الفوضى المختلقة

الفوضى المختلقة

a6ff9d41a2
منذ عام 2001 الذي شهد الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك ووزارة الدفاع الأمريكية، والولايات المتحدة تقوم بتنفيذ سياسة التدخل المباشر في الدول التي تعتقد أنها تشكل خطراً عليها وتقوم بتصدير (الإرهاب) إلى العالم، وبدأت بأفغانستان بذريعة محاربة «تنظيم القاعدة» الذي اتهمته بالمسؤولية المباشرة عن الهجمات بعد وقوعها بساعات، ولم تتمكن من قتل زعيمه أسامة بن لادن إلّا بعد عشر سنوات، ثم تلتها الحرب على العراق في العام 2003 بدعوى حيازته أسلحة الدمار الشامل، ليعترف البيت الأبيض بعدها بسنوات أن العراق لم يكن يمتلك تلك الأسلحة، والضجة التي أحدثتها اعترافات توني بلير، رئيس الحكومة البريطانية الأسبق بشأن افتعال الحرب على العراق تصبّ في إطار تطبيق السياسات الخارجية الجديدة، التي تم الإفصاح عنها بعد عامين من احتلال العراق، ولا تزال تردداتها تُشاهد في عديد من الدول العربية.
ففي العام 1983 وافق الكونغرس الأمريكي على استراتيجية «خريطة الدم» التي ساهم في وضعها المستشرق الصهيوني برنارد ليفي، وفي شهر يونيو/حزيران 2004 طرح جورج بوش الابن مبادرة الشرق الأوسط الكبير على قمة مجموعة الثماني التي عُقدت في «سي أيلاند» في ولاية جورجيا ووافقت عليها المجموعة. وفي شهر مايو/أيار 2005، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في عهد بوش الابن بشكل صريح وعلى لسان كونداليزا رايس، تبنّي الولايات المتحدة لاستراتيجية «الفوضى الخلاقة» لنشر الحرية والديمقراطية والمساواة في الشرق الأوسط.

ومن لا يعرف ماذا يعني مصطلح «خريطة الدم» فما عليه سوى كتابة المصطلح في محرك البحث «غوغل» وسيحصل على الخارطة نفسها وشروحات بشأنها. وتهدف إلى تقسيم العالم العربي إلى دويلات ومناطق حكم ذاتي، بناء على العرق والمذهب والدين، وتبدو دول مثل العراق وسوريا ومصر ولبنان ودول الخليج العربي مقسمة إلى دويلات؛ هنا دولة سنّية وهناك دولة شيعية، وثالثة دولة درزية، ورابعة دولة كردية وغير ذلك.

وتعمل الدبلوماسية الأمريكية مدعومة بدول أوروبية وعلى رأسها بريطانيا بنفس طويل جداً، ولهذا انتظرت ست سنوات أخرى قامت خلالها بتدريب مئات من الشباب العرب على أساليب التظاهر والاحتجاج واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وقدّمت الأموال لمنظمات المجتمع المدني، وهيّجت المنطقة وانتظرت فرصة إشعال بوعزيزي لنفسه لتبدأ التحركات الشعبية التي أدت إلى سقوط بن علي خلال أيام، لتنتقل بعدها إلى مصر فأطاحت بالرئيس حسني مبارك، واتجهت إلى ليبيا فأطاحت بالعقيد معمّر القذافي، ثم إلى اليمن فسوريا، وقد أدى التدخل الإيراني والروسي وحزب الله اللبناني إلى إعاقة أو تأجيل سقوط النظام السوري، وقد مرّ أكثر من خمس سنوات على اندلاع الاحتجاجات التي تحولت إلى حروب طاحنة في سوريا، ولم يسقط النظام بعد.

نتيجة عملية تحويل العالم العربي إلى الديمقراطية والحرية والمساواة من خلال الفوضى الخلاقة أدت إلى أكثر من 25 مليون لاجئ ومهجّر من العراق وسوريا وليبيا واليمن، وإلى قتل وجرح وإعاقة وترميل وتيتيم عشرات الملايين وهدم بيوتهم وممتلكاتهم، كما أدت إلى تدمير البنية التحتية على بكرة أبيها في هذه الدول، ونشر التطرف الأعمى والفكر التكفيري، ناهيك عن العصابات الإجرامية التي وجدت لها مرتعاً في هذه الدول، لتتاجر بالسلاح والنفط والآثار والبشر والأعضاء البشرية، ووصل الأمر إلى إعادة سوق النخاسة والعبيد وسبي النساء والأطفال وبيعهم بأرخص الأثمان إمعاناً في تشويه القيم والإنسانية.

الدول التي تعتقد أنها بعيدة عن الفوضى الخلاقة بدأ شررها يصلها، الفوضى لا تعرف حدوداً ولا جغرافيا ولا تميز بين الشعوب، هذه الفوضى التي استوحشت ستتوحش أكثر وتلتهم صاحبها، وها هي التفجيرات طالت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبلجيكا وتركيا كما طالت السعودية والبحرين ولبنان وتونس والجزائر والباكستان وبنغلادش وإندونيسيا وغيرها.
الفوضى الخلاقة لم تنحصر في الشرق الأوسط، وإنما تمدّدت كأفعى هائلة تلتهم كل ما في طريقها، هذه الأفعى التي كانت إلى زمن قريب تتلوى ببطء وهدوء وبرعاية أصحاب النظريات والاستراتيجيات، انقلبت على مربيها ورعاتها. وليست هذه المرة الأولى التي تنقلب الأفعى على صاحب المزمار الذي يرقّصها، انقلبت عليه في أفغانستان؛ (القاعدة وحربها ضد الولايات المتحدة وأوروبا وبعض الدول العربية)، والآن، تنقلب أفعى (داعش والنصرة وغيرهما) على رعاتهما ومنشئيهما الذين زودوهما بالأسلحة الفتاكة وبأجهزة الاتصال المتطورة.
الجميع يرى الأثر المدمر لاستراتيجية الفوضى الخلاقة ولا يحرّك ساكناً، ولا يتراجع ولا يعدّل ولا يبدّل ولا يعتذر، بل إنه يواصل دس رأسه في الرمال كالنعام، كأنه لا يرى شيئاً ولا يسمع صوتاً. وكل ما يفعلونه بناء المخيمات للنازحين والمشردين.
ما هكذا يتم نشر الديمقراطية والحرية والمساواة، وما هكذا تحكم الشعوب أنفسها. والعالم الغربي والأمريكي يعرف أكثر من غيره أن مبادئ الديمقراطية والتعايش لا تكون بفصل المذاهب والأعراق عن بعضها، وإنما عن طريق التربية والتثقيف، شأنها شأن محاربة التطرف، الذي لا يمكن أن يكون بتطرف مثله، وإنما بإعادة صياغة المناهج التعليمية والقيم المجتمعية والسلوكية.

يكفينا فوضى، ويكفينا قتلاً وموتاً ودماراً وتشريداً وانقسامات، ولنعد إلى كلمة سواء، فالقاتل والمقتول كلاهما في النار.

عبدالله السويحي

 صحيفة الخليج