هيمنة التداول الإلكتروني تقطع طريق الثراء على أنصاف المتعلمين

هيمنة التداول الإلكتروني تقطع طريق الثراء على أنصاف المتعلمين

images

سيندي ريفكين كانت جليسة أطفال في سن 19 عاما عندما دعاها صاحب عملها، متداول للسلع، إلى بورصة النفط في مانهاتن. في ضجة مكان التداول، أحد الوسطاء قدم لها بطاقة كتب عليها الشروط الغامضة لإحدى صفقات العقود الآجلة.

تتذكر ريفكين تلك اللحظة، “قال، هل تستطيعين قراءة هذا؟ قلت هذا غير مفهوم.لا. فقال لي، لقد تم تعيينك”.

تركَتْ وظيفة مجالسة الأطفال من أجل العمل كاتبة في بورصة نيويورك التجارية “نايمكس”، في وقت كانت فيه بورصة النفط المهيمنة على العالم. بعد أيام، غزا العراق، في عهد صدام حسين، الكويت وارتفعت أسعار النفط الخام بنسبة 90 في المائة. تعلمت استخدام إشارات اليد لنقل أوامر الهاتف للمتداولين الذين يصرخون في نقاط بورصة نايمكس. وما أن أصبحت في العشرينات من العمر، ريفكين التي لم تكمل دراستها الثانوية كانت تكسب أجرا مكونا من ستة أرقام.

تقول، “لقد كان مكانا رائعا للعمل بقدر ما كان مجنونا. ليس مهما ما العمل الذي قمت به هناك فقد كنتَ جزءا من قبيلة”.

المكان حيث وجدت ريفكين الثروة من المقرر أن يتلاشى بحلول نهاية هذا العام. مالكة بورصة نايمكس، مجموعة سي إم إي في شيكاغو، تقول إنها ستغلق قاعة تداول السلع التابعة لها في نيويورك، التي تعد الأخيرة من نوعها في مدينة كانت فيما مضى مليئة بهذا النوع من قاعات التداول، مشيرة إلى أن جميع تداولاتها في الطاقة والمعادن إلى أجهزة الكمبيوتر، باستثناء 3 في المائة فقط. بورصة نايمكس ستكون موجودة ككيان قانوني وعلامة تجارية، لكن العمل سيكون في مركز بيانات آمن بالقرب من مسار دراجات في أورورا في إلينوي.

اختفاؤها في العالم الافتراضي يشهد على الاضطراب التكنولوجي الذي يعيد تشكيل الأسواق ويهدد قطاعات واسعة من القوى العاملة، من سائقي سيارات الأجرة إلى المصرفيين. في مدينة نيويورك انخفض عدد الوظائف في قطاع الأوراق المالية وعقود السلع إلى 98700 وظيفة في أيار (مايو). وبحسب بيانات وزارة العمل يعد هذا أدنى مستوى يسجله الشهر منذ عام 1990 على الأقل. ويمثل التداول على الأنظمة الآلية الآن أكثر من نصف حجم العقود الآجلة في مجال النفط الخام في الولايات المتحدة، وذلك وفقا لدراسة للجنة تداول العقود الآجلة للسلع.

وعلى نحو متزايد، أصبحت الأسواق تدار دون حاجة إلى حيز مكاني، ويتم تنظيمها من قِبل القوانين الوطنية، لكنها مفتوحة في أي توقيت زمني. الآن ربع إجمالي حجم التداولات في مجموعة سي إم إي ينشأ خارج الولايات المتحدة. والأموال التي كانت تتدفق في الماضي عبر قاعة بورصة نايمكس تنتشر الآن عبر منطقة أوسع بكثير، لتثري بعضهم وتقطع سبل الثراء على آخرين. وتم بيع مقعد نايمكس العام الماضي مقابل 180 ألف دولار، هبوطا من ارتفاع بلغ 350 ألف دولار في عام 2012.

في السابق كانت قاعة تداول السلع تشكل مسارا إلى وول ستريت بالنسبة لسكان نيويورك الذين يفتقرون إلى خبرة عريقة، أو علاقات، أو تعليم ليكونوا من متدولي السندات، أو من المصرفيين. تقول جين روزجوني، كبيرة الإداريين للمخاطر في شركة توزيع الغاز الطبيعي، آيه جي إل ريسورسز، التي بدأت العمل في موقع البورصة في سن المراهقة، “حاملو درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة هارفارد كانوا يقفون جنبا إلى جنب مع بائعي الهوت دوج والكعك المملح في الشارع”. في أوائل العقد الأول من الألفية، يذكر بو كولينز، الرئيس السابق لبورصة نايمكس، أن مبنى البورصة بجانب نهر هدسون كان يضم ستة آلاف شخص يعملون في وظائف مرتبطة بالبورصة.

