عصر التفكك.. نيوليبرالية وتدخل ولعنة الموارد وعالم مجزأ

عصر التفكك.. نيوليبرالية وتدخل ولعنة الموارد وعالم مجزأ

CQE2strWIAARDf3

نحن نعيش في عصر التفكك، وليس ذلك أكثر وضوحا مما هو الحال عليه في أفريقيا والشرق الأوسط الكبير. في الامتداد الشاسع من الأراضي بين باكستان ونيجيريا هناك سبعة حروب جارية على الأقل: في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال وجنوب السودان.

تمزق هذه الحروب شديدة التدمير البلدان التي تدور فيها بطرق يجعل تعافيها أمرا مشكوكا فيه. وهناك أيضا على الأقل ثلاث حركات تمرد خطيرة: في جنوب شرق تركيا حيث يحارب المقاتلون الأكراد الجيش التركي، وفي شبه جزيرة سيناء حيث تدور رحى حرب عصابات ضارية لكنها لا تنقل في الأخبار كثيرا، وفي شمال شرق نيجيريا والبلدان المجاورة حيث تواصل بوكو حرام شن هجمات قاتلة.

كل هذه الحروب تشترك في عدد من الخصائص، فهي تبدو دون نهاية وليس فيها رابحون أو خاسرون بشكل قاطع. (تعاني أفغانستان بالفعل من الحرب منذ سنة 1979، والصومال منذ سنة 1991). تتعلق هذه الحروب بتدمير أو تقطيع أوصال أمم موحّدة وتقسيمها بحكم الواقع، ونزوح أعداد كبيرة من السكان إضافة إلى الانتفاضات، لكن يتم الحديث عنها بشكل مكثّف في الحالتين السورية والعراقية، وبدرجة أقل في جنوب السودان حيث نزح أكثر من 2.4 مليون شخص في السنوات الأخيرة.

إضافة إلى ذلك، توجد نقطة تشابه أخرى بين هذه البلدان لا تقل أهمية، وهي أن الحركات الجهادية المتطرفة (بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة وطالبان) هي بالأساس الوسائل الوحيدة المتاحة للاحتجاج والتمرد، إذ عوضت بالكامل الحركات الاشتراكية والقومية التي سادت في القرن العشرين، أي شهدت السنوات الأخيرة عودة ملحوظة للهوية الدينية والإثنية والقبلية، وإلى حركات تسعى لإرساء إقليمها الخاص بها عن طريق اضطهاد الأقليات وطردها.

في الأثناء، وتحت ضغط التدخل العسكري الخارجي يبدو أن مساحة شاسعة من الأرض أصبحت مفتوحة، ومع ذلك لم تفهم هذه الأحداث في واشنطن بشكل صحيح إذ كثيرا ما تتعالى أصوات تدعو للتدخل في سوريا لضرب النظام على أساس أنه السبب الأصلي لحالة الفوضى السائدة هناك. وبالرغم من الإقرار الآن بأن غزو العراق في سنة 2003 كان خطأ فادحا (حتى من أولئك الذين ساندوه في ذلك الوقت) لم تستخلص دروس حقيقية عن كون التدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط على مدى ربع القرن الماضي لم تزد العنف إلا تفاقما ولم تزد من خطوات فشل الدولة إلا تسارعا.

تنظيم الدولة الإسلامية الذي احتفل مؤخرا بميلاده الثاني هو نتاج فظ لهذا العهد من الفوضى والصراعات. وما وجود مثل هذه الفئة المتوحشة إلا أحد أعراض الاضطراب العميق الذي عانت منه المجتمعات في كامل أرجاء المنطقة الخاضعة لحكم نخب فاسدة وفاقدة للمصداقية. وليس صعود هذا التنظيم وأشباهه إلا دليل على ضعف خصومه.

مثلا في يونيو 2014، كان يوجد في الجيش العراقي وقوات الأمن 350 ألف جندي و660 ألف شرطي مسجّلة أسماؤهم على الدفاتر عندما قام بضعة آلاف من المقاتلين التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية بالهجوم على الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، وما زالوا يحكمون سيطرتهم عليها. وفي أفغانستان يعزى صمود حركة طالبان التي يفترض أنها هزمت بشكل تام في سنة 2001 إلى الازدراء الذي ينظر به الأفغان إلى حكومتهم الفاسدة في كابول أكثر من الشعبية التي تتمتع بها تلك الحركة.

