أوروبا تدخل مرحلة التأمل: التكتلات الإقليمية مصير لا مفر منه

أوروبا تدخل مرحلة التأمل: التكتلات الإقليمية مصير لا مفر منه

_84042_61

“أدعو إلى علاقة وثيقة إلى أقصى حد بين لندن والاتحاد الأوروبي بعد الخروج”، بهذا التصريح أكد ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني أن الحاجة إلى الاتحاد الأوروبي أصبحت أشبه بالمسألة الحياتية بالنسبة لاقتصاد بلاده، مشددا على أن الدول الـ27 الأخرى “ستبقى جيراننا وأصدقاءنا وحلفاءنا وشركاءنا”.

خلقت نتيجة استفتاء بريطانيا الداعمة لخيار الخروج من الاتحاد الأوروبي جدلا واسعا بين قيادات الرأي والسياسيين والإعلاميين حول أهمية التكتلات الدولية الكبرى في العالم اليوم، وكيف أن التحالفات الإقليمية تعتبر مسألة مهمة في طبيعة العلاقات بين الدول وقوانين القوة والتوازن العالمي خاصة في ظل هيمنة القطب الواحد على المجالات الرئيسية في العالم.

وطرحت العديد من وكالات الأنباء والصحف والمواقع المختصة في الدراسات والبحوث الاستراتيجية أسئلة معمقة حول الموضوع، تمركز جلها حول مدى اكتساب التكتلات الدولية أهمية إضافية من خلال رؤية نتائج استفتاء بريطانيا وتبعات خروجها، والبحث في صيغ أخرى للتحالفات تزيد من متانة العلاقات بين الدول المكونة لها خاصة وأن مصير عدد من الدول في تلك التحالفات أصبح مرتبطا بها.

الانفصال الفاشل

عكس مسار التاريخ، اختارت المملكة المتحدة أن تغادر الاتحاد الأوروبي في خطوة اعتبرها مراقبون أنها سير مناقض لما تطمح له أغلب دول العالم اليوم وهو اللجوء إلى تكتلات اقتصادية كبرى وفق معايير مختلفة لتتمكن من الحفاظ على الحد الأدنى من السيادة الاقتصادية والثقافية والسياسية على مجالها وذلك عبر جملة من الاتفاقيات المؤطرة.

قرار أغلب البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي لم يضع أمام المسؤولين السياسيين خططا عملية للخروج، فقد كشفت نتائج الاستفتاء أن احتمال الخروج لم يكن واردا في حسابات المسؤولين ودليل ذلك هو تصريح الوزراء البريطانيين بأن الدخول في نقاش تفاصيل المادة 50 من معاهدة لشبونة لسنة 2007 والمخصصة لكيفية خروج أحد الأعضاء من الاتحاد لم يحدث بعد، لأن فك ارتباطات بريطانيا بالاتحاد الأوروبي لا يمكن القيام بها في أيام معدودة.

ذهب الباحث الفرنسي في العلوم السياسية بيار روزانفالون في تعليقه على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى القول إن قرار البريطانيين في حد ذاته يشكل صدمة، فقد عول الأوروبيون على النسبة المرتفعة من وعي البريطانيين بأن الانفصال عن الاتحاد مسألة قد تؤدي بكل تاريخ بريطانيا السياسي والمجد المالي والاقتصادي الذي اكتسبته إلى الاندثار.

وأضاف روزانفالون أن “العولمة التي من المفروض أن تكون عنصرا داعما لانصهار الدول في شكل أحلاف متينة وكبرى تقوم اليوم بدور محفز للتيارات اليمينية المتعصبة نتيجة لعوامل معقدة طالت ظاهرة العولمة ذاتها، أهمها تسهيل تدفق الأفكار المتطرفة وتنقل الإرهابيين وتأثير الأزمات الاقتصادية من دولة إلى أخرى وسهولة تحول أي إشكال في البورصات العالمية إلى أزمات تحدث في اقتصادات دول أخرى”. لكن روزانفالون أكد أنه لا مجال اليوم لتجاوز معطى أن الارتكاز على تحالفات إقليمية كبرى أصبح حتمية بالنسبة إلى حياة الدول حتى تتمكن من إيجاد مساحة لدوراتها الاقتصادية ومنتوجاتها وأسواقها وقيمة أوراقها النقدية وغيرها، “ودون ذلك لا يمكن الحديث عن دولة قادرة على التنفس والبقاء على قيد الحياة لأكثر من عشر سنوات”.

هذا التحليل أثبتته التصريحات المتتالية لمسؤولين بريطانيين، والتي تفيد بأن عملية الخروج من الاتحاد صعبة جدا لأن الأجهزة لا تملك خارطة طريق لذلك، وقد نبه الجميع إلى الأضرار الجمة التي يمكن أن تلحق الاقتصاد البريطاني جراء الخروج، الأمر الذي دفع المحافظين المطالبين بالخروج أنفسهم إلى المناداة بعدم التعجيل في إجراءات الخروج خوفا من انهيار العديد من المؤسسات.

وقد دفع هذا الواقع بعض المراقبين إلى القول إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي محاولة فاشلة، حتى أن نائبين بالبرلمان البريطاني عن حزب العمال المعارض اتخذا خطوات لتنظيم استفتاء ثان على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قائلين إنه ينبغي منح البريطانيين فرصة للموافقة أو رفض خطة الخروج قبل بدء المفاوضات الرسمية.

المزيد من التشبث بالوحدة

في الوقت الذي ذهبت فيه بعض الآراء إلى التأكيد على أن لخروج بريطانيا من الاتحاد أثر الدومينو، أثبتت تصريحات المسؤولين الأوروبيين عكس ذلك، فقد أكد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن قرار 52 بالمئة من البريطانيين ترك الاتحاد الأوروبي جعل من أنصار الاتحاد يزيدون إصرارا على المضي قدما في الاتحاد وتعميقه بل وتوسيعه بشراكات أخرى.

ومن ناحيته، دعا وزير خارجية لوكسمبورغ جان أسيلبورن إلى تحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية في أوروبا بعد تصويت البريطانيين على خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الشعبي التاريخي الذي تم إجراؤه يوم الخميس الماضي. وقال أسيلبورن في تصريحات لبرنامج “مورغن ماغازين” الإخباري بالقناة الأولى الألمانية إنه في ظل الدعوات التي تنادي بإجراء استفتاءات شعبية مماثلة في الكثير من الدول الأوروبية الأخرى “قد يؤدي إجراء هذا الاستفتاء في دول أخرى إلى النتيجة ذاتها”.

وأوضح أن المواطنين لا يعارضون أوروبا، ولكنهم يعارضون السياسة الحالية التي تتبعها أوروبا، مشددا على ضرورة تحسين هذه السياسة. وأكد أسيلبورن على ضرورة أن يمضي الاتحاد الأوروبي قدما على نحو أكبر في مواجهة البطالة التي يعاني منها نحو 14 مليون شخص، وقال “يجب على أوروبا ألا تخيب الآمال في هذا الشأن”. وأشار وزير خارجية لوكسمبورغ إلى أن تحقيق النمو وحده ليس كافيا، مشددا على ضرورة أن يقوم الاتحاد الأوروبي بتوزيع الفائض الذي يتم توفيره من خلال النمو بشكل عادل اجتماعيا، وقال ” تنتظرنا استحقاقات تجاه ما يزيد على 440 مليون شخص، ويتعين علينا إنجازها”.

البعض يؤكد على أن لخروج بريطانيا من الاتحاد أثر الدومينو، لكن تصريحات المسؤولين الأوروبيين أثبتت عكس ذلك

هذه التصريحات تؤكد أن أوروبا الآن في لحظة تأمل ومراجعة لذاتها ولما وصلت إليه من خلال الاتحاد الذي نشأت بوادره منذ خمسينات القرن الماضي، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية حزمة الإصلاحات الكبرى وإعادة الإعمار.

وتدخل الأحداث الآن مجال ما بعد الصدمة من قرار الخروج، حيث أثبتت أوروبا أن الاتحاد يمكن أن يتجاوز في توسعه وقوته المجال الإقليمي الجغرافي المباشر الذي تتشكل منه، وصولا إلى أميركا الشمالية، أي إلى كندا. فقد أكد بيان صادر عن البرلمان الأوروبي أن الاتفاقية العابرة للأطلسي والتي تجمع الاتحاد الأوروبي بكندا جاهزة للتوقيع في أكتوبر المقبل. وتنص اتفاقية “سيتا” بين الجانبين على أن يكون المجال بين كندا والاتحاد الأوروبي مجالا حرا وتلغى فيه الرسوم الجمركية ويتم فيه تسهيل تنقل رؤوس الأموال والسلع والمستثمرين وغير ذلك من امتيازات دعم الدورات الاقتصادية.

ويتأكد يوما بعد يوم مع تطورات الأحداث أن التحالفات بين الدول أصبحت مسألة حتمية للتمكن من حماية الأمن القومي وحماية القطاعات الاقتصادية الحيوية ومجال النفوذ والأسواق. فقد قام التحالف الإسلامي الأخير الذي تقوده المملكة العربية السعودية بالأساس على مسألة ضم الدول الإسلامية في تشكيل واحد لمحاربة الإرهاب، وعدم ترك الأبواب مفتوحة أمام القوى الغربية فقط للقيام بتلك المهمة.

كما أقام التحالف العسكري عاصفة الحزم بغرض تأمين اليمن والمجال الاستراتيجي العربي من هيمنة إيران عليه والتواجد في خاصرة الخليج لتهديد أمنه؛ وحتى الجامعة العربية، التي ربما يعاب عليها أنها غير قادرة على إدارة فعلية للأزمات العربية بشكل فعال، تبقى التكتل العربي الرئيسي والمنبر الجامع لكل الدول العربية.

صحيفة العرب اللندنية