فوضى الحروب في الشرق الأوسط عصارة ربع قرن من الفشل الأميركي

فوضى الحروب في الشرق الأوسط عصارة ربع قرن من الفشل الأميركي

_84681_ii3

قال بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة في تقرير سري حصلت عليه بعض المصادر الإعلامية الخميس، إن اختبارات الصواريخ الباليستية الإيرانية “لا تنسجم مع الروح البناءة” للاتفاق النووي الذي أبرمته طهران مع القوى العالمية الكبرى، “لكن مجلس الأمن التابع للمنظمة الدولية هو من سيقرر ما إذا كانت هذه الاختبارات خرقت قرارا للمجلس”.

التصريح في مضمونه يعبر عن أزمة أبعد بكثير مما يبدو أنه استفزاز إيراني أصبح معتادا في الشرق الأوسط، فهو تصريح من أعلى الهرم الأممي يقر بشكل ضمني فشل سياسة الولايات المتحدة في التعاطي مع الأزمات الدولية وانهيار فكرة أنها يمكن أن تكون شرطي العالم بشكل فعلي.

إذ لا تزال إيران، بالرغم من الاتفاق النووي الذي أبرمته مع القوى الكبرى، تحاول القيام بإطلالات خاطفة من حين إلى آخر عبر تجربة صاروخية أو حركة استفزازية إما بشكل مباشر من خلال تصريحات مسؤوليها وإما بشكل غير مباشر عبر تحريك جماعاتها في اليمن أو لبنان أو العراق أو سوريا.

الأمر لا يتوقف على إيران فقط، فسلوكها العدائي الذي لا يتوقف ليس سوى نتيجة لسياسات العرب في ترك المقعد شاغرا في منطقتهم، أي الشرق الأوسط، ونتيجة أيضا لسياسات أميركية فاشلة اتسمت بضبط أحادي للإيقاع العالمي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة. وهذا ما قدمه الباحث والكاتب الأميركي مايكل مندلبوم في كتابه الأخير “فشل المهمة: أميركا والعالم في فترة ما بعد الحرب الباردة”.

فقد بدأت الولايات المتحدة الأميركية في بداية التسعينات من القرن الماضي في مباشرة عمليات اختراق المنظومات الحكومية والشعبية والثقافية في العالم، عبر أدوات متعددة ومتنوعة منها الدبلوماسي والثقافي والعسكري والضغط الاقتصادي وغيرها من سياسات الأروقة التي تمارسها بشكل مستمر وبشكل مواز لحضورها القوي داخل المنتظم الأممي، حتى أن استصدار قرارات الحرب من مجلس الأمن الدولي أصبح أمرا معتادا، حيث يبدأ بأحداث متفرقة في الدولة المعنية تليها حملات إعلامية مكثفة وتحالفات ثنائية وجماعية في مستوى الدول بطريقة يكون معها استصدار أي قرار في الأمم المتحدة للقيام بتدخل سهلا ومضمونا، وهو ما قامت به في العراق مثلا.

الهجوم الانتحاري الأخير في منطقة الكرادة ببغداد والذي تبناه تنظيم الدولة الإسلامية، بالرغم من بشاعته وعمق تأثيره في الرأي العام العراقي والعربي والعالمي بما عكسه من برقيات تضامن وبيانات تنديد، إلا أنه هجوم “طبيعي” في سياق أن الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 لم يخلف سوى الفوضى والتناحر والاقتتال الطائفي وخاصة كارثة تسليم العراق لعدوه التاريخي إيران في طبق من ذهب. ولا يمكن لعاقلين أن يناقشا مسلمة أن هذا الوضع الكارثي الذي وصل إليه العراق الآن دليل على فشل أخلاقي وسياسي وأمني وعسكري أميركي.

آلية أميركا في التمركز العسكري العالمي بالجنود والصواريخ في نقاط التماس مع الروس تزيد من تعقيد الوضع

العراق مقعد شاغر

يؤكد الكاتب مايكل مندلبوم أن الولايات المتحدة لم تعتمد سياستها المعهودة التي تتوخاها لتغيير الدول من الداخل مع العراق. فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي لم يعد أمام أميركا عدو يمكن أن يتصدى لتوسعها الليبرالي الغربي في إطار المنافسة الأيديولوجية الباردة ، فكان أن تمكنت من غزو منطقة أوروبا الشرقية وتوحدت الألمانيتان بسقوط جدار برلين الذي كان سقوطا رمزيا بامتياز، ولعبت أدوارا ركز عليها الإعلام في كل من كوسوفو والبوسنة والبلقان عموما، لكن طريقتها في تغيير العراق كانت أعنف وأكثر عنجهية وتوحشا خاصة وأن التقرير الأخير لجون تشيلكوت المستشار الملكي الذي يرأس لجنة تحقيق بريطانية رسمية في الحرب على العراق يؤكد أن “المعلومات الاستخباراتية التي ارتكزت عليها بريطانيا كانت مزورة ومغلوطة”.

فشل الولايات المتحدة الأميركية إذن في تغيير العراق

وفق منطق وراثة مناطق نفوذ أو حلفاء الاتحاد السوفييتي السابق، أدى إلى اتخاذ مواقف وإجراءات كارثية في حق الشعب العراقي والمنطقة برمتها، كما أدى إلى فتح الطريق لقوى إقليمية أخرى لتنال نصيبها أيضا وتقضم من العراق موطئ قدم يمول تدخلات أخرى في اليمن ولبنان وسوريا وغيرها، وكذلك الأتراك الذين أصبح الملف العراقي أمامهم عبارة عن ورقة ضغط على الأكراد والسنة والتركمان.