يقول تيرينس مارتل، أستاذ العلوم المالية في كلية باروخ والمدير في البورصة الدولية، التي هي بورصة الطاقة الإلكترونية فيها هي المنافس الرئيس لبورصة نايمكس، إن تلك الفرص قد ولّت. انتهاء موقع بورصة نايمكس اضطر بعض المتداولين إلى العودة إلى الطبقات المتوسطة، أو العاملة، أو حتى الفقر. يقول جاك كابيلو، الحلاّق في الطابق الأرضي من مبنى بورصة نايمكس، “كانوا يجنون مبالغ تصل إلى عشرة آلاف دولار يوميا. بعد أن أصبح التداول إلكترونيا، أصبحوا يأتون إلي لاقتراض المال. أنا لم أكن بنكا. وكان علي رفض طلبهم”.

كارثة البطاطا

على مدى جزء كبير من تاريخها، كانت بورصة نايمكس موجودة في زاوية غير لامعة من العالم المالي في نيويورك. البورصة التي تم تأسيسها عام 1872 تحت اسم “بورصة الزبدة والجبن”، كانت واحدة من عدد من أماكن تداول السلع في مانهاتن، بما في ذلك “بورصة القهوة والسكر”، و”بورصة الجلود والخضراوات والفواكه”. وذكر خبر ورد في إحدى الصحف في عام 1893 كيف اجتمع قادة البورصة “لمناقشة مسألة المنتجات المصنوعة من المرجرين والزبدة الاصطناعية التي كانت تباع في هذه المدينة بكميات كبيرة تحت ستار الزبدة”.

حتى أواخر السبعينيات كان الكتبة يتولون تحديث أسعار العقود الآجلة على السبورات وبتسجيلها على أفلام بولارويد، بحسب ما يقول جان ماركس، وهو متداول ووسيط سابق. وتعرضت البورصة إلى هزة بفعل فضيحة في عام 1976 بعد أن فشل بائعو العقود الآجلة في تسليم ما يقارب 50 مليون رطل من بطاطس ولاية ماين.

بعد كارثة البطاطا، أعاد مؤشر نايمكس إثبات نفسه بورصة للعقود الآجلة وخيارات الطاقة، مدرجا زيت التدفئة في عام 1978، والنفط الخام في عام 1983، والغاز الطبيعي عام 1990. وانتقل التداول من مبنى نايمكس المصنوع من الطوب، والواقع على شارع هاريسون، إلى مكان مشترك مع بورصات العقود الآجلة الأخرى داخل مركز التجارة العالمي، موقع الذروة المحمومة المتمثلة في فيلم عام 1983 “أماكن التداول”.

وصل تداول العقود الآجلة بالوسائل الإلكترونية في عام 1992، عندما أطلقت سوق البورصة في شيكاغو تكنولوجيا “جلوبكس” الخاصة بها. وتبعتها نايمكس بعد عام واحد من خلال “أكسس”، اختصار لنظام تبادل السلع المحوسبة الأمريكية والخدمات. لكن إمكانية الوصول إلى أكسس كانت تقتصر على الساعات التي تكون فيها قاعات التداول مغلقة، لحماية قيمة المقاعد الموجودة، بحسب ما يقول كولينز.

احتمال تغلب الأجهزة الإلكترونية على المنصة كان يبدو أمرا بعيد المنال في ذلك الوقت. في عام 1997، عندما تم قص الشريط في مبناها الحالي، شملت المباني ما سمته نايمكس “مرافق التداول الأحدث” – طابقين تزيد مساحة كل منهما على 2300 متر مربع. اعتبارا من أواخر عام 2005، بعد أن اشترت ICE وأغلقت بهدوء قاعة التداول في بورصة النفط الدولية في لندن، افتتحت نايمكس قاعة تداول جديدة في عاصمة المملكة المتحدة. وقالت من خلال إعلان وضع في “فاينانشيال تايمز”، “قريبا في لندن/ بطل التداول الصاخب المفتوح. وقاعتنا هذه ستكون مناسبة ومزودة بأحدث التكنولوجيا والبشر”. (لكنها فشلت في غضون أشهر).

كان المتداولون والوسطاء يتحركون بسرعة في القاعة ويندمجون فعلا ليصبحوا بمنزلة آلة لاكتشاف الأسعار.

يقول هنري جاريكي، عضو مجلس الإدارة الأسبق في بورصة تبادل السلع الأساسية، التي استحوذت عليها نايمكس، “الوضع كما لو أنه كمبيوتر واحد ضخم. يطرح الجميع في كل لحظة عروضهم وعطاءاتهم وكمياتهم”.

