تقرير شيلكوت.. دروس العراق القاتمة

تقرير شيلكوت.. دروس العراق القاتمة

900x450_uploads,2016,07,08,fe5fca9e7a

لم يكن ثمة نقص في التقارير أو التحقيقات التي تناولت حرب العراق التي كانت اندلعت في العام 2003. ولكن، بعد سبعة أعوام تقريباً من الكدح والعمل الشاق، نشر السير جون شيلكوت وزملاؤه المفوضون ما سوف يعتبره المؤرخون المستقبليون الرواية الأكيدة لما حدث ولماذا حدث. وللدروس التي يستخلصها تحقيق العراق المكون من 2.6 مليون كلمة من الأدلة التي تم جمعها بشق الأنفس صلة بصناع السياسة الأميركيين بقدر ما لها صلة بنظرائهم البريطانيين. وتتسم الصورة التي يرسمها التقرير، حتى على الرغم من كل ألفة عناصرها الرئيسية، بأنها صورة كارثية ومفزعة للفشل الفردي والمؤسسي على حد سواء. وليس الحكم على توني بلير، الذي كان رئيس الحكومة البريطانية في ذلك الوقت، هو أنه كاذب مجرم حرب (كما يعتقد البعض)، وإنما رجل مدفوع بمزيج قاتل من الغطرسة والتفكير الرغائبي والحماسة الأخلاقية، إلى مسار عمل كارثي في نهاية المطاف.
لعل أكثر خلاصات التحقيق سوءا على الإطلاق هي تلك الخلاصة الشاملة بأنه، استناداً إلى هدف بريطانيا المعلن بنزع سلاح صدام حسين (ولم يكن الهدف هو تغيير النظام صراحة أبداً)، فإن العمل العسكري الذي بدأ في آذار (مارس) من العام 2003، لم يكن هو الملاذ الأخير كما زعم توني بلير. ولم تكن محاولة التعامل مع أسلحة الدمار الشامل المزعومة لدى العراق قد استنفدت نفسها بعد: فقد كان فريق التفتيش التابع للأمم المتحدة بقيادة هانس بليكس يحصل على تعاون أفضل من العراقيين، وكان يطالب بمنحه المزيد من الوقت؛ ولم يكن هناك تهديد وشيك من صدام حسين؛ وكان هناك دعم قوي من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة لاستمرار عمليات التفتيش. وباختصار، وكما يحكم التحقيق، فإنه على الرغم من التدخل العسكري ربما كان مطلوباً في المستقبل، فإنها كانت هناك استراتيجية احتواء تكيفية عاملة وتنطوي على الكثير من عناصر الحياة قيد العمل.
لكن السيد بلير كان مستعبَداً لبرنامج زمني عسكري وضعه جورج دبليو بوش، وللوعد الذي كان رئيس الوزراء قد قطعه له في تموز (يوليو) من ذلك العام بأن “نكون معكم مهما كلف الأمر”. ولو أن بريطانيا قررت سحب قواتها عشية الغزو، لكان الضرر الذي سيلحق بالعلاقة مع أميركا أكبر بكثير مما سيحدث لو أن السيد توخى المزيد من الحذر في وقت سابق في التزامه بالمشروع.
أجود كثيراً من إمكانية التحقُّق
ذلك الافتقار إلى الحذر، مصحوباً بتجاهل للإجراءات يتاخم عدم الفعالية، كانا ثيمة متكررة في فترة الاستعداد للحرب. لم تكن لدى السيد بلير أي شكوك أبداً في دقة تقييمات الاستخبارات لأسلحة الدمار الشامل وبرامج الصواريخ لدى العراق. وكان الاعتقاد بأن لدى النظام العراقي أسلحة كيميائية وبيولوجية، وأنه كان مصمماً على الحفاظ عليها وتحسينها، وأنه طور وسائل متطورة لإخفائها، تأصل بعمق. ولم تكن معلومات الاستخبارات مفبركة، لكنها لم تكن موضع استنطاق أو تحقق بالمقدار الواجب، بالنظر إلى طبيعة وضخامة الأشياء التي ستترتب عليها.
