تقرير تشيلكوت ومسألة دفع التعويضات للعراق

تقرير تشيلكوت ومسألة دفع التعويضات للعراق

حرب العراق ـ تقرير تشيلكوت ـ صدام حسين ـ بلير ـ بريطانيا

في السادس من تموز/ يوليو الحالي صدر تقرير لجنة تشيلكوت، ويطلق عليها أحيانًا تحقيق تشيلكوت، «بالإنجليزية: Chilcot inquiry»، أما الاسم الرسمي لها فهو تحقيق العراق، «بالإنجليزية: The Iraq Inquiry» وهي عبارة عن لجنة تحقيق بريطانية مستقلة منوطة بالتحقيق حول المشاركة البريطانية في الحرب على العراق 2003م.

وكان تم الإعلان في لندن، يوم الخامس عشر من يونيو لعام 2009، مِن قِبل رئيس الوزراء السابق غولدن براون عن إطلاق التحقيقات الخاصة بحرب العراق من خلال لجنة بريطانية تتألف من السير جون تشيلكوت والسير لورانس فريدمان، والسير مارتن غيلبرت، والسير رودريك لين، والبارونة أوشا بارشر. وتهدف هذه اللجنة من خلال عملية البحث إلى كشف النقاب عن أسرار اتخاذ القرار البريطاني بالمشاركة في احتلال العراق. و جاءت نتيجة ضغط مارسه ذوو الجنود البريطانيين الذين قتلوا خلال العمليات العسكرية التي قام بها التحالف الدولي في المدن العراقية.

للجنة بدأت جلساتها في نوفمبر/تشرين الثاني 2009 بمراجعة السياسة التي تبنتها بريطانيا بخصوص العراق، واستمعت لإفادة نحو 150 شاهدا من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين البريطانيين، كان بلير على رأسهم وكذلك خلفه براون. وبعد تأخر اللجنة في نشر تقريرها بالموعد المفترض عام 2012 طالب رئيس الوزراء البريطاني ديفد كاميرون عام 2014 لجنة تشيلكوت بنشر تقريرها قبل نهاية العام لعدم وجود مبرر لتأخير نشره.

التقرير الذي جاء ضمن 12 جزءاً، عبر أكثر من مليوني كلمة، وكلف عشرة ملايين جنيه إسترليني (نحو 13.5 مليون دولار) أحيل إلى الأمن الوطني لفحصه لتضمنه كما ضخما من المواد الحساسة وفق إفادة رئيس اللجنة. ضمَّ بين جنباته الكثير من التفاصيل العديدة التي اشتغل عليها فريق شيلكوت لما يقارب سبع سنوات، حيث تضمن التقرير الملابسات والظروف التي قادت لندن إلى قرار الحرب على العراق، والاتصالات التي جرت بين الإدارة الأميركية و البريطانية، وفنَّد المعطيات التي تم الارتكاز عليها وتقارير الاستخبارات في واشنطن ولندن. أسئلة كثيرة أجاب عنها التقرير من خلال التحقيق مع مسؤولين بريطانيين في تلك الفترة، كان أبرزهم رئيس الحكومة الأسبق بلير الذي استضافه تشيلكوت مرّتين، وهانز بليكس رئيس لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وغيرهما من الجنرالات والضباط وأعضاء الدبلوماسية البريطانية الذين تقاطعت إجاباتهم، بحسب التقرير، حول غياب المصداقية في تقارير المخابرات البريطانية، وعدم استخدام وسائل وسبل كانت متاحة من قبل الحكومة لمنع وقوع الحرب، مِن أبرز تلك الوسائل كان الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي حيث تم اتخاذ قرار الحرب بناء على قرار مجلس الأمن و تفويضه عام 1991 عقب غزو الكويت.

«تشيلكوت» في نقاط

1- العراق، ونظام صدام حسين، لم يكونا يشكلا أي تهديدٍ على بريطانيا ومصالحها، وقصة امتلاكه أسلحة دمار شامل غير صحيحة ومبنية على معلوماتٍ استخباراتية مغلوطة.

