في التطبيع بين تركيا وإسرائيل

في التطبيع بين تركيا وإسرائيل

c2d4cfc59fa97ff0

أثارت إعادة تركيا علاقاتها إلى طبيعتها مع إسرائيل تساؤلات عديدة، ومواقف متباينة، لكن معظمها تناسى أن تركيا ليست في حالة عداء مع إسرائيل أصلاً، وهي لم تدّع ذلك في أي يوم من الأيام، خصوصاً أنها ليست دولة عربية، ولا دولة مجاورة لإسرائيل، ولا توجد حالة حرب بينهما. أيضاً تناست ردود الفعل على هذه الخطوة أن تجميد العلاقات كان اقتصر على الجانبين السياسي أو الديبلوماسي، وأن العلاقات الاقتصادية والأمنية بين الطرفين ظلّت على حالها تقريباً، وأن القطيعة الحاصلة كانت تمحورت حول اعتداء إسرائيل على السفينة «مرمرة» (عام 2010) وقتلها ناشطين أتراكاً، كانوا يتوخّون فكّ الحصار عن غزة، وأن كل مطالب تركيا من إسرائيل اقتصرت على الاعتذار أولاً، ودفع تعويضات لعائلات الضحايا ثانياً، ورفع الحصار عن غزة ثالثاً. وتحقق الطلبان الأوليان لتركيا، في حين أن الطلب الثالث، وهو مجرد طلب سياسي، ليس بمقدور تركيا وحدها فرضه على إسرائيل، مع أنها حاولت من خلال تفاهمات إعادة العلاقات فتح نافذة تتمكن من خلالها من تقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في غزة، وهو جلّ ما تستطيع تركيا فعله في هذه الظروف.

المشكلة في ردود الفعل المذكورة أنها أتت متسرّعة، ومحملة بالرغبات والعواطف، بدل التفكير في طبيعة الأمور بطريقة عقلانية وواقعية، لذا فهي حمّلت تركيا أكثر مما تحتمل، وكأن المطلوب منها محاربة إسرائيل، أو تحرير فلسطين، أو أقله رفع الحصار عن قطاع غزة، البعيد عنها مئات الكيلومترات!

هكذا بدا وكأن بعضهم لدينا يفكر كأن الرئيس التركي طيب رجب اردوغان عضو في حزبه، أو يشتغل عنده، أو سيحلّ له مشاكله مع إسرائيل، وكأنه ليس رئيساً لدولة أخرى، ولشعب آخر، في حين بدا بعض آخر عندنا مجرد مهلّل لهذه الخطوة، بل ومنظّر لها، تماماً مثلما هلّل ونظّر قبلها لتجميد العلاقات، وهكذا. في حين أن الحقيقة لا تكمن في هذا الموقف ولا في نقيضه، وإنما في النظر الى السياسة والعلاقات والصراعات السياسية باعتبارها من أفعال البشر التي تنطوي على اخطاء ومن ضمنها التهور والتسرع والتبسيط وردود الفعل وعدم مراعاة الواقع واللامبالاة ازاء موازين القوى وتجاهل المعطيات الدولية والإقليمية، والاستخفاف بالخصم. ومعنى ذلك أن هذه الخطوة تراجعية بالنسبة إلينا، وتالياً فهي مكسب بالنسبة إلى إسرائيل، لكن من الخطأ والتعسّف النظر إلى الأمور من هذه الزاوية فقط، لأن هذه الزاوية تهمنا نحن فقط، لكنها ليست كذلك من وجهة نظر الأتراك، او من وجهة نظر مصالح تركيا وأولوياتها وموقعها في العالم.

على ذلك قد يصحّ القول إن ثمة تراجعاً في الموقف التركي، أو إعادة تموضع إزاء إسرائيل (كما إزاء روسيا)، وهذا في واقع الأمر تحصيل حاصل لعلاقات القوة والمكانة في هذه المرحلة، أي لا يمكن تجميله، أو إضفاء قيمة إيجابية عليه، وإنما ينبغي النظر اليه بموضوعية، إذ إن القصة ليست في هذه العلاقة، فمعظم دول العالم تقيم علاقات مع إسرائيل، المهم كيف تنظر هذه الدولة أو تلك إلى هذه الدولة، وكيف تتعامل معها، وهل هي تقف إلى جانب الحق الفلسطيني، نظرياً وعملياً؟

هذا يفترض الانتباه أيضاً الى أن تركيا دولة إقليمية كبيرة، وهي ضمن منظومة الدول العشرين الأكثر تطوراً في العالم، ولديها مشكلات وحاجات وأولويات تختلف عنا، ولا يمكن أن تشتغل شغلتنا، أو أن تحل مشاكلنا. هكذا فإن رمي تركيا بتهمة «التطبيع» مع إسرائيل لا معنى له، وليس في محله. فضلاً عن ذلك فإن التطبيع يكمن في استمرار الأنظمة الاستبدادية التي تتيح لإسرائيل القدرة على التميز والتفوق في المنطقة، بنمط نظامها السياسي وحيوية مجتمعها وتقدمها العلمي، في حين أن أنظمتنا تشتغل على تهميش مجتمعاتنا وتقييد حرياتنا والحطّ من مستوى التعليم وإشاعة الفساد في بلداننا. فوق ذلك فإن التطبيع يتأتّى من كسب اسرائيل السباق بفرضها احترامها على العالم فيما انظمتنا تشتغل في قمعنا، وتأبيد حال الهوان والتخلف والفقر في مجتمعاتنا، كما يتأتّى من تفكّك النظام العربي، ومن تآكل الدولة العربية لمصلحة السلطة، ومن تحول البلدان العربية الى مزارع للأسر الحاكمة، إذ وفق الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة فإن إسرائيل حاجة للأنظمة التسلطية العربية.

