نماذج الفشل في العراق

نماذج الفشل في العراق

63876
حصد تفجير الكرادة، في نهاية شهر رمضان، أرواح أكثر من 280 شهيداً عراقياً. لم يكن التفجير الأول، ولن يكون الأخير، في سلسلةٍ متصلةٍ من الجرائم بحق الشعب العراقي الذي تحول أفراده إلى أرقام جافة في وسائل الإعلام، تُذْكر مآسيها لأخذ العلم، ولا تتعاطى وسائل الإعلام هذه مع تلك المجازر المرعبة إلا بما يخدم أجندتها السياسية والطائفية. الأهم هو العراق نفسه: كيف وصل إلى هذه المرحلة من ضعف الدولة وتآكلها، وتفكّك المجتمع، وغياب الأمن؟
لا بد من العودة إلى لحظة الاحتلال الأميركي للعراق، فهي لحظة مفصلية، لا ينبغي تجاهلها أو التهوين من آثارها المستمرة. جاء الاحتلال بنموذجٍ، يقوم على ديمقراطية الجماعات المذهبية والإثنية، وتم تقسيم الشعب العراقي إلى شيعة وسنة وأكراد، وترتيب العملية السياسية، والمناصب الأساسية، في إطار المحاصصة بين هذه الجماعات. صُمِّم نموذج الدولة العراقية الجديدة على أساس تكوّن المجتمع العراقي من جماعاتٍ مختلفة (ضمن تقسيمٍ اعتباطي يعترف بالقومية الكردية، ويقسّم العرب سنةً وشيعة)، تحتاج إلى التفاهم بينها لتقاسم السلطة، وإدارة الدولة، وبدلاً من وجود جماعةٍ وطنيةٍ لها هوية مشتركة، تتنافس داخلها وضمن الانتماء لها الأحزاب السياسية، على تمثيل مصالحها، صارت الجماعات المذهبية والعرقية كياناتٍ سياسيةً تتنافس داخل كلٍّ منها الأحزاب على تمثيل مصالحها داخل الدولة، في مقابل الجماعات الأخرى.

فشل هذا النموذج الذي تم تسويقه بوصفه بديلاً حضارياً عن الدمج القومي القسري، في بناء الدولة، ونجح فقط في تفتيت المجتمع العراقي، وتحفيز سردياتٍ متنافرةٍ ومتناقضةٍ للجماعات المتصارعة، وتدمير الحد الأدنى من المشترك الوطني الذي لا تقوم دولة ولا ديمقراطية من دونه. وفشل نموذج الديمقراطية المفروضة بقوة التدخل الأجنبي في تحقيق الديمقراطية الموعودة، ونجح في إنتاج الحروب الأهلية، وأثبت أن الديمقراطية تحتاج إلى أرضيةٍ وإرادةٍ سياسيةٍ وطنيةٍ، تقوم بإحداث التحول الديمقراطي، خارج فكرة ضرب السيادة الوطنية، وتقسيم المجتمع بفعل التدخل الأجنبي.
ماذا عن الذين حكموا العراق بعد الاحتلال؟ كان هؤلاء معارضين لنظام الرئيس صدام حسين، وكانوا يعدّدون نقاط فشله، ويشيرون إلى استبداده وتسلطه، وفشل نظام صدام بالفعل في أمورٍ عديدة، لعل من أهمها فشله في الدفع نحو التحديث في العراق، بالعودة إلى العشائرية وصلات القرابة، باعتبارها حامياً أساسياً للحكم التسلطي، فتحوّل حزب البعث إلى واجهةٍ لحكمٍ عشائري، وضُرِبت الأحزاب كلها، واستُخدمت القومية العربية شعاراً تبريرياً للنظام، فيما استُبدلت الهوية العربية بالهوية العشائرية، وحُكمت الدولة بالارتكاز إلى القرابة والمحسوبيات.