في كل مكان تضعف الدول الوطنية وتنهار في الوقت الذي يكافح فيه الزعماء المستبدون للبقاء في وجه تنامي الضغوط الخارجية والداخلية. ولم يكن من المتوقع أن تأخذ المنطقة هذا المنحى، فالدول التي تحررت من الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين كان من المفترض أن تصبح أكثر، وليس أقل، توحّدا مع مرور الزمن.

في الفترة بين سنة 1950 و1975 وصل الزعماء الوطنيون إلى السلطة في معظم البلدان المستعمرة سابقا، ووعدوا بتحقيق تقرير المصير الوطني عن طريق إحداث دول مستقلة قوية عبر حشد كل الموارد المتاحة بمختلف أنواعها السياسية والعسكرية والاقتصادية.

وبدل ذلك تحوّل الكثير من هذه الأنظمة مع مرور الزمن إلى دول بوليسية بإشراف عدد صغير من العائلات الثرية جدا ومجموعة من رجال الأعمال المعتمدين على علاقاتهم مع هؤلاء الزعماء مثل حسني مبارك في مصر وبشار الأسد في سوريا. وفي السنوات الأخيرة انفتحت هذه البلدان أيضا على الدوامة الاقتصادية لليبرالية الجديدة التي قضت على أيّ عقد اجتماعي يربط بين الحكام والمحكومين.

والسؤال المطروح الآن هو لماذا يحدث “انقراض جماعي” للدول المستقلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وغيرها؟ كثيرا ما يشير السياسيون والإعلام في الغرب إلى هذه البلدان على أنها “دول فاشلة”. والمعنى المضمن في تلك العبارة هو أن العملية هي عملية تدمير ذاتي، لكن العديد من هذه الدول التي توصف حاليا على أنها “فاشلة” مثل ليبيا لم تصبح كذلك إلا بعد أن استولت حركات المعارضة المدعومة من الغرب على السلطة بدعم من التدخل العسكري من قبل واشنطن وحلف الناتو، وعجزت عن فرض حكوماتها الخاصة بها ومن ثم احتكار العنف داخل التراب الوطني.

لقد بدأ هذا المسار مع التدخل الأميركي في العراق في سنة 2003 الذي أدى إلى إسقاط صدام حسين، وحل حزب البعث وتسريح الجيش العراقي. ومهما تكن أخطاء صدام حسين ومعمر القذافي فمن الواضح أنه تمت شيطنتهما وتحميلهما مسؤولية الخلافات الإثنية والطائفية والإقليمية في كل من العراق وليبيا، ثم أطلق العنان لمثل هذه القوى بشكل محزن على إثر وفاتهما.

بالرغم من وجود العديد من الأسباب الواضحة للتفكك الحالي للدول مع الاختلاف نوعا ما من مكان إلى آخر، هناك شيء واحد لا شك فيه: الظاهرة نفسها تتحول إلى معيار على امتداد مساحات شاسعة من الأرض. إن كنت تبحث عن أسباب فشل الدولة فإن المكان الذي يجب أن تبدأ منه هو بالتأكيد نهاية الحرب الباردة قبل ربع قرن من الآن. لما انتهت الحرب لم يكن للولايات المتحدة ولا روسيا المنبثقة من الاتحاد السوفييتي مصلحة كبيرة في مواصلة دعم “الدول الفاشلة” كما كان يفعل كل منهما لمدة طويلة خشية أن تتولى فعل ذلك القوة العظمى المنافسة ووكلاؤها المحليون.

في السابق كان الزعماء الوطنيون في أماكن مثل الشرق الأوسط قادرين على المحافظة على درجة من الاستقلالية لبلدانهم عن طريق الموازنة في العلاقات بين موسكو وواشنطن، لكن عند تفكك الاتحاد السوفييتي لم يعد ذلك ممكنا.

وأضاف انتصار اقتصاد السوق الحرة الليبرالي الجديد في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي عنصرا حاسما إلى الخليط، وسيتبين أنه كان عاملا مزعزعا للاستقرار أكثر بكثير مما كان يبدو حينها.

ومرة أخرى نأخذ سوريا كمثال، إن توسع السوق الحرة في بلد تغيب فيه آليات المساءلة الديمقراطية وحكم القانون يعني شيئا واحدا بدرجة أولى: استحواذ المتنفذين المرتبطين بالعائلة الحاكمة على كل شيء مربح، وفي الأثناء زادت ثروتهم بشكل مذهل في حين عانى سكان القرى والمدن الصغيرة والأحياء الفقيرة الذين كانوا يعتمدون على الدولة لتوفر لهم الشغل والطعام الرخيص الثمن. ولذلك ليس من المفاجئ لأيّ أحد بأن تصبح هذه الأماكن معاقل الانتفاضة السورية بعد سنة 2011.