وفيما يتعلق بـ”الملف المخادع” لشهر أيلول (سبتمبر) من العام 2002، لا يشير التحقيق إلى أن المعلومات الاستخبارية كانت مضمنة فيه بطريقة غير مناسبة، أو إلى أن الحكومة البريطانية أثرت بشكل غير مناسب على نصه. وتكمن المشكلة في أن الحكم الذي خلصت إليها لجنة الاستخبارات المشتركة التي تقيم نواتج أجهزة جمع الاستخبارات، ومسألة “امتلاك” الملف واستخدام السيد بلير لكلمات “لا يرقى إليه الشك” في مقدمته. وبحلول ذلك الوقت، كانت مخابرات أم 16 والسيد بلير يساعدان بعضهما بعضا. وعندما فشل مفتشو السيد بليكس في العثور على أسلحة الدمار الشامل، أرجعت لجنة الاستخبارات المشتركة التي يتحكم فيها “التفكير الجماعي” ذلك إلى موهبة العراقيين في الاحتيال. ومع اقتراب موعد الغزو، كانت المخاوف المتعلقة بجودة المصادر قد بدأت في الظهور، لكن العملاء السريين ظلوا يعتقدون بأنه سيتم العثور على أسلحة الدمار الشامل، وأن معلوماتهم ستتأكد. ويحذر التقرير من مخاطر استخدام معلومات الاستخبارات بصراحة لدعم قرار سياسي من دون اختبار الافتراضات الكامنة وراءه بشكل متكرر، كما ويحذر من السماح بنقل درجة من التأكيد التي نادراً ما تقرها هذه التقييمات.
وحول السؤال الذي ما يزال محيراً والمتعلق بشرعية الحرب بعد الفشل في الحصول على قرار من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، والذي يخول باستخدام القوة، يتردد التحقيق في الإعراب عن رأي. لكنه لاذع إزاء التحريفات التي أدخلها المدعي العام في حينه، لورد غولد سميث، من أجل الخروج بالأشياء الجيدة. وعندما قالت القوات المسلحة إنها تحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد وجهة نظره القائلة إن بالإمكان صياغة “قضية معقولة” لإثبات أن القرار 1441 أعاد إحياء التخويل الذي تضمنه قرار سابق يعود إلى حرب الخليج الأولى في العام 1990، فإنه سرعان ما جاء بما وصفه بأنه “رؤية أفضل”. ولم يستند ذلك إلى أبعد كثيراً مما أكده له السيد بلير من أن العراق ارتكب المزيد من الانتهاكات المادية للقرار 1441.
بعد تقرير أن غزو العراق لم يكن صحيحاً ولا ضرورياً في آذار (مارس) من العام 2003، ينصب التركيز الرئيسي للتحقيق على التحضيرات لما سيأتي. ومن الصعب المبالغة في عدم القانونية المعيب لما يكشف عنه التقرير. وكان كل شخص في الحكومة، خاصة توني بلير، قد تحدثوا دائماً عن الحاجة إلى تخطيط مناسب لمرحلة ما بعد الغزو. وكانت وزارة الدفاع قد أعلنت في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2002 أن مرحلة ما بعد الصراع ستكون “حاسمة استراتيجياً”، وعرض المخططون العسكريون الحاجة إلى وجود مكون مدني رئيسي في التواجد الأجنبي لما بعد الصراع. ولم يحدث أي شيء من هذا القبيل، لكن وزارة الخارجية ووزارة التنمية الدولية غضتا الطرف، ولم يتم تعيين أي شخص أو وزارة حتى لمجرد النظر في القضايا أو اقتراح طرق للتخفيف من المخاطر المعروفة.
كان الافتراض السائد هو أن أميركا هي التي سترسم الخطة، وأنه سيكون هناك دور كبير للأمم المتحدة في مرحلة ما بعد الصراع لجلب بلدان أخرى للمشاركة في تحمل عبء المحافظة على السلام وإعادة الإعمار. وحتى مع مقاومة قوية من جانب واشنطن لفكرة أن تتولى الأمم المتحدة زمام الأمور (مقرونة مع عدم رغبة من طرف الأمم المتحدة) وقفت الحكومة البريطانية على يديها مترددة في دراسة تحذيرات المسؤولين، لتجد نفسها “منساقة إلى التزام ضخم بموارد المملكة المتحدة في مهمة عالية التعقيد من حيث الإدارة والقانون والنظام لفترة غير محددة من الزمن”.