واجهت الأحزاب والقوى الإسلامية الشيعية هذا النموذج بنموذجٍ يقوم على الهوية الطائفية في تعريف الذات والمجتمع والدولة، وعلى سرديةٍ تزعم أن حكم العراق “سني”، وأن على الأغلبية الشيعية أن تستعيد حقها في حكم العراق، أي أن هذه المعارضة استهدفت النظام بالدعاية الطائفية، لتبرّر طائفيتها هي، وفسّرت العشائرية وصلات القرابة داخل النظام بوصفها طائفية.
على الرغم من أن عدداً من مؤسسي حزب الدعوة وقادته كانوا جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين في العراق، إلا أن هذا الحزب، مع بقية القوى الإسلامية الشيعية، قدّموا نموذجاً للعجز عن تجاوز الهوية المذهبية الضيقة، وأنتجوا مصائب عديدة، جرّها الاستقطاب الطائفي الذي أصرّوا على تعزيزه. يتلخص مشروع الأحزاب الطائفية، المهيمنة على نظام المحاصصة، في التسعير الطائفي، والفساد المتسربل برداء الدين والطقوس المذهبية.
حكمت هذه الأحزاب عبر تصورٍ “للاجتثاث”، مع ما تثيره هذه الكلمة من حساسيةٍ ونفور، وقد كان العنوان هو اجتثاث رموز النظام السابق وأركانه، فإذا بالدائرة تتسّع لتشمل بعثيين، انضموا للحزب باعتباره حزب الدولة، وآخرين تمت تصفية الحساب السياسي معهم عبر تفعيل آلية الاجتثاث، ما أثار نقمةً وحزازاتٍ طائفية، خصوصاً مع محاولة فرض هويةٍ شيعيةٍ للدولة، تنضح بالطقوسية، وتُشعر السنة بأنهم جماعة خارج هوية الدولة بالكامل، وقد تُوِّج هذا كله بحروب وتهجير بين المليشيات المتحاربة.
الفساد ونهب المال العام يجري بمعدلاتٍ غير طبيعية، فمن يصدّق أن بلداً نفطياً كالعراق يعاني أبناؤه من عدم توفر الخدمات الأساسية، ومن بنيةٍ تحتيةٍ سيئة، مع فشل أمني. تواجه الأحزاب الحاكمة كل هذه التحديات، بتعزيز الطقوسية الشيعية، والتشجيع على تكوين المواكب وزيارة الأضرحة، عبر منح إجازاتٍ لموظفي الدولة في المناسبات الدينية. عملٌ تقليدي يمكن أن نشهده من أحزابٍ إسلامية كثيرة، لا تملك برنامج عمل، ولا مشروعاً اقتصادياً، فتغطي على فشلها، وعلى الفساد والنهب الحاصل في مؤسسات الدولة، بمحاولة دغدغة مشاعر الناس بالشعارات والطقوس الدينية، واللعب على صراعات الهوية.
ما يبقي هذه الأحزاب في الحكم استنادها، على الرغم من فشلها الذريع إلى عصبوية طائفية، وتسعير المشاعر المذهبية وحالة الخوف من الجماعة الأخرى ومتطرّفيها، وهذا ما يعيد إنتاج النظام الطائفي برمته، وموقع هذه الأحزاب فيه.
تشكّل نماذج الفشل في العراق عبرةً لمن يعتبر. لكن، لا يبدو أن أحداً يعتبر بالفعل، فاستغاثات بعض النخب العربية بالقوى الغربية تتوالى لتخليصها من الديكتاتورية، والتحشيد على الهوية المذهبية يتوسّع، وتنضم إليه نخبٌ جديدة، وأحزاب الإسلام السياسي لا تغادر مربع التسعير الطائفي، وهكذا، يتصاعد العنف، وتتمدّد نماذج الفشل في العراق إلى بقية المشرق العربي.

بدر الإبراهيم
صحيفة العربي الجديد