2- الخيارات الدبلوماسية مع بغداد كانت متاحة، لكن قرار الحرب جاء مستعجلًا، قاطعًا الطريق على أي جهد تفاوضي.

3- لم تكن بريطانيا أو الولايات المتحدة تمتلك رؤية حقيقة لعراق ما بعد صدام، ما فاقم من تكاليف الحرب.

4- يُشير التقرير إلى طبيعة علاقة توني بلير بالرئيس الأمريكي جورج بوش والتبعية المطلقة التي كان يمثلها بلير لبوش. وكمثال، فإنه في 28 يوليو/تموز 2002م، أكَّد توني بلير لبوش أنه سيكون معه «مهما كان».

5- فشلت حكومة توني بلير في تحقيق الأهداف التي كانت قد حددتها لنفسها في العراق، وقتل أثناء الصراع أكثر من 200 بريطاني. ناهيك عما تكبده الشعب العراقي من خسائر فادحة. فبحلول يوليو/تموز 2009م كان عدد العراقيين الذي قتلوا من جرَّاء الصراع قد وصل إلى 150 ألف عراقي على الأقل، وربما يزيد العدد على ذلك، فضلًا عن نزوح ما يزيد على مليون شخص.

6- ركَّز التقرير بشكل موسع جدًا حول ضعف التجهيزات الخاصة بالقوات البريطانية في العراق من نواحي متعددة، مؤكدًا أن القوات لم تكن بحالة من الجاهزية الكاملة عند اتخاذ قرار نشرها في العراق.  والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل يمكن بناء على تلك النقاط الزام المملكة المتحدة على دفع تعويضات جراء مشاركتها في حرب عدوانية ضد العراق؟

يستطيع المرء أن ينتقي ما يشاء من تقرير حجمه أكثر من مليون ونصف المليون كلمة، أصدرته لجنة التحقيق البريطانية التي يرأسها السير شيلكوت، واستغرق زهاء سبع سنوات. لكن لم يرد في التقرير الضخم إدانة تجريم واحدة ضد رئيس الوزراء حينها توني بلير. ولم يعتبر قراره بشن الحرب على العراق غير قانوني. ولم يطالب بمحاسبته ولا بالتحقيق معه. بل أكثر من ذلك، برأ بلير لأول مرة من التهمة الرئيسية بأنه كذب على البرلمان. ذكر التقرير أن رئيس الوزراء الأسبق بالفعل نقل ما ورده من الاستخبارات عن أسلحة صدام الكيماوية. وبلير نفسه لم يعتذر عن الحرب ولم يتراجع. اعتذر عن الأخطاء المتصلة بالحرب، مثل حلّ جيش وحكومة صدام. وبالمناسبة بلير كان ضد قرار واشنطن هذا، في وقتها. بكل أسف ما ينشر عربيًا مترجما ينمّ عن خليط من الدجل والجهل.

فالتقرير لم يُصدِر حكماً يدين فيه مسؤولين بريطانيين بانتهاك القانون الدولي، واكتفى بانتقاد الطريقة التي اشتغلت بها الحكومة لتبرير الحرب من خلال الاستناد إلى معلومات ضعيفة حول إمكانيات العراق العسكرية في ذلك الوقت، والتأكيد على أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لم يكن يشكل تهديداً مباشراً أو قريباً لبريطانيا.

