إعادة تقييم: لماذا سعت تركيا إلى تحسين علاقاتها مع روسيا وإسرائيل؟

إعادة تقييم: لماذا سعت تركيا إلى تحسين علاقاتها مع روسيا وإسرائيل؟

4805

يشير حرص تركيا على تطبيع العلاقات مع إسرائيل الذي أنهى التوتر الذي تصاعد منذ عام 2010، بالتوازي مع تحسين العلاقات مع روسيا، إلى أنها تسعى إلى إجراء تغيير تدريجي في سياستها الخارجية، وهو ما يعود إلى اعتبارات عديدة بعضها يرتبط بالتطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة الداخلية التركية، وبعضها الآخر يتعلق بالتداعيات التي فرضتها تلك السياسة على مصالح تركيا التي تواجه تحديات عديدة خلال الفترة الحالية في ظل تصاعد العمليات الإرهابية في بعض المدن الرئيسية واستمرار الأزمة السورية دون تسوية.

أسباب متعددة

ربما يمكن تفسير اتجاه تركيا نحو تسوية المشكلات العالقة مع كل من روسيا وإسرائيل في وقت واحد في ضوء اعتبارات عديدة: يتمثل الأول، في سعى أنقرة إلى العودة من جديد لتبني سياسة احتواء المشكلات مع بعض القوى المعنية بأزمات الشرق الأوسط، بعد أن تصاعدت تلك المشكلات بدرجة غير مسبوقة، سواء مع روسيا بسبب أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر 2015، أو مع إسرائيل بسبب أزمة الهجوم الإسرائيلي على “أسطول الحرية” في عام 2010، أو مع الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الخلاف حول التعامل مع تطورات الأزمة في سوريا، لاسيما فيما يتعلق بالموقف من دور الميليشيات الكردية في الحرب ضد تنظيم “داعش” ومن إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا، أو مع إيران التي تتباين مصالحها وسياستها مع تركيا بشكل كامل في سوريا.

وقد انعكس هذا التوجه الجديد الذي تتبناه أنقرة في تصريحات رئيس الوزراء بن علي يلدرم التي قال فيها أن “تركيا تسعى إلى تقليص الأعداء وزيادة الأصدقاء”. هذا التصريح تحديدًا يشير إلى حرص يلدرم على انتهاج سياسة جديدة تختلف عن تلك التي اتبعها رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، الذي قدم استقالته من منصبه بعد اتساع نطاق خلافاته مع الرئيس رجب طيب أردوغان، والتي تقوم على ما يسمى بـ”تصفير المشكلات” مع دول الجوار، والتي بدا أنها واجهت عقبات عديدة بسبب تحول أنماط علاقات تركيا مع معظم تلك الدول من التعاون إلى الصراع والخلاف في الأعوام الأخيرة.

ويتعلق الثاني، بتقليص حجم الضغوط التي تتعرض لها تركيا بسبب سياستها الخارجية، لا سيما تجاه الأزمة السورية، حيث بدا جليًا أن الأكراد حاولوا استثمار التوتر التركي –الروسي من أجل الحصول على مكاسب سياسية من أنقرة، وقد كان إسقاط مقاتلي حزب العمال الكردستاني لمروحية تركية بصاروخ روسي الصنع في مايو 2016، فضلا عن التقارب الملحوظ بين روسيا والأكراد، والذي انعكس في الزيارات التي قام بها بعض المسئولين الأكراد إلى موسكو، إشارة إلى التداعيات السلبية التي يمكن أن ينتجها استمرار التوتر في العلاقات بين أنقرة وموسكو.

