صعود الديمقراطية الشعبية في أوروبا

صعود الديمقراطية الشعبية في أوروبا

580

حتى الآن، لا تزال عملية استيعاب صدمة التصويت البريطاني لصالح الخروج منالاتحاد الأوروبي جارية، ومع ذلك، يتعين على القادة الأوروبيين أن يستجمعوا شجاعتهم لاستقبال ما هو آت. والواقع أن الخروج البريطاني ربما يكون الهزة الأولية التي ستتسبب في إحداث تسونامي الاستفتاءات في أوروبا في السنوات المقبلة.

في مختلف أنحاء أوروبا، هناك 47 حزبا متمردا تقلب السياسة رأسا على عقب.. والآن تكتسب هذه الأحزاب السيطرة على الأجندة السياسية، فتصوغها وفقا لمصالحها، وتفوز بالسلطة في هذه العملية. ففي ثلث بلدان الاتحاد الأوروبي، أصبحت مثل هذه الأحزاب أعضاء في حكومات ائتلافية، وتسبب نجاحها في دفع أحزاب التيار الرئيسي إلى تبني بعض مواقفها.

ورغم أن هذه الأحزاب تنتمي إلى جذور مختلفة تماما، فإنها تشترك في أمر واحد، فجميعها تحاول قلب الإجماع على السياسة الخارجية الذي حدد هيئة أوروبا لعقود من الزمن. فهي متشككة في أوروبا، وترفض حلف شمال الأطلسي بازدراء، وتريد إغلاق الحدود ووقف التجارة الحرة. وهي تسعى إلى تغيير وجه السياسة، والاستعاضة عن المعارك التقليدية بين اليسار واليمين بمناوشات تؤلب اتجاهاتها الوطنية المحضة المعادية للمهاجرين على عالمية النخب التي تزدريها.

ويُعد الاستفتاء السلاح المفضل في يد هذه الأحزاب، فمن خلاله تتمكن من كسب التأييد الشعبي لقضاياها. ووفقا للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، هناك 32 استفتاء تطالب أحزاب مختلفة بعقدها في 18 دولة في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي. وتريد بعض هذه الأحزاب، مثل حزب الشعب الدنماركي، أن تحذو حذو المملكة المتحدة وإجراء التصويت على عضوية الاتحاد الأوروبي. وتريد أخرى الفرار من منطقة اليورو، أو منع اتفاقية شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة، أو تقييد حرية تنقل العمالة.

وقد أثبت نظام إعادة توطين اللاجئين في الاتحاد الأوروبي كونه مثيرا للانقسامات بشكل خاص؛ فقد أعلن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أنه يعتزم عقد استفتاء على الحصص المقترحة. وكان الحزب البولندي المعارض Kukiz ’15 يجمع التوقيعات لعقد استفتاء خاص به على هذه القضية.

ربما تكون إعادة تسليم السلطة إلى جماهير الناس من خلال الديمقراطية المباشرة الاقتراح الأكثر ثورية الذي تقدمه هذه الأحزاب. والواقع أن هذا الاقتراح يعكس فهما لمشاعر الإحباط التي دفعت موجة عالمية من الاحتجاجات الشعبية في السنوات الأخيرة ــ وهي الاحتجاجات التي أشعلت في العالم العربي شرارة ثورات فعلية. والآن تعمل نفس روح الاحتجاج التي دفعت الأسبان واليونانيين وأهلنيويورك على سبيل المثال إلى النزول إلى الشوارع ـ بمطالب مختلفة بكل تأكيد- على تغذية الدعم لهذه الاستفتاءات الجديدة والأحزاب المتمردة التي تطالب بها.

وهو كابوس، ليس في نظر الأحزاب الراسخة فحسب، بل وأيضا الحكم الديمقراطي ذاته، فكما أظهرت تجربة كاليفورنيا مع الاستفتاءات، يصوت عامة الناس غالبا لصالح أشياء متناقضة، على سبيل المثال، خفض الضرائب وزيادة برامج الرعاية الاجتماعية، أو حماية البيئة وتوفير الغاز بأثمان أرخص.

ولكن في الاتحاد الأوروبي، كانت هذه الديناميكية أكثر تحديا بأشواط، بل إنها تقلب أساسات الاتحاد الأوروبي رأسا على عقب. فالاتحاد الأوروبي يُعَد في نهاية المطاف التعبير المطلق عن الديمقراطية التمثيلية. فهو يمثل هيئة مستنيرة تضع في صميم بنيتها القيم الليبرالية مثل الحقوق الفردية، وحماية الأقليات، والاقتصاد القائم على السوق.