فالتقرير ابتعد عن ذكر أية تفاصيل تتعلق بحجم الكارثة التي خلَّفها هذا القرار على البلد المجني عليه، فيما يذكر بشكل عرضي أن حجم الخسائر البشرية في صفوف العراقيين حتى عام 2009م تزيد عن 150 ألف قتيل، وهذا الرقم رغم أنه كبير جدًا إلا أنه لا يمثل الحقيقة، التي صدرت عن مجموعة مراكز عالمية تفيد بأن ما يزيد عن مليون عراقي لقوا حتفهم نتيجةً للغزو وتداعياته من حرب طائفية لم تضع رحاها. ولعل لزامًا علينا أن نعدد في هذا السياق ما خلفته الحرب على العراق والعراقيين؛ فمليون قتيل، و 5 ملايين يتيم، ومثلهم نازحون ومهجَّرون ولاجئون، إضافةً لمليون ونصف أرملة، ليست هذه كلها فاتورة غزو العراق، والتي تكفَّل العراقيون دون غيرهم بدفعها، على مدار 13 عامًا، ليس آخرها تفجير الكرادة وسط العاصمة العراقية بغداد، عشيَّة ليالي عيد الفطر، والذي خلَّف 400 بين قتيل وجريح.

فيما حل العراق في ذيل قائمة كوكب الأرض من ناحية الشفافية والأمن والتعليم والرعاية الصحية وتوفير الماء الصالح للشرب والكهرباء مع أنه صاحب ثالث أكبر احتياطي للنفط في العالم! بينما يعتبر كذلك جواز السفر العراقي ثالث أسوء جواز سفر بين دول العالم، لا يسبق سوى نظيره الأفغاني والباكستاني حسب مؤشرات «هينلي آند بارتنرس». ناهيك عما سجله العراق من رقم قياسي في منظومة الفساد التي تكاد تنخر كل مؤسسات الدولة –أو بالأحرى ما تبقى من الدولة-، إذ أظهر التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية حول الفساد في العالم أن العراق ضمن الدول ال10 الأكثر فسادًا في العالم. إضافةً لانعدام حرية الصحافة والإعلام وسيطرة المليشيات على مفاصل الدولة وسقوط ما يقارب من ثلث مساحة العراق بيد تنظيم «داعش» الإرهابي. فيما يهدد شبح التقسيم العراق لدويلات صغيرة قد تتناحر فيما بينها لعقود من الزمن دون أي مشروع حقيقي يلوح في الأفق، يضمن وحدة العراق ويدفع شبح الحرب الطائفية بعيدًا عنها. ويبقى أخطر ما في فاتورة غزو العراق هو «المستقبل» وأن هذه الفاتورة لم تغلق إلى اليوم وبوادر استمرار الأرقام بزيادة دائمة، الأمر الذي يجعلنا نفكر هل سنشهد رصاصة الرحمة في نهاية هذه القائمة الطويلة من التضحيات التي قدمتها العراق والعراقيون نتيجةً لقرار غزو تم اتخاذه في لحظة من لحظات الطيش، وبناءً على معلومة خطأ وسهرة لطيفة في مزرعة لبوش الإبن في ولاية تكساس؟

ان تقرير تشيلكوت بطبيعة الحال ووفق الصلاحيات المخصصة له فإنه لا يترتب عليه أي حكم قضائي أو قرار سياسي، لكن بالتأكيد يفتح الباب لمن يحسن استخدامه في المجال القضائي والسياسي وعلى وجه الخصوص الداخل البريطاني من عوائل الجنود القتلى من البريطانيين أو من قبل المعارضة السياسية، أما الضحية الحقيقية فما تزال تنزف بعيداً عن دائرة استحصال الحقوق ورد الاعتبار والتعويض ولا تحلم حتى بكلمة «أنا أسف»! فالضحية الآن تعيش على وقع أحداث تفجيرات الكرادة الإرهابية، والتي جرت قبل إصدار التقرير بثلاث أيام، كما يعيش على وقع التفجيرات الطائفية-بعد صدوره- التي استهدفت أحد المزارات الشيعية في ناحية بلد في محافظة صلاح الدين حيث يعتقد العراقيون أن التقرير وما يحتويه لن يقدم أو يؤخر من حجم الكارثة التي يعيشون فصولها بشكل يومي منذ 13 عامًا. وفق الدوامة المستمرة وحالة اليأس من الإنصاف دولياً يتجاهل العراقيون، متابعة مثل هذه التقارير مؤمنين بأنها لن تنصفهم أو تقتص من الجاني لحساب المجني عليه فالتجارب السابقة كفيلة بقتل أي حلم بحدوث ذلك فالتقرير من وجهة نظرهم لا يعدو كونه يدخل في إطار نظام المراجعة والمحاسبة في الثقافة الغربية. 

