّة الشعبية لتسمية “الغربيين”، وبصورة أخصّ الفرنسيين: “فْرَنْج”.

المسلمون يرون في الحروب الصليبية ضربا من الحرب الاستعمارية التي حاول خلالها الفرنجة السيطرة على ثروات الشرق، من خلال الادعاء بأن المسلمين يضطهدون مسيحيي الشرق (الروايات المسيحية التي ضخمت اضطهاد الحكم الإسلامي للمسيحيين في الأرض المقدسة، خصوصا بعد تدمير كنيسة القيامة عام 1009 بأمر الحاكم بأمر الله الفاطمي). وصنفوا صلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس بطلين محررين، وفي المقابل رأى المسيحيون في الحروب ذاتها وسيلة لإعادة توحيد الكنيسة تحت ظلال البابوية بعد الانقسام الذي طال المسيحية بين شرق أرثوذوكسي وغرب كاثوليكي وأيضا للدفاع عن القسطنطينية بعد التوسع الإسلامي الذي وصل إلى جبال البيرينيه في أسبانيا وجنوب فرنسا. اختلاف دوافع الحروب وتأصيلها الديني، منطلقات جعلت معلوف يسعى إلى تبديد ما تحول إلى “ثوابت” في التاريخ المسيحي للحروب الصليبية.

سرد الكاتب بأسلوب روائي معلومات دقيقة انطلاقا من حوليات ابن المنقذ الذي رافق صلاح الدين في الحروب الصليبية، وحولياته مودعة في المكتبة الظاهرية في دمشق، ما مفاده أن جنود الحملات الصليبية قاموا بسرقة ونهب كل الممتلكات الموجودة في الأماكن التي احتلوها بما في ذلك الكنائس المسيحية في المشرق العربي، وهو ما يضعف مقولة أن “الإفرنج” خاضوا تلك الحروب من أجل إنقاذ القدس من اضطهاد المسيحيين.

أفرد أمين معلوف فصلا لحصار مدينة المعرة، في الثاني من ديسمبر 1098 أثناء الحملة الصليبية الأولى، حيث استند إلى المؤرخ الإفرنجي راوول دي كين، لبيان أن الحصار الذي دام حوالي 6 أشهر والذي يقدم بروايتين مختلفتين جدا، شهد أحداثا مروعة غابت عن التاريخ المسيحي للأحداث، إذ أورد أمين معلوف على لسان راوول دي كين (الذي شهد الحرب والحصار) “لم تكن جماعتنا لتأنف وحسب من أكل قتلى الأتراك والعرب بل كانت تأكل الكلاب أيضا”. ولاشك أن معلوف أورد شهادة دي كين لأنه لاحظ أن الكتابات التاريخية الأوروبية ولئن اعترفت باستباحة المدينة إلا أنه لا توجد وثيقة واحدة أشارت إلى أكل الجنود المسيحيين للحم البشر.

لا يكفي الحيز المحدود لاستعراض الجهد الذي بذله معلوف لأجل تصويب التأريخ للحروب الصليبية، وهو جهد مكن في النهاية من تقديم رؤية عربية للحدث مختلفة عما ساد المصادر الأوروبية، إلا أن هدف الحرص على تقديم هذه الرؤية المغايرة، لم يكن تقديم قراءة تبحث عن إدانة الآخر بوصفه آخر، بل كان البحث عن الإنصاف التاريخي وتنقية التاريخ مما ساده من مغالطات، ومراجعة الصفحات التاريخية التي تضمنت تشويها أو تحاملا، وهو جهد ضروري لبدء حوار يفترض الإيمان بوجود صفحات مشرقة عند الآخر، ثم الإقرار بوجود مشتركات إنسانية تجمع الطرفين.

صحيفة العرب اللندنية