طبعاً هذا لا يعني انه ليست ثمة ملاحظات على السياسة التركية المتعلقة بأوضاعنا، مع التقدير عالياً للتطور الحاصل في تركيا على صعيد الحريات الفردية، والتطور الاقتصادي والتقني والعمراني وارتفاع مستوى المعيشة، في عهد حزب «العدالة والتنمية» وزعيمه رجب طيب اردوغان. هكذا فالسياسة التركية ازاء الثورة السورية مثلاً تستحق النقد إذ هي شجعت السوريين على الذهاب إلى الحد الأقصى من البدايات، وعلى التحول نحو الصراع المسلح من دون توافر الإمكانيات والبنى اللازمة والمناسبة، ومحضت دعمها تحديداً للجماعات الإسلامية المتطرفة والمسلحة على حساب الجماعات الأخرى، وضمنها «الجيش الحر»، أي على حساب المشروع الوطني الديموقراطي. والمشكلة أنها بالمحصلة، وكما بينت التجربة، لم تحتمل هذه السياسة، ولم تستطع توفير الدعم لها، بحيث دفع السوريون الثمن، وما زالوا، وهي أيضاً دفعت وتدفع بعض هذا الثمن، بطرق عديدة، كما نلاحظ.

أما بصدد الانفتاح التركي على اسرائيل فيبدو أن هذه كسبت الرهان، وهي كانت كسبته أيضاً منذ زمن إزاء إيران التي غرقت في الدم السوري وفي العراق، وفي شقها وحدة مجتمعات المشرق العربي على أسس مذهبية، بميلشياتها المسلحة، علماً انها كسبته إزاء روسيا أيضاً، بمعنى ما.

المعنى أن إسرائيل في ظل كل ما يحصل، وفي ظل غياب النظام العربي، وتهميش المجتمعات العربية، باتت الدولة الأكثر استقراراً في المنطقة. لذا وبدلاً من إلقاء اللوم على تركيا أو غيرها ينبغي أن نرى كيف كسبت إسرائيل الرهان؟ لقد كسبته بفضل نظامها الديموقراطي القائم على دولة المواطنين (بالنسبة إلى اليهود فيها) أولاً. ثانياً، كسبته بفضل تقدمها العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، فحتى روسيا بصناعاتها الحربية لا تستطيع الاستغناء عن التكنولوجيا الإسرائيلية! ثالثاً، كسبته بفضل الحفاظ على حدّ معين في صراعها مع الفلسطينيين إذ تصارعهم بطريقة «عقلانية»، وليس على طريقة «يا قاتل يا مقتول»، على شاكلة النظام السوري في بطشه بشعبه، إذ هي تشتغل على ازاحة الفلسطينيين من المشهد وتخفيف الاحتكاك بهم، مع ردعهم واستمرار الهيمنة عليهم، بالوسائل الناعمة، الاقتصادية والإدارية، ونمط العيش، وطبعاً مع استخدامها القوة بين وقت وآخر. وهذا مع تأكيدنا أن اسرائيل هذه هي دولة استعمارية وعنصرية ودينية ومصطنعة وغير شرعية…الخ. أي أن إسرائيل، بفضل كل ذلك، تحقق نجاحات كبيرة في العالم، وليس فقط بفضل قوتها العسكرية أو بفضل علاقاتها مع الولايات المتحدة، على ما يحلو لبعضهم الترويج، لتغطية العجز والتقصير، وهذا ما يجب أن نلاحظه وأن نلوم أنظمتنا عليه.

في الخلاصة، من الإجحاف في مكان النظر إلى كل شيء من زاوية رأينا بمركزية إسرائيل فيما يخص أوضاعنا، وعلاقاتنا الإقليمية والدولية، إذ إن هذه النظرة تحجب عنا رؤية الواقع كما هو، كما أنها تعزلنا عن العالم، وتضر بقضيتنا، والأهم أنها تعلق كل قصورنا ومشاكلنا على مشجب إسرائيل، وهذا ما روجت له، وارتاحت اليه، الأنظمة الاستبدادية طوال العقود السبعة الماضية.

نعم يجب إلغاء مركزية إسرائيل في نظرتنا إلى أحوالنا، كي نتحرر منها، ومن الأنظمة التي تحرسها، لأنه من دون ذلك سنبقى في ذات المربع، اي مربع التلاعب والمواربة وعدّة النصب، المسؤولة عن تردي أحوالنا. مع التأكيد ان اسرائيل هذه ستبقى عدوة، من اعتبارها دولة استعمارية وعنصرية ودينية في المنطقة، وهي باعتبارها كذلك ليس ليس لها مستقبل، فإذا كانت معظم دول اوروبا لم تستطع اقامة دولة لها في المنطقة (إبان ما يسمى الغزوات الصليبية) فهل ستنجح إسرائيل؟

ماجد كيالي

صحيفة الحياة اللندنية