وبالطبع فإن ظهور التقرير في هذا التوقيت بعد سبع سنوات من الاشتغال عليه في وقت ينام المشرق العربي على أرض غير ثابتة، قابلة للانفجار في أيّ لحظة، وفي ظل تفكك الأوطان التي نعيشها وظهور جغرافيات جديدة وكيانات عرقية أو طائفية لم تكن في حسابات الجميع، سيضع تقرير تشيلكوت أيّ إدارة قادمة سواء في واشنطن أو لندن تحت سوط المساءلة إذا ما تم اتخاذ قرار التدخل لإنهاء المآسي التي تدور اليوم.

والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل يحق للشعب العراقي مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية ومملكة المتحدة دفع تعويضات مادية ومعنوية له جراء عدوانهما واحتلالهما للعراق في نيسان/إبريل عام 2003م؟

في القرار الصادر عن مجلس الأمن في تاريخ 22آيار/مايو عام 2003م، والمرقم 1483م، اعتبر القرار في ديباجته كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة دولتين محتلا العراق، وهذا ما أكده مجلس الأمن في قراره الصادر في تاريخ 8حزيران/يونيو عام 2004م. وبهذين القرارين يصبح لزاما عليهما تعويض العراق مادياً ومعنوياً لأن كل مسوغاتهما وتبريراتهما للحرب لم تكن قانونية.