لكن هذا الكمبيوتر البشري كانت له حدود، لا سيما أنه يمنح الشاغلين نظرة أولية على التحولات في حركة السوق. يقول الدكتور جاريكي الذي يعمل أيضا طبيبا نفسانيا، “تكون في موقف حيث تكمن منفعتك في رؤية الأشياء التي لا يستطيع العالم الخارجي رؤيتها”.

هذا الوضع المميز يمكن أن يؤدي إلى نشوء أعمال تحايل. في عام 2008 اعترف الوسيط السابق الذي عمل رئيسا للجنة مراجعة الامتتثال لدى نايمكس، بأنه مذنب في قضية إدارة طلبات العملاء من الغاز الطبيعي بتخصيصه تداولات مربحة لنفسه.

يقول داني ماسترز، وهو مصرفي سابق ومدير صندوق تحوط عمل في قاعات التداول من عام 2001 إلى عام 2008، “إن قاعة بورصة نيويورك أشبه بتقاطع عبور بين جولدمان ساكس وسجن يشهد أقصى درجات الأمن”.

إن الحصول على مكان في القاعة لم يكن يتطلب تدريبا مكثفا. يقول ستيفن أرديزون إنه زار قريبا له في قاعة لتداول الذهب في عام 1981 بعد السنة الأولى له في الجامعة ولم يعد بعدها للدراسة قط. في عام 1986 طلب من والده، محقق في جرائم القتل، رهن منزله بحيث يمكنه شراء مقعد في البورصة. جنبا إلى جنب مع عمله في مجال الوساطة التجارية، كان آرديزون يمتلك مطعما – وكان يتعمد تقديم فرص عمل في نايمكس للنادلين والسقاة العاملين لديه في مطعمه.

الخوارزميات

تدرج بورصة نايمكس عقودا آجلة وعقود خيارات في مجال الطاقة والمعادن. وكلا النوعين يستخدم من قبل الشركات والمضاربين تحسبا لتحركات الأسعار أو للرهان عليها.

وتعد العقود الآجلة أكثر بساطة، كونها تلزِم أصحابها بشراء أو بيع السلعة بسعر متفق عليه بحلول شهر معين. وترتبط الخيارات بالتعقيد، لأنها تحدد ما ينبغي شراؤه وبيعه من تلك العقود الآجلة.

في البدء اندثرت قاعات تداول العقود الآجلة أولا. فبعد سنوات من المقاومة اعتمدت نايمكس نظام جلوبكس التابع لبورصة شيكاغو وسمحت لعقود المنتجات الإلكترونية الآجلة بالتداول في الوقت نفسه مع قاعات التداول في أيلول (سبتمبر) 2006.

كان التحول سريعا وحادا. ارتفعت التداولات الإلكترونية من 17 في المائة إلى 70 في المائة من أحجام نايمكس بحلول حزيران (يونيو) 2007. وارتفعت أيضا الأحجام الكلية، مع تضاعف مؤشر خام غرب تكساس المتوسط ما بين عامي 2005 و2007.

وشعر بعض المخضرمين بالحيرة في القاعة، ربما يعرف المتداول أي الوسطاء الذي يتولى تنفيذ أعمال تجارية مع مصرف كبير أو صندوق تحوط نشط ويمكنه ملاحظة الدلائل بأن هناك وسيطا موجودا في السوق. يقول آرديزون الذي يدير الآن مجموعة تداول إلكتروني، “على الشاشة، لا يمكنك معرفة من هو على الجانب الآخر – أو إذا كان هناك شخص أصلا”.

كان كريج واينشتاين يتداول في زيت التدفئة والنفط الخام في مزيج يعرف باسم هامش التكسير (وهو هامش ربح لمصفاة من خلال عمليات “تكسير” النفط الخام ليتحول إلى أنواع معينة من الوقود) عندما تولى الكمبيوتر المهمة. في أفضل السنوات التي قضاها، كان يحقق مكاسب تبلغ 900 ألف دولار وامتلك منزلا في إحدى ضواحي ولاية نيو جيرزي، وسيارة بورش، ودراجتين من طراز هارلي ديفيدسون.

يقول واينشتاين، “لم يقل أحد قط أن هذه السوق سوف ينتهي أمرها. فجأة تحول الوضع إلى خسائر متتالية. قد خسر ألفا أو ألفين أو ثلاثة آلاف. في الشهر الأول خسرت 30 ألف دولار وبدا الأمر على ما يرام. وقلت في نفسي إني أخسر المال، هذا لم يعد ينجح مثلما كان في السابق. بعدها توقفت”.

منذ مغادرته نايمكس، يتنقل واينشتاين بين فرص العمل بما في ذلك المضاربة على المنازل واقتناص الأحذية عبر موقع إي باي والتجارة في سيارات ليكزس. ووجد للتو فرصة عمل جديدة في بيع الأسمدة لملاعب الجولف في ولاية آريزونا. يقول واينشتاين، “ما أمتلكه الآن هو آخر 50 ألف دولار في جيبي”.

