لكنْ من يرسم «سايكس – بيكو جديدة»؟

لكنْ من يرسم «سايكس – بيكو جديدة»؟

12642437_772839656181016_1725994984134637171_n-20160211-164144

إذا اختزلنا الحدود الجغرافية الراهنة في العالم العربي، والشرق الأوسط عموماً، في اتفاقية كتبها اثنان من كبار العالم قبل قرن، يسهل تخيل إعادة رسم هذه الحدود بطريقة مشابهة في مضمونها، أي عبر قوتين عظميين في العالم أو أكثر. ويبدو هذا التخيل الشائع أحد أهم عوامل انتشار الحديث عن «سايكس- بيكو جديدة» تُرسم في الفترة المقبلة. فالخيال الغائب في حياتنا العربية الفقيرة إبداعياً ومعرفياً حاضر بقوة في ذهنية المؤامرة التي تتحكم بمساحة يُعتد بها من تفكيرنا.

لذلك يسهل إغفال أن الخريطة التي أسفرت عنها التفاعلات الديبلوماسية في أواخر الحرب العالمية الأولى واثرها كانت مختلفة عما تصوره الديبلوماسيان الإنكليزي والفرنسي سايكس وبيكو في اتفاقيتهما عام 1916. فمثلاً أصبحت المنطقة على ضفتي نهر الأردن منطقة انتداب بريطاني (لم يكن وعد بلفور صدر عندما بدأ سايكس وبيكو التفكير في خريطة المنطقة).

كما نُقلت السيطرة على الموصل وشمال العراق من فرنسا إلى بريطانيا، مع ضمهما إلى بغداد والبصرة وملحقاتهما، أي توحيد ولايات عثمانية كانت منفصلة في دولة واحدة (العراق).

والحال أن خريطة منطقة المشرق ظلت موضع تعديل نتيجة تفاعلات مرتبطة بموازين قوى سياسية وعسكرية، وعمليات تاريخية ترتبت على الحرب العالمية الأولى التي كان متوقعاً منذ بدايتها أن تنتهي بموت الدولة العثمانية بعدما طال أمد وصفها بـ «الرجل المريض». لذلك كان توزيع تركتها هدف الاتفاقات التي بدأت سرية في بطرسبرغ، بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، ثم توالت علناً عبر مؤتمرات سان ريمو وسيفر ولوزان.

حدث هذا كله بدءاً من 1917 عبر مفاوضات واتصالات كانت معروفة للكافة، في إطار موازين القوى الفعلية.

ومن أهم ما يُغفل في هذا التاريخ أيضاً أن أثر ارتباك القادة العرب في المشرق العربي والعراق آنذاك، وتخبطهم وأطماع بعضهم، لم يكن أقل أهـــمية من دور بريطانيا وفرنسا. فقد أتاحت صراعاتهم للدولتين الكبيرتين وقتها حرية العمل وفق الخيار الأكثر واقعية، لأن اتفاق سايكس- بيكو كان مفتوحاً على خيارين (دول عربية أو حلف تحت رئاســـة رئــيس عربي) وفق مادته الأولى التي يتم تجاهلها عادة عند استحضاره.

وازداد أثر العامل الذاتي «العربي» بعد استقلال بلاد المنطقة وبناء نظم حكم مستبدة في خمسينات القرن الماضي وستيناته. ويُعَدّ الاضطراب الراهن في المنطقة، والحروب الداخلية المشتعلة في بعضها والفشل المتزايد في بعضها الآخر، محصلة تراكم تداعيات الاستبداد والقهر والإذلال والفساد والإفقار والتمييز وإهدار كرامة البشر على مدى عقود. وقد تفاوتت هذه المحصلة من بلد إلى آخر وفق حجم فائض القوة المترتب على فائض السلطة في كل منها. فأحد الدروس التي يزخر بها التاريخ في هذا المجال أن البقاء في السلطة لفترة طويلة يخلق شعوراً بالقوة الزائدة التي تصبح الدول والمجتمعات ضحية لها.