 فالمبررات التي ساقتها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة للعدوان على العراق واحتلاله ليس له أي مسوغ قانوني  في ميثاق هيئة الأمم المتحدة و القانون الدولي العام ولذا فإن هذا العدوان الاحتلال هو انتهاك لهما وتهديد خطير للسلم و الأمن الدولين. فالاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق في العام 2003م، هو نسخة عن احتلال العراق للكويت في العام 1990م لذا كان على مجلس الأمن الدولي أن يطبق نفس الإجراءات نفس المعايير إزاء احتلال العراق للكويت. ولكن هذه الاجراءات لم تطبق لسيادة منطق القوة على منطق الحق.
يتطلب الزام الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بدفع تعويضات للعراق أن تقوم الأحزاب و المنظمات العراقية غير الحكومية ومراكز البحوث والجامعات والنقابات ويقية مؤسسات المجتمع المدني، ومن الآن بتسليط الأضواء باستمرار على الموضوع وتوثيق كل ما يتعلق بالعدوان والاحتلال من ممارسات ومن ذلك انتهاكات قوات الاحتلال لاتفاقيات جنيف لعام 1949 . ومطلوب أيضاً التعاون مع المنظمات العربية والإقليمية و الدولية ذات العلاقة لبلورة رأي عام دولي يقر بالعدوان و الاحتلال ويدين الجرائم و الانتهاكات التي تقوم بها قوات الاحتلال ويطالب الدول و المنظمات الدولية المعنية تحمل مسؤوليتها بمطالبة الولايات المتحدة  الأمريكية والمملكة المتحدة بتعويض العراق عما لحق به من أضرار وفق القانون الدولي العام باعتبار أن التعويضات هي أحد الجوانب الأساسية في عملية التسوية المستندة على القانون الدولي ومبادئ العدالة الطبيعية لانهاء النزاع. أما بشأن الهيئة المناسبة الذي يستطيع فيه العراق مقاضاة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فهناك أسلوب الاتفاق الرضائي بين الجانبين العراقي و الأمريكي والبريطاني ، وهناك مجلس الأمن الدولي ، وهناك محكمة العدل الدولية .
ويبدو ان الاتفاق الرضائي بين الطرفين غير عملي ، لأن الولايات المتحدة الأمريكية تصر على أن عدوانها للعراق مشروع. كما أن الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لمقاضاتها غير مضمون النتائج أيضاً لانها تمتلك حق النقض “الفيتو” فيه ولانها أصبحت منذ  تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار المعسكر الاشتراكي القوة المهيمنة الوحيدة في الأمم المتحدة ، حتى وصل الأمر بمساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمي روبن أن يصرح خلال مؤتمر الحزب الديمقراطي في آب 1996 بقوله (تعمل الأمم المتحدة ما تسمح لها الولايات المتحدة أن تعمله فقط) ، هذا إضافة إلى أن مجلس الأمن امتنع عن تحمل مسؤولياته إزاء الغزو و الاحتلال الأمريكي للعراق بسبب الهيمنة الأمريكية عليه، وقرارات المجلس التي صدرت منذ الغزو تعاملت معه كأمر واقع.
وهكذا تبقى المسألة مقاضاة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أمام المحكمة العدل الدولية هي الخيار المتاح، كونها الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة وتتمتع بمقتضى نظامها الأساسي بولاية النظر في النزاعات ذات الطابع القانوني التي يمكن أن تنشأ بين دولتين أوأكثر، وتشمل صلاحية المحكمة التحقق من واقعة من الوقائع التي إذا ثبتت كانت خرقاً لالتزام دولي وتحديد نوع التعويض المترتب على الدولة نتيجة هذا الخرق ومدى هذا التعويض.
والاحتمالات المتاحة لمقاضاة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أمام محكمة العدل الدولية ثلاث: الأول أن يوافق العراق و الولايات المتحدة الأمريكية على عرض النزاع على المحكمة و القبول بولايتها الجبرية في الفصل بالنزاع، وهذا الاحتمال غير وارد لأنهما لن يقبلا به. والاحتمال الثاني أن يطلب العراق من المحكمة ،من خلال قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة ، أن تصدر فتوى قانونية حول شرعية العدوان والاحتلال الأمريكي للعراق. وهذا الاحتمال صعب أيضاً لانه يستوجب موافقة أغلبية أعضاء الامم المتحدة الحاضرين المشتركين في التصويت على القرار، ووفق المعطيات الراهنة فإن دولاً كثيرة ستتجنب المشاركة في التصويت على مثل هذا القرار الذي يؤذي في الصميم مكانتهما، أخذاً بالعلم أن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية لا طابع ملزم له وقد تدعي الولايات المتحدة الأمريكية ومملكة المتحدة أن الموضوع ليس من اختصاص المحكمة مثلما فعلت هي واسرائيل مع موضوع جدار الفصل العنصري الاسرائيلي .

