تحرير عراقي “نظيف” للفلوجة

تحرير عراقي “نظيف” للفلوجة

139503031636486777756614

هكذا بشّر ساسة العملية السياسية من العرب السنة بمعركة تحرير الفلوجة. هكذا قالوا وعبّروا، في تصريحاتٍ مكتوبةٍ ومسجلةٍ، وعبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. وقتها قالوا: لا تهتموا بحديث قادة الحشد الشعبي وتصريحاتهم، لأنهم، ببساطة، لن يكون لهم مكان في معركة تحرير الفلوجة، ولا تصدّقوا ما سيقولونه إنهم سيدخلون المدينة، فأميركا والتحالف الدولي سيقصفان أي تحرك لهذه المليشيات يقترب من الفلوجة.
وقتها، حاول هؤلاء أن يسوّقوا معركة تحرير الفلوجة خياراً عراقياً خالصاً، وأنها ضرورةٌ ملحةٌ لتخليص المدنيين من قبضة تنظيم داعش، وأن الوقوف ضد معركة تحرير الفلوجة يعدّ خيانةً للمدينة وأهلها. وهنا أتكلم حصراً عن سنة العملية السياسية ومن والأهم، ممن رفعوا شعار تحرير الفلوجة بأيدٍ عراقية.
لم يتعظ هؤلاء من معارك تحرير أخرى، نظيفة أيضاً، حيث نجحت في تنظيف المدن من سكانها، لم يتعظ هؤلاء من معارك تحرير جرف الصخر جنوب بغداد، يوم أن استمرّت المعارك قرابة شهرين، تمكنت فيهما المليشيات والجيش من طرد عناصر التنظيم، لتعتقل كل رجال المنطقة، وتجلي العوائل بعيداً عنها، من دون أن يسمح لها حتى الآن، وبعد مرور عام على التحرير النظيف، من عودة تلك العوائل التي باتت بلا معيلٍ، بعد أن غيب الرجال.
وغير بعيدٍ عن جرف الصخر، كانت معارك تكريت التي لا تسمح المليشيات إلى الآن لعوائل نازحةٍ عديدة من العودة، بدعوى وجود دعاوى عشائرية، بل إنها سمحت لبعض العوائل والعشائر بالعودة، بعد أن دفعت مبالغ طائلة، دية قتلى مجزرة سبايكر التي ارتكبها التنظيم عام 2014 بحق جنود عراقيين.
لم يتعظ ساسة السّنة من ذلك كله، وخُدعوا، بقصد أو من دونه، في تكرار السيناريو نفسه في الفلوجة، مع ما تحمله هذه المدينة من رمزيةٍ ليس لدى سنة العراق وحسب، وإنما لدى كل الشعوب في العالم، وهي التي كانت ذات يوم أنشودة حريةٍ تغنّى بها الأحرار.
دخل الحشد، بل كان أول قاصفي الفلوجة، بشعاراته الطائفية النتنة، وتصريحات قادته التي تتوعّد بالانتقام من البؤرة السرطانية، الفلوجة، ولم يكتف بالدخول، بل راح يُفاخر بأنه سيخوض كل المعارك في العراق ضد تنظيم داعش، من دون أن يقيموا وزناً لكل ما أعلنه قادة التحالف الدولي، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية بأنهم سيقصفون أي مليشيا تدخل إلى الفلوجة.

ويوماً بعد آخر، تتكشف حجم المأساة التي عاشتها وتعيشها الفلوجة، فمن تنظيمٍ صادر حرية الناس، وحوّل المدينة إلى سجن كبير في ظل حصار خانق، فرضته عليه القوات الحكومية والمليشيات داخل المدينة، دفع ثمنه الأبرياء من أهالي المدينة، إلى قواتٍ عسكرية ومليشيات جاءت لتنتقم من كل شيء في الفلوجة، فمن هرب من جحيم داعش اصطاده جحيم المليشيات التي اعتقلت حتى الآن أكثر من أربعة آلاف رجل من أهالي الفلوجة، بحجة التحقيق معهم، في وقتٍ تقوم بعمليات إعدام بين وقت وآخر لعدد منهم.
ولن نتكلم عما جرى في الفلوجة من عمليات حرقٍ وتدمير للمنازل والمساجد في الفلوجة، فهذا ديدن هذا الحشد الطائفي. ولكن، نتحدّث عن أكثر من 85 ألف مدني داخل الفلوجة، فرّوا إلى ما قيل إنها مخيمات إيواء ونزوح، ليكتشفوا أن الصحراء، ولا شيء سواها، هي ما أعد لهم، وسط حرارةٍ وصلت إلى 50 درجة مئوية، وعواصف ترابية غيّرت ملامح كل شيء هناك.
المشكلة الأكبر والسؤال الأهم الآن، بعد انتهاء معركة تحرير الفلوجة، والإعلان بشكل نهائي عن طرد عناصر التنظيم من المدينة، متى سيسمح لأهالي الفلوجة بالعودة إلى مدينتهم؟
ربما من بَشّر بأن هناك تحريرا “نظيفا” في عراقٍ متسخ بأوحال الطائفية ورائحتها النتنة، لن يجد جواباً على هذا السؤال، ليس لأنه لا يعرف الجواب. ولكن، لأنه يدرك جيداً حراجة الإجابة.
هو يعرف جيداً أن ما جرى على جرف الصخر قابل للتكرار في الفلوجة، على الرغم من صعوبة ذلك، فرفع الأذان الشيعي في مساجد مدينةٍ عُرفت بسنيّتها، يخفي وراءه نوايا كثيرة، كما أن تغييب آلاف من رجال الفلوجة في معسكرات المليشيات ينبئ بأن المدينة قد لا تعود إلى سيرتها الأولى قريباً.
هذا هو عنوان التحرير النظيف في العراق المتّسخ بأدران الطائفية، هذا هو عنوان ترويج تحرير مدن سنّيةٍ من قبضة تنظيم داعش، تحرير يُراد له أن يكون كل شيء في قبضة دولة المليشيات التي تأتمر بأمر قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني الذي أنهك مدن سورية والعراق حروباً وقتلاً، من دون أن نشهد له معركة واحدة ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما يرفع هو وجمهوريته الإسلامية هذا الشعار.
مؤلمة كثيراً رؤية الفلوجة تلاقي مصير جرف الصخر، ويؤلمني كثيراً أن أقول إن مأساة أهلها ستطول، بين نزوحٍ واعتقال، فالمليشياتٍ الطائفية التي دخلتها لن تخرج منها بسهولة، وهنيئاً لكل من طبّل لتحريرٍ نظيفٍ للفلوجة.

إياد الدليمي

صحيفة العربي الجديد