والحال أنه من أخطر ما يتعرض له أي بلد أن تستمر سلطة ديكتاتورية في الحكم لفترة طويلة. ويزداد هذا الخطر بمقدار التنوع في المجتمع الخاضع لها. فكلما ازداد هذا التنوع، يُضاف إلى فشل الدولة وتحللها بناء حواجز بين مكونات المجتمع الدينية والمذهبية والعرقية وغيرها، وافتقاد الوطن جوهره المتمثل في أنه محل للتعايش بين هذه المكونات. فالوطن ليس مجرد جغرافيا، بل حيّز للتفاعل الحر الإيجابي والخلّاق بين مكوناته وفق قواعد محددة مقبولة من الجميع يُطلق عليها مجازاً اسم عقد اجتماعي.

وإذ افتقدت بلدان منطقتنا مثل هذا العقد، وأُخضعت مجتمعات بعض أهمها بالقوة، فقد تحولت مناطق عدة فيها إلى حواضن اجتماعية للعنف الذي يلد عنفاً. لذلك عندما يُقال أن الإرهابي ربيب الطاغية ووريثه، يجوز أن نعد هذا القول تلخيصاً مكثفاً للاضطراب الذي يعم المنطقة الآن، وموجزاً مُرَّكزاً للخطوة الأولى اللازمة لوضع حد لهذا الاضطراب، وهي إنهاء الطغيان. فقد تدهورت الأوضاع في المنطقة بسبب نوع الحكومات التي تسلطت في كثير منها، والسياسات التي اتبعتها. ولم يكن دور قوى دولية في هذا التدهور إلا مُكملاً في الأغلب الأعم.

غير أن تدني حال العقل العربي العام نتيجة التجريف الذي تعرضت له المجتمعات على مدى عقود، والفقر المعرفي والثقافي، يؤديان إلى تصور أن خريطة جديدة تُرسم للمنطقة الآن، ويسميها كثير ممن يتحدثون عنها «سايكس – بيكو» جديدة.

لقد تغير العالم جذرياً خلال القرن الذي مضي منذ «سايكس بيكو». لم تعد هناك قوى استعمارية تحتل معظم مناطق المنطقة، بخلاف الحال حين كانت دولتا سايكس وبيكو مهيمنتين عليها. ومع ذلك، يكثر من يتصورون أن الولايات المتحدة وروسيا تقومان الآن بالدور الذي يعتقدون أن بريطانيا وفرنسا قامتا به منذ قرن.

وينطوي هذا التصور على كثير من الخيال، لأنه يغفل أثر المعطيات الفعلية على الأرض، وتوجهات القوى الدولية سواء الولايات المتحدة وروسيا أو غيرهما.

فالمعطيات الواقعية تفيد بأن أدوار الأطراف المحلية، والقوى الإقليمية، لا تقل أهمية في تحديد مستقبل المنطقة عن الدورين الأميركي والروسي، إن لم تزد فى بعض الأحيان، وربما في كثير منها.

كما أن طبيعة العلاقات الأميركية – الروسية الآن، ونوع مصالح كل من واشنطن وموسكو، يختلفان عما كانت عليه العلاقات البريطانية – الفرنسية قبل قرن، كما عن مصالح كل من لندن وباريس حينذاك.

ويعني ذلك أن أميركا وروسيا لا تستطيعان وحدهما أن تحددا مستقبل منطقة الشرق الأوسط، ولا تملكان حتى الأدوات الأكثر تأثيراً في هذا المجال.

لذلك ربما يفيد تدقيق ما حدث تاريخياً على صعيد رسم حدود بعض الدول العربية في ترشيد تفكيرنا في شأن التطورات المحتملة مستقبلاً. فإذا حدث تغير في بعض الحدود الجغرافية، سيكون نتيجة للصراعات والحروب الأهلية الجارية الآن، وليس بفعل اتفاقات بين كبار هنا أو متآمرين هناك. والأرجح أنه لن يجلس وزيرا خارجية أميركا وروسيا أو غيرهما لرسم خريطة جديدة في سورية أو العراق، بل ربما تُرسم هذه الخريطة بالدم والآلام إذا لم يتيسر وضع حد للحروب الأهلية والحروب بالوكالة المشتعلة الآن قبل أن تدمر آخر خيط للتعايش بين مكونات هذا الشعب أو ذاك من ضحاياها.

وحيد عبدالمجيد

صحيفة الحياة اللندنية

للكاتبTags not available