بيد أن طبقات التمثيل التي يعتمد عليها الاتحاد الأوروبي خلقت شعورا بأن نوعا ما من “النخبة الفوقية” يدير الأمور، بعيدا كل البعد عن المواطنين العاديين. وقد أعطى هذا الأحزاب القومية الهدف المثالي لحملتهم المناهضة للاتحاد الأوروبي. أضف إلى هذا تأجيج المخاوف بشأن قضايا مثل الهجرة والتجارة، فتصبح قدرة هذه الأحزاب على اجتذاب الناخبين المحبطين القلقين قوية.

والآن هناك رؤيتان متضادتان لأوروبا: الدبلوماسية والديمقراطية الشعبية (الديموطيقية). فكانت أوروبا الدبلوماسية، التي جسدها الأب المؤسس للاتحاد الأوروبي جان مونيه، حريصة على إبعاد المسائل الكبيرة الحساسة عن مجال السياسة الشعبية وخفضها إلى قضايا فنية يمكن إدارتها من خلال تسويات بيروقراطية خلف الأبواب المغلقة.

ما أوروبا “الديموطيقية”، التي يجسدها حزب استقلال المملكة المتحدة، الذي ساعد في قيادة حملة الخروج البريطانية، فهي صورة معاكسة لمونيه، تأخذ التسويات الدبلوماسية مثل شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي أو اتفاقية الشراكة مع أوكرانيا فتعمل على تسييسها عمدا.

في حين تدور أوروبا الدبلوماسية حول إيجاد المصالحة، فإن أوروبا الديموطيقية تدور حول الاستقطاب. والدبلوماسية مكسب للجميع، أما الديمقراطية الشعبية فمحصلتها صِفر. والدبلوماسية تحاول خفض درجة الحرارة؛ أما النموذج الديموطيقي فيسعى إلى زيادتها. ومن الممكن أن يعمل الدبلوماسيون معا؛ في حين تتسم الاستفتاءات بأنها ثنائية وثابتة، ولا تترك مساحة كبيرة للمناورة السياسية والتسوية الخلّاقة اللازمة لحل المشاكل السياسية. وفي أوروبا الديموطيقية يصبح التضامن مستحيلا.

بدأ تحول أوروبا بعيدا عن الدبلوماسية قبل أكثر من عشر سنوات، عندما جرى رفض المعاهدة المؤسِّسة لدستور أوروبا في استفتاءين شعبيين في فرنسا وهولندا. وربما كانت هذه النتيجة ستضع الاتحاد الأوروبي خارج صناعة إبرام المعاهدات تماما، وبالتالي إحباط آمال التكامل في المستقبل.
ولكن في أعقاب الخروج الأوروبي، لم يعد التكامل في المستقبل أكبر مصادر القلق في أوروبا. بل بات

لزاما عليها أن تتعامل مع القوى المتزايدة البأس التي تقوض التكامل الذي تحقق، في محاولة لدفع أوروبا إلى الوراء. وبطبيعة الحال، لا يحتاج المرء إلا أن يتذكر ماذا كان هناك قبل الاتحاد الأوروبي لكي يدرك مدى خطورة هذا المسار.

في هذا العصر الجديد من “الفيتوقراطية” في أوروبا، لن تتمكن الدبلوماسية التي قام عليها إنشاء المشروع الأوروبي المستنير المتطلع إلى المستقبل من العمل، لكي يتحول الاتحاد الأوروبي إلى كيان غير قابل للحكم. والآن وقد نجح المتشككون في أوروبا في تحقيق غاياتهم في المملكة المتحدة، فسوف تصبح الفيتوقراطية أقوى من أي وقت مضى. وسوف يصبح التصويت المباشر على قضايا مثل قواعد التجارة أو سياسة الهجرة سببا في إفراغ الديمقراطية التمثيلية في أوروبا من مضمونها، تماما كما يهدد التصويت المباشر على العضوية بإفراغ الاتحاد الأوروبي ذاته.

في رواية شعبية للأديب خوسيه ساراماجو الحائز على جائزة نوبل، تنفصل شبه الجزيرة الأيبيرية عن البر الرئيسي لأوروبا وتنجرف بعيدا. ومع هجوم تسونامي الاستفتاءات الشعبية على القارة، فربما يتحول هذا التصور الخيالي إلى حقيقة واقعة.

مارك ليونارد

الجزيرة نت