أما الاحتمال الثالث فهو مقاضاة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أمام محكمة العدل الدولية بموجب اتفاقية (منع ومعاقبة جريمة إبادة الجنس البشري ) لعام 1948 كونهما والعراق أعضاء في الاتفاقية، و المادة التاسعة منها تنص على ( كل نزاع بين الأطراف المتعاقدة في شأن تفسير و تطبيق أو نتفيذ هذه الاتفاقية بما في ذلك المنازعات الخاصة بمسؤؤلية الدولة عن أعمال إبادة الجنس البشري أو اي من الأفعال المنصوص عليها في المادة الثالثة يحال أمره إلى محكمة العدل الدولية وذلك بناء على طلب الدولة ذات الشأن)، أي أن الاتفاقية نصت بوضوح على عدم اشتراط موافقة طرفي النزاع على عرضه أمام المحكمة و الأكتفاء بطلب يقدم من الدولة التي تعتقد ان دولة أخرى طرفاً في الاتفاقية انتهكت التزاماتها بموجبها. إن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية بموجب اتفاقية عام 1948 تسوغه حقيقة ان العديد من الأفعال التي اعتبرتها المادة الثالثة من الاتفاقية جرائم إبادة الجنس البشري ارتكبت خلال العدوان و الاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق، وهي الأعمال التي يقصد منها التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه أو الاعتداء الجسيم على أعضاء الجماعة جسمانياً أو نفسياً أو اخضاع الجماعة عمداً إلى ظروف معيشية من شأنها القضاء عليها كلاً او بعضاً. وجدير بالذكر هنا أن الولايات المتحدة سبق لها ان اتهمت النظام السابق في العراق بجرائم إبادة الجنس البشري نتيجة للأعمال الت يقامت بها الحكومة العراقية في مدينة الدجيل قرب بغداد عام 1982. لكن السؤال الذي يطرح في هذا الإطار: هل بوسع  الحكومة العراقية الحالية أو أي حكومة عراقية مستقبلية تأتي من نتاج الطبقة السياسية العراقية التي ساهم الاحتلال الأمريكي والبريطاني في نشأتها أن تقدم على مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة على دفع تعويضات للشعب العراقي؟ قد يكون هذا أمر متعذر عليه خاصة إذا علمنا بأن معظم هذه الطبقة السياسية طالبت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة باحتلال العراق!!

العدوان والاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق هو استخدام للقوة خارج إطار الأمم المتحدة وبالتالي استخدام غير مشروع للقوة ضد دولة مستقلة، وهو بهذا الوصف يمثل عدواناً، وللعراق كامل الحق في مقاضاة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومطالبتها بالتعويضات عن الخسائر البشرية و المادية كافة التي سببها العدوان، ورغم أن احتمالات قبول الولايات المتحدة  والمملكة المتحدة بالتقاضي تكاد تكون معدومة في ظل “قانون القوة”، إلا أن هذا لا يمنع من إثارة موضوع التعويضات في جميع المحافل القانونية و السياسية باعتباره أحد الوسائل ذات المصداقية والقبول لإعادة الاحترام للقانون الدولي وردع المعتدي. لقد مثل العدوان والاحتلال الأمريكي للعراق حالة فريدة في العلاقات الدولية المعاصرة استخدمت فيها الامكانات المادية و الاعلامية الهائلة للولايات المتحدة و بريطانيا وبعض الدول السائرة في فلكهما من أجل تشويه الحقائق، واستخدمت الضغوط السياسية و العسكرية لاسكات أي معارضة للعدوان قد تصدر من الدول أو المنظمات الدولية المعنية وبالذات الأمم المتحدة، ولإجبار الدول والمنظمات الدولية على القبول بقانون القوة و ازدواجية المعايير رغم أن العراق، الدولة التي تعرضت للاحتلال، هي ذاتها التي سبق وأن جوبهت بموقف دولي رافض لاحتلالها الكويت وفرضت عليها عقوبات هي الأقسى في تاريخ العلاقات الدولية . ان المتضرر من الغزو و الاحتلال الأمريكي للعراق ليس شعب العراق فحسب بل المجتمع الدولي بأسره و العلاقات الدولية المبنية على القانون الدولي . صحيح أن سياسات القوة لا يمكن أن تنتصر في النهاية على قوة القانون ، وان الحقيقة قوية بذاتها ، او كما يقول المثل ( الحقيقة كالزيت تطفو دائماً) ولكن الحقيقة بحاجة إلى رجال و نساء يدافعون عنها ، ولذا فان كل محب للسلم و العدالة وسيادة القانون في العالم مطالب بأن يرفع صوته للدفاع عن الحقيقة وتحميل المعتدي التبعات القانونية كافة لعدوانه، وشعب العراق على وجه الخصوص مطالب بأن يدافع عن حقوقه التي سلبها الغزو و الاحتلال، وتاريخ العراق يقول ان العراقيين كانوا دائماً عند مستوى التحدي.

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية