الهجمات الإرهابية: لماذا يصعب كثيراً تعقب “الذئاب الوحيدة”؟

الهجمات الإرهابية: لماذا يصعب كثيراً تعقب “الذئاب الوحيدة”؟

57730fbfae75c

يصعب على السلطات رصد وتعقب من يدعون إرهابيي “الذئب الوحيد” مثل ذلك الرجل الذي وقف خلف القتل الجمعي في نادي “بلس” الليلي في أورلاندو -لكن خطاب ترامب المعادي للهجرة لا يعرض حلاً شافياً لهذه المسألة.
*   *   *
تعد حادثة القتل الجمعي في أورلاندو مؤخراً جزءا من نمط مأساوي: كان كل هجوم إرهابي قاتل في الولايات المتحدة في العقد والنصف الماضيين قد نفذه مواطنون أميركيون أو أجانب يتمتعون بإقامة دائمة، والذين يعملون إما وحدهم “كذئاب منفردة” أو بشكل ثنائي، والذين ليست لهم روابط رسمية أو تدريب مع تنظيمات إرهابية مثل “داعش”.
وكانت هجمات 11/9 وقعت بتوجيه من تنظيم القاعدة من أفغانستان، واشترك فيها إرهابيون عرب مولودون في الخارج. لكن الإرهاب الفعلي اليوم في الولايات المتحدة يأتي من متشددين “ترعرعوا في الوطن”، مثل الأخوين تسارناييف اللذين نفذا هجوماً في منطقة بوسطن وأحدثا تفجيرات ماراثون بوسطن في العام 2013؛ ونضال حسن، الرائد في الجيش الأميركي المولود في فيرجينيا، والذي قتل 13 شخصاً في فورت هود في تكساس قبل أربعة أعوام.
كما أن عمر متين الذي نفذ أكثر الهجمات الإرهابية إماتة في الولايات المتحدة منذ 11/9، هو مواطن أميركي مولود في منطقة بورو أف كوينز في مدينة نيويورك، لأبوين كانا هاجرا إلى الولايات المتحدة من أفغانستان.
ومع أن متين أعلن ولاءه لتنظيم “داعش” في اتصال هاتفي مع هاتف الطوارئ 911 في الوقت الذي كان يهم فيه بتنفيذ هجومه على النادي الليلي في أورلاندو، فإنه لم يظهر أي دليل على أنه كان قد تلقى تدريباً من “داعش” في سورية، أو أنه تلقى توجيها من أي مجموعة إرهابية، على عكس المتشددين الذين قتلوا 130 شخصاً في باريس في تشرين الثاني (نوفمبر)، و32 شخصاً في بروكسيل في آذار (مارس) -والذين كانوا كلهم تقريباً قد سافروا إلى سورية لتلقي التدريب على يد “داعش”، ثم عادوا إلى أوروبا لتنفيذ هذه الهجمات.
يعد متين جزءاً من موجة من الهجمات التي تستلهم “داعش”، وهو ما جعلته هذه المنظمة الإرهابية جزءاً من سياستها في الهجوم على الغرب. ويوم 21 أيار (مايو)، دعا قائد “داعش” إلى شن هجمات في الغرب خلال شهر الصيام، رمضان، الحالي. وقد شهدنا منذ ذلك الحين هجمات أورلاندو، وقيام متشدد يستلهم “داعش” بقتل ضابط شرطة فرنسي، هو الكابتن جان -بابتيست سالفان، 42 عاماً، وشريكته، جيسيكا شنايدر، 36 عاماً، خارج باريس.
تحدٍ للسلطات
لسوء الطالع، سوف نشهد المزيد من هذه الهجمات التي تستلهم “داعش” في أوروبا وفي الولايات المتحدة، بالنظر إلى أنها ترتكب بشكل نمطي على يد جناة من نوع “الذئاب الوحيدة”، والتي لن يسهل كبحها. ويشكل تهديد الإرهاب النامي في الوطن مشكلة صعبة لسلطات تنفيذ القانون الغربية؛ حيث إن الذئاب المنفردة لا تتواصل مع تنظيمات إرهابية أجنبية عبر البريد الإلكتروني أو الهاتف بحيث تستطيع أجهزة التجسس اعتراض اتصالاتهم، كما أنهم لا يعقدون اجتماعات مع المتآمرين المشاركين بحيث يمكن مراقبتها من جانب أجهزة تنفيذ القانون.
وفي ضوء وفرة الأسلحة الهجومية على غرار أسلحة الجيش في الولايات، فإن هجمات الذئب المنفرد يمكن أن تكون مميتة تماماً كما رأينا في أورلاندو؛ حيث قتل 49 شخصاً في نادٍ ليلي للمثليين، وفي كانون الأول (ديسمبر) حيث قتل زوجان، باسم “داعش” 14 شخصاً كانوا يشاركون في حفلة مكتبية بمناسبة عيد الميلاد. وفي كلا الهجومين، كان القتلة مسلحين ببنادق هجومية مشتراة بطريقة قانونية. وكان الهجومان موجهين نحو ما تدعى “أهداف ناعمة”، والتي توجد أعداد لا تعد ولا تحصى منها في الولايات المتحدة.
يشابه متين إرهابيين جهاديين آخرين نشطوا في الولايات المتحدة منذ 11/9. وقد سُجلت أكثر من 300 قضية إرهاب جهادي في الولايات المتحدة منذ هجمات العام 2001 على مركز التجارة العالمي ووزارة الدفاع. ولا يمثل مرتكبو هذه الهجمات ظاهرة الرؤوس الحامية الشابة التي يرسمها الخيال الشعبي. فقد كان الأفراد في هذه الحالات بمعدل عمر 28 سنة، وثلثهم متزوجون ولدى ثلثهم أبناء. وكان عمر متين 29 عاماً عندما نفذ الهجوم وكان تزوج مرتين ولديه ابن عمره ثلاثة أعوام.
لقد أثبت التفسير البسيط -القائل إن الإرهابيين الجهاديين في الولايات المتحدة هم “مجانين” أو ” أشرار” أنه مخطئ ببساطة. فقد كانت لدى واحد من كل عشرة تقريباً مشاكل صحية عقلية، وهي نسبة أقل منها لدى المواطنين الآخرين. كما أنه لم يكن هناك مجرمون محترفون مشاركون بشكل نمطي؛ حيث كان 12 في المائة من الجناة أمضوا فترة سجن في مقابل حوالي 11 في المائة من المواطنين الذكور الأميركيين. إنهم أميركيون عاديون.
طيفٌ من الدوافع
وإذن، كيف أصبح هؤلاء المواطنون الأميركيون العاديون إرهابيين؟ بالنسبة للعديد من هؤلاء المجندين، كان تحولهم إلى التطرف مدفوعاً في جزء منه على الأقل برغبة في الحصول على الاعتراف أو الانتماء -وغالباً كليهما. وقد عرض عليهم الجهاد الفرصة ليكونوا “شيئاً ما”. وكان سمير خان المقيم في تشارلوت والذي كان أول محرر لمجلة تنظيم القاعدة الناطقة بالإنجليزية “إنسباير” تحمس كثيراً لفكرة رومانسية الحرب المقدسة، إلى درجة أنه بينما كان يقود السيارة في طريقه إلى أول لقاء مع أعضاء من تنظيم القاعدة في منطقة قصية من اليمن، فإنه وصف ذلك بأنه تجربة “مثيرة”.
ثمة بعد كل شيء مثير، بل وحتى بطولي، في وصف نفسك بأنك محارب مقدس تقاتل في حرب مجيدة موكلة إليك من الله ضد أعداء الإسلام -خاصة عندما تكون بغير ذلك مجرد عامل مكتب آخر من الضواحي، مثلما كان سمير خان.
في الأربعينيات، ربما كان المجندون الأميركيون المثاليون في المجموعات الجهادية لينضموا إلى تنظيمات أخرى تعهدت بالثورة من أجل تأسيس يوتوبيا هنا على الأرض، مثل “ويذر أندرغراوند” و”بلاك بانثرز” (الفهود السود). وتماماً مثلما كان الأمر بالنسبة لثوريي السبعينيات هؤلاء، كان هناك شيء جذاب ومثير للحماس بالنسبة للمتشددين الأميركيين مثل خان، في ترك حياتهم المملة والانضمام إلى الجهاد.
وراء التحمس المحض للانضمام إلى الجهاد، وجدت أن الجهاديين الأميركيين دفعهم عموماً خليط من العوامل، بما في ذلك الإيديولوجية الإسلامية المتشددة؛ وعدم محبة السياسة الأميركية الخارجية تجاه العالم الإسلامي؛ والحاجة إلى إقران أنفسهم بإيديولوجية أو تنظيم يعطيهم الإحساس بالهدف؛ و”انفتاح إدراكي” على الإسلام المتشدد، والذي غالباً ما تكون صنعته خيبة أمل شخصية مثل وفاة أحد الوالدين.
لكن مقادير الدوافع تفاوتت في كل حالة. وعلى سبيل المثال، فإن تامرلان تسارناييف، الشقيق الأكبر من الأخوين اللذين نفذا الهجوم على ماراثون بوسطن في العام 2013، كان مسلماً غير ممارس، وأصبح متشدداً إسلامياً فقط عندما خابت أحلامه في أن يصبح بطل ملاكمة أولمبياً. كما أنه كان عاطلاً عن العمل وقت تنفيذ الهجوم. وبالنسبة له، بدا أن تفجير الماراثون سيتيح له أن يصبح شخصية بطولية كما أراد لنفسه أن يكون.
ومن جهة أخرى، لم يظهر أبداً أن شقيقه الأصغر، دزوخار، قد تبنى الإسلام المتشدد أبداً. وقد تعاطى الماريوانا وعاقر الخمر ولاحق الفتيات -وهي ممارسات من المستحيل أن يمارسها مسلم متشدد. ومن المرجح أن تكون دوافع دزوخار للمشاركة في التفجيرات قد تشكلت في جزئها الأكبر بتأثير من شقيقه الأكبر الذي أقر بأنه كان معجبا به ويخشاه، ويحب معارضته غير الناضجة للسياسة الأميركية الخارجية.
ما الحل؟
تبرز هذه القصص كلنها مدى صعوبة الإجابة بشكل مرضٍ عن السؤال عن الأسباب التي تجعل الإرهابيين يرتكبون جرائم فظيعة. وكما لاحظ الفيلسوف إيمانويل كانط: “لم تتم أبداً صناعة أي شيء مستقيم من مزاج الإنسانية المعوج”. ولعل من المفيد للصحفيين وللساسة على حد سواء تذكر أن بني الإنسان غالباً ما يتحدون التصنيفات الواضحة بحدة.
في ضوء ذلك، كيف يجب على جهة تنفيذ القنون أن ترد؟ يشار في هذا الصدد إلى أن محللي السلوكيات في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي يستخدمون إطار عمل ذكياً. فهم يركزون على السلوكيات التي تظهر شخصاً ما يسير على ما يصفونه “الطريق إلى العنف”. وهم يعطون الإيديولوجية التي تقود في هذا الطريق اهتماماً ثانوياً: وسواء كانوا يتعاملون مع نازيين جدد أو جهاديين، فإن محللي مكتب التحقيقات يستخدمون الأفعال وليس الأفكار لتقرير ما إذا كان شخص ما على وشك تنفيذ هجوم ما. وهو نهج غير ميال للجدال حول “لماذا”، ويركز على “ماذا”؟ -ما الذي قد يفعله مشتبه به من أي شريحة إيديولوجية على الطريق نحو العنف، مثل مسح الأهداف أو حيازة أسلحة.
من الطبيعي أن يكون هجوم أورلاندو قد أصبح جزءا رئيسياً من السباق الرئاسي الأميركي. وقد صُنف خطاب دونالد ترامب في نيوهامبشاير بعد هجوم أورلاندو على أنه أكبر تصريح له عن الإرهاب. وفي النهاية، كان الخطاب خالياً من التفاصيل السياسية، لكن ترامب قال فكرته الواحدة الكبيرة عن مكافحة الإرهاب. وبعباراته: “سوف أوقف الهجرة من مناطق العالم حيث يوجد تاريخ مثبت للإرهاب ضد الولايات المتحدة وأوروبا أو حلفائنا”.
هل ستحل هذه الخطة المبهمة لمنع الهجرة مشكلة الإرهاب في الولايات المتحدة؟ من الصعب ذلك. فكما نشاهد منذ 11/9، فإن كل هجوم إرهابي جهادي مميت في الولايات المتحدة نفذه مواطن أميركي أو مقيم بشكل قانوني.
لن يكون الحظر المقترح عديم الفائدة بالنسبة لجهود مكافحة أعمال الإرهاب المميتة في الولايات المتحدة فقط. ولكن، عبر فرض ما يبدو مثل اختبار ديني على المهاجرين، ستكون هذه الجهود عرضة لتحديات قانونية خطيرة -ناهيك عن أن ذلك فكرة غير أميركية في جوهرها. إن الولايات المتحدة لم تمنع الهجرة الإيطالية في العشرينيات لأن أقلية ضئيلة من الإيطاليين أصبحوا أعضاء في المافيا، ولأن البلد مكان أكثر ثراءً بالنسبة لهم.

بيتر بيرغين

صحيفة الغد الأردنية