يتركز الفشل بالأساس في أن أميركا استعملت خيار التصعيد العسكري في العراق دون أن تكون لها أي بدائل سياسية في المستقبل، فقد كان هاجس الأميركيين إسقاط نظام صدام حسين بأي ثمن ليتسنى لها الولوج إلى كامل المنطقة بشكل مريح ولتضمن أمن إسرائيل لأمد مستديم. لكن في ما يخص الداخل العراقي لم تكن عملية انتقال السلطة مطروحة بشكل جدي على طاولة التفكير الأميركية، الأمر الذي أدى إلى وضع دستور طائفي لا يرتقي إلى مرتبة المدنية والحضارة لتنظيم العلاقات بين المواطنين في دولة روجت أميركا وحلفاؤها أنها ستكون “ديمقراطية” بعد الحرب. وفي السياق ذاته يقول غدعون روز في كتابه “كيف توضع نهاية للحروب؟” إن “العمل العسكري لا يحقق الكثير من الإنجازات من دون وجود ترتيب سياسي مستدام، ولا شك أن هذا القول المأثور يبقى صحيحاً في الشرق الأوسط”. ويعتبر كلام روز في صميم ما فعلته أميركا وحلفاؤها في العراق، إذ لم تكن لدى إدارة جورج بوش الابن آنذاك معالم واضحة لنظام ما بعد البعث.

اقتسام سوريا

تؤكد العديد من التقارير أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط شهدت تغيرا طفيفا في سياق أن تتوخى الإدارات المتعاقبة المزيد من الحذر في التعامل مع الحروب التي اندلعت في المنطقة سواء بعد غزو العراق (خاصة في لبنان) أو بعد ما يسمى الربيع العربي وخاصة في سوريا واليمن. وقد أدت سياسة الحذر هذه -والتي تعني أقل الخسائر الميدانية- إلى تدخل اللاعب الروسي بشكل مباشر مستغلا عدم وجود قوات برية أميركية مباشرة في سوريا مثلما حدث في العراق.

ختفاء المارينز الأميركي في المعركة السورية أدى بتلك الطريقة إلى اقتسام النفوذ مع الروس وبالتالي فإن أي حل قد ينهي الاقتتال ويؤدي إلى حكومة انتقالية وتغير في النظام يبقى مرتبطا بمدى التفاهمات الروسية الأميركية في المفاوضات بين النظام الذي يدافع عنه الروس والمعارضة التي تحظى بدعم أميركي بشكل أو بآخر.

ولعل الدليل على أن المسألة السورية لن تحل باستراتيجية التفاهم مع الروس أن جوش إرنست المتحدث باسم البيت الأبيض قال للصحافيين أول أمس الخميس إن الرئيس باراك أوباما ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لم يتوصلا إلى أي اتفاق تعاون جديد بشأن سوريا خلال مكالمة هاتفية تمت بين الطرفين يوم الأربعاء. ولا يعتقد المراقبون أن التوصل إلى اتفاق بين الروس والأميركيين في سوريا سيكون قريبا باعتبار الصراع المندلع بين الطرفين في مناطق أخرى من العالم أهمها أوروبا الشرقية ودول البلطيق.

السياسة الأميركية بهذه الكيفية تعد ضمن السياسات الفاشلة أيضا مثلما سماها الكاتب مايكل مندلبوم، إذ يقول في كتابه (فشل المهمة) “لا يمكن للولايات المتحدة أن تضع سوريا في طريق نحو النموذج الدنماركي مثلا، فسياستها أضعف من ذلك بكثير”.

الحرب الباردة

ما يلاحظ في الإدارة الأميركية، في ما يتعلق بإدارة الخلافات بين الروس والغرب، هو أن الولايات المتحدة تركز على الاستفزاز المباشر عبر تحبيذ نشر قوات عسكرية على طول الخط الفاصل بين روسيا المركزية أو التقليدية -وهي الاتحاد المكون من روسيا وبيلاروسيا- وبين جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا والتي انخرطت في المنظومة الغربية فور إعلان غورباتشوف انهيار الاتحاد.

هذا النوع من السياسات لا يعني أن آلية توزيع النفوذ في العالم تقوم على احترام سيادات الدول ومصالح الأطراف وإدارتها بطريقة تستبطن إرادة السلم الدولية، بل إن الانتشار العسكري ونشر الدروع الصاروخية في نقاط التماس الحساسة بين الجانب الروسي والجانب الغربي الذي تسيطر عليه أميركا في صيغة حلف الناتو هو الآلية الرئيسية للتعامل الدولي، وهذا ما يدفع إلى المزيد من التوتر وإعادة الحديث عن حرب باردة بين الطرفين مرة أخرى.

وقد أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أمس الجمعة عن نشر ألف جندي أميركي في بولندا في إطار تعزيز المنطقة الشرقية للحلف في مواجهة روسيا. وقال أوباما بعد لقاء مع الرئيس البولندي اندري دودا قبيل افتتاح قمة الحلف إن “الولايات المتحدة ستنشر كتيبة أي نحو ألف جندي هنا في بولندا إلى جانب جنود بولنديين”. وهذا المستجد مرتبط أيضا بنشر كندا لعدد من جنودها في الحدود الشرقية لأوروبا ضمن قوات حلف شمال الأطلسي. وقد رد الروس على هذه المستجدات بالقول إن هذه التحركات “سخيفة وليس لها أي معنى في الحين الذي يموت فيه الآلاف في مناطق ساخنة من العالم” وذلك على لسان ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين.

صحيفة العرب اللندنية