أضف إلى ذلك عاملا آخر يجعل هذه الدول أكثر هشاشة، ألا وهو إنتاج وبيع الموارد الطبيعية من نفط وغاز ومعادن وهوس السرقة الذي يصاحبهما. هذه البلدان عادة ما تعاني ممّا يسمى “لعنة الموارد” إذ تتحول هذه الدول المعتمدة بشكل تصاعدي على الموارد الطبيعية إلى دكتاتوريات فاسدة تجمع بين الثراء الفاحش والفقر المدقع. وتميل السياسة في هذه البلدان إلى التركيز على النخب التي تجاهد وتناور من أجل سرقة المداخيل وتحويلها في أسرع وقت ممكن إلى الخارج.

كانت الليبرالية الجديدة فيما مضى تعتبر الطريق المؤدية إلى الديمقراطية العلمانية واقتصادات السوق الحرة، لكن في الممارسة كانت كل شيء غير ذلك. بدل ذلك وبالإضافة إلى لعنة الموارد، فضلا عن التدخلات العسكرية المتكررة من واشنطن وحلفائها، تسبب اقتصاد السوق في زعزعة الشرق الأوسط الكبير بشكل عميق.

وبتشجيع من واشنطن وبروكسل، جعلت الليبرالية الجديدة المجتمعات المتفاوتة أكثر تفاوتا من أيّ وقت مضى وساهمت في تحويل الأنظمة الفاسدة أصلا إلى ماكينات للنهب. وبطبيعة الحال هذا أيضا وصفة لنجاح تنظيم الدولة الإسلامية أو أيّ بديل متطرف للوضع القائم، وليس هناك بد من أن تجد مثل هذه الحركات دعما من المناطق المفقرة والمنسية مثل شرق سوريا أو شرق ليبيا.

بيد أن هذا المنهج في زعزعة الاستقرار لا يقتصر أبدا على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فنحن بالفعل في عصر الاضطرابات، تلك الظاهرة التي تشهد تصاعدا على الصعيد العالمي وهي في الوقت الحاضر بصدد الانتشار إلى البلقان وشرق أوروبا. لم يعد الناس يتحدثون عن الاندماج الأوروبي، بل كيف تمكن الحيلولة دون انهيار الاتحاد الأوروبي بالكامل في أعقاب تصويت البريطانيين لفائدة المغادرة.

إن الأسباب التي تقف وراء تصويت البريطانيين لفائدة الخروج من الاتحاد الأوروبي شبيهة بما يجري في الشرق الأوسط: لقد أدت سياسات السوق الحرة التي اتّبعتها الحكومات منذ حكم رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر إلى توسيع الهوة بين الأغنياء والفقراء وبين المدن الثرية وجزء كبير من باقي البلاد.

ربما تكون بريطانيا في حالة جيدة لكن الملايين من البريطانيين لم يشاركوا في الرخاء، ومن ثم أصبح الاستفتاء حول مواصلة الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي المحفز على الاحتجاج ضد الوضع القائم، والغضب الذي عبّر عنه المصوتون لفائدة الخروج شبيه بغضب مناصري دونالد ترامب في الولايات المتحدة.

تبقى الولايات المتحدة قوة عظمى، لكنها لم تعد بنفس القوة التي كانت عليها سابقا، فهي أيضا تشعر بضغوط هذه اللحظة العالمية التي تجد هي وحلفاؤها أنفسهم فيها أقوياء بما يكفي ليتخيّلوا بأنه يمكنهم التخلص من الأنظمة التي لا تعجبهم، لكن إما أنهم لا ينجحون مثلما هو الشأن في سوريا، أو أنهم ينجحون لكنهم لا يستطيعون تعويض ما دمروه مثلما هو الشأن في ليبيا.

وقد قال سياسي عراقي ذات مرة إن المشكل في بلده يتمثل في أن الأحزاب والحركات “أضعف من أن تربح، لكن أقوى من أن تخسر”.

وهذا هو النمط في المنطقة كلها وهو بصدد الانتشار في أماكن أخرى، ويحمل معه إمكانية التسبب في دوامة من الحروب غير المحسومة وعصر من الاضطرابات بدأ بعد.

باتريك كوكبيرن

صحيفة العرب اللندنية