متداولو القاعات السابقون يسردون قصص الزملاء الذين يعملون في أعمال البناء الآن، ويبيعون القرطاسية، والتفتيش على مواقع البناء، إضافة إلى عدد قليل من الأشخاص الذين شقوا طريقهم بنجاح في العالم الإلكتروني. يقول ريموند كاربون، من شركة باراماونت للخيارات، الوسيط الذي أوقف العمليات في القاعة العام الماضي، “اعتاد صديق لي أن يقول، لو لم أكن أتداول في البنزين لكنت أعمل في محطة البنزين. حسنا، بعضهم كذلك”.

ويقول واينشتاين، “أحد الأشخاص انتحر. ما فعلته التكنولوجيا بالسوق أمر مثير للدهشة”. تشبثت الخيارات بالقاعة لفترة أطول، نظرا لهيكلها الصعب في بعض الأحيان. واعتبارا من عام 2012 توازنت أحجام خيارات النفط الخام الأمريكي تقريبا ما بين القاعة والشاشة، مع تداول كل منها بنحو عشرة ملايين عقد، إضافة إلى عشرة ملايين أخرى على شكل اتفاقات خاصة تم التوسط فيها من خلال الهاتف أو الرسائل الفورية.

وخلال الأشهر الستة الأولى من عام 2016، تم بيع 184 ألف عقد خيارات نفط من خام غرب تكساس المتوسط في القاعة، مقارنة بـ 16.5 مليون عبر الشاشة، في الوقت الذي تبذل فيه بورصة شيكاغو جهودا من أجل عولمة أعمال الخيارات لديها.

ولا يشعر مارك فوندرهايد بأي حنين لقاعة تحتضر. ويسميها “المدرسة المتوسطة مع المال”. من بين مجموعات التداول الهادفة إلى سد الفجوة التي خلفها صناع السوق السابقون الذين كانوا يتداولون عبر القاعات، هناك الشركة التي أسسها في عام 2008، “جنيف لأسواق الطاقة”.

مكتب شركة جنيف الواقع في الطابق 17 من بناية قبالة دوار كولومبس في وسط مانهاتن، كان يضم خمسة متداولين فقط في عصر أحد الأيام أخيرا، مع وجود عدد قليل آخر يظهر عبر الفيديو من مكتبين في شيكاغو ودبلن. الغرفة هادئة ما عدا صوت جهاز التكييف. يعطي الوسطاء أسعار هياكل النفط عبر الهواتف ويجري تنفيذ مجموعة من التداولات، غالبا ما تتم من خلال الخوارزميات.

درس موظفو فوندرهايد الفيزياء والاقتصاد والكيمياء والعلوم المالية في أرقى الجامعات الأمريكية. ويقول ليس هناك أي سبب لأن تكون شركة جنيف لأسواق الطاقة في نيويورك سوى أن زوجته تحب المدينة. “انظر كم عدد الأشخاص الذين احتجناهم لإدارة القاعة وتسيير المعاملات الورقية. هذا العمل يدور حول الإنتاجية في الوقت الراهن. أجهزة الكمبيوتر لا تطلب زيادة في الأجر. ولا تطلب مكافأة. ربما لم يكن بالإمكان قبل عشر سنوات إنجاز حجم العمل الذي ننجزه الآن”.

ويعد زوال قاعة التداول في نيويورك بمنزلة علامة مشؤومة المتداولين العالقين في قاعة بورصة شيكاغو، حيث تم إغلاق معظم قاعات تداول العقود الآجلة العام الماضي لكن عقود الخيارات ما زالت قائمة. في عرض تقديمي حديث خاص بالمستثمرين، المسؤولون التنفيذيون في بورصة شيكاغو طنطنوا بحقيقة أن 23 في المائة من أحجام عقود الخيارات في عقود اليورو والدولار، وهي مؤشر مرجعي مهم لأسعار الفائدة، تحولت إلى التداولات الإلكترونية.

عمل تيري دافي، رئيس مجلس الإدارة التنفيذي لبورصة شيكاغو، في قاعات التداول لأكثر من 20 عاما، لكنه يقول إنه “لا يمكنه أن يشعر بالتوتر والتأثر فوق الحد” بشأن انقراضها. ويلاحظ أن الشخص الطويل في قاعات التداول تكون له ميزة على الشخص القصير. ويضيف، “الكمبيوتر يجعلنا جميعا متساوين في الأهمية من كل الجوانب. فهو يضعنا جميعا في ملعب يعطي الفرص المتكافئة للجميع دون استثناء”.

جريجوري ماير من نيويورك

نقلا عن جريدة الاقتصادية

Save