كان الذي جعل الأمور أسوأ هو القرارالمتأخر جداً والقاضي بدخول القوات البريطانية العراق مع القوات الأميركية من الجنوب، بعد أن قالت تركيا إنها لن تسمح للائتلاف بدخول العراق من أراضيها. والبريطانيون الذين كانوا قد توقعوا العمل مع أصدقائهم القدامى، الأكراد، وجدوا أنفسهم يهبطون في البصرة وثلاث محافظات أخرى شيعية بشكل رئيسي في الجنوب الشرقي، بينما تقدم الأميركيون مندفعين إلى بغداد. وكانت هناك تداعيات عدة، كلها سيئة. فقد تم تجميع القوة الأضخم مما خطط لها (ثلاث كتائب) اللازمة للسيطرة على الجنوب في آخر لحظة، وكان هناك فهم جُمع كيفما اتفق للمكان الذي ستذهب إليه القوات والقليل من الوقت لتحليل المخاطر. كما كانت البصرة على مسافة بعيدة من بغداد حيث تطبخ كل قرارات ما بعد الغزو.
ما يدعو للدهشة، وعلى الرغم من النزول عند مطلب الجنرالات البريطانيين بـ”الدخول بحجم كبير” (أسهمت بريطانيا بحوالي 30 في المائة من الدبابات التي شاركت في الغزو) فإن السيد بلير لم ينتزع من السيد بوش أي تعهد بصنع القرار بشكل مشترك. وكانت النتيجة أن سلطات الائتلاف المؤقت في بغداد كانت تقريباً أميركية، بينما لم تكن القوة الأصغر في الاحتلال تتوافر على أي قدرة فعلية للتأثير على قرارات السياسة، مثل حل الجيش العراقي و”حل حزب البعث”، والتي كانت لها نتائج مرعبة. ويترك التحقيق السؤال مفتوحاً عما إذا كانت الأمور ستؤول إلى الأفضل لو كان هناك صوت بريطاني أقوى في اتخاذ القرار.
ربما لم تكن الأمور لتصبح أفضل -إذا كان أداء الجيش بعد انتهاء الحملة العسكرية الأولية الناجحة- ليشكل دليلاً. فمثل نظرائهم الأميركيين، كان الجنرالات البريطانيون مطمئنين إزاء ما توقعوا أن تكون بيئة أمنية حميدة، وفوجئوا عندما تدهور الوضع بشكل طائش بعد الغزو. وسرعان ما أصبح النقص في المعدات الصحيحة واضحاً عندما بدأت الميليشيات المحلية بنسف الجنود البريطانيين. ومع ذلك، تم عمل النزر اليسير لتحسين الأمور -ليس بسبب الافتقار إلى الأموال، وإنما لأن الجيش لم يكن مستعداً من الناحية النفسية لاحتلال طويل.
جسدت قضية العربة المدرعة بشكل خفيف “سناتش لاندروفر” طريقة تفكير الجنرالات. فمع أنها خدمت في إيرلندا الشمالية، إلا أنها أصبحت “أكفاناً متنقلة” في العراق بسب افتقارها إلى قدرة مقاومة أجهزة التفجير البدائية. لكن الجيش قاوم استبدالها بشيء أفضل، فقد ظن أنه سيغادر في غضون عام أو نحو ذلك، وأراد الاحتفاظ ببرنامج عربة مقاتلة مدرعة جديدة ومكلفة، والذي ألغي لاحقاً.
زيادة عديد القوات، ثم الانسحاب
تفاقم الافتقار إلى الطائرات العمودية عندما نجح الجنرالات في الدفع من أجل انتشار 3300 جندي سيئي الطالع في هيلمند، هي من أكثر مقاطعات أفغانستان توتراً. وبعد أقل من عام على غزو العراق، كانوا قد خلصوا إلى أن هناك القليل مما يستطيعون إنجازه هناك، وأن هيلمند تعرض الإمكانية لممارسة الجندية بشكل أكثر مناسبة. ويقول التحقيق إنه اعتباراً