وبعبارة أخرى، فإن أنقرة سعت من خلال تقليص حدة التوتر في العلاقات مع موسكو، لدرجة دفعتها لتقديم تنازلات على غرار اعتذار أردوغان عن إسقاط المقاتلة الروسية في رسالته إلى الرئيس فيلاديمير بوتين حسب تصريحات الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، إلى فرض مزيد من الضغوط على الأكراد، في ظل الصراع المتصاعد بين الطرفين، سواء بسبب اتهام تركيا للأكراد بممارسة أنشطة إرهابية، أو بسبب مخاوفها من احتمالات تعزيز دورهم في سوريا في ظل الدعم الدولي الذي تحظى به بعض الميليشيات الكردية بسبب دورها في الحرب ضد تنظيم “داعش”، والذي مثل بدوره محورًا للخلاف مع بعض القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترى أن الدور الذي تقوم به الميليشيات الكردية حيوي في إلحاق أكبر قدر من الخسائر في صفوف التنظيم.

وقد كانت تلك المخاوف سببًا في الجهود الحثيثة التي بذلتها أنقرة من أجل منع الأكراد من المشاركة في المفاوضات التي تجري بين النظام السوري ووفد المعارضة في جنيف للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، والتي توقفت في الفترة الحالية بسبب استمرار الملفات الخلافية العالقة بين الأطراف المعنية بالأزمة.

فيما يرتبط الثالث، بسعى تركيا إلى رفع مستوى التنسيق السياسي والأمني مع كل من روسيا وإسرائيل في التعامل مع تطورات الأزمة السورية، خاصة في ظل الأهمية التي تبديها موسكو وتل أبيب لتلك الأزمة، حيث تحولت الأولى إلى طرف رئيسي في الصراع بعد رفع مستوى انخراطها العسكري والسياسي في الأزمة، فيما تتابع الثانية بدقة تطورات المواجهات المسلحة بين النظام السوري وحلفائه، لا سيما حزب الله اللبناني، وقوى المعارضة المسلحة إلى جانب نشاط التنظيمات الإرهابية، خاصة تنظيم “داعش”.

وهنا، فإن أنقرة، ربما تعتبر أن تحسين العلاقات مع كل من موسكو وتل أبيب يمكن أن يساعدها في استعادة دورها في الأزمة السورية، الذي تراجع في الفترة الماضية، بسبب اتساع نطاق الخلاف مع واشنطن حول الموقف من الدور الكردي في الحرب ضد “داعش” وإقامة منطقة آمنة في شمال سوريا، فضلا عن اتجاه واشنطن إلى التفاهم مع موسكو حول الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة بشكل ربما ينتج تداعيات لا تتوافق بدرجة ما مع مصالح أنقرة.

فضلا عن ذلك، فإن رفع مستوى التنسيق السياسي والعسكري من خلال تحسين العلاقات مع موسكو وتل أبيب يمكن أن يساعد أنقرة في التعامل مع التهديدات التي تتعرض لها بسبب تصاعد حدة العمليات الإرهابية التي تقع داخل المدن التركية الرئيسية مثل اسطنبول وأنقرة.

كما أن المصالح الاقتصادية كان لها دور في اتجاه تركيا إلى تحسين العلاقات مع روسيا وإسرائيل، حيث بدا واضحًا أن التوتر في العلاقات مع موسكو فرض خسائر عديدة للاقتصاد التركي بسبب تراجع السياحة الروسية وتقييد استيراد المواد الغذائية من تركيا، في الوقت الذي عاني فيه الاقتصاد من مشكلات عديدة، لا سيما في ظل تكرار وقوع عمليات إرهابية في الفترة الأخيرة.

كما أن أنقرة تسعى إلى البحث عن مصادر جديدة لاستيراد الغاز الطبيعي، فرغم تحسن علاقاتها مع موسكو، إلا أن ذلك لا ينفي أنها سوف تستثمر التطبيع مع إسرائيل من أجل توقيع صفقات لاستيراد الغاز الإسرائيلي في الفترة المقبلة، خاصة في ظل إدراكها أن روسيا دائمًا ما تحاول استثمار صادراتها من الغاز لممارسة ضغوط على الأطراف التي تتباين مصالحها معها في بعض الملفات، وهى كلها مؤشرات توحي بأن أنقرة تسعى إلى تغيير أنماط علاقاتها مع بعض القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزمات الشرق الأوسط، وتوسيع هامش الخيارات المتاح أمامها للتعامل مع تداعيات تلك الأزمات.

المركز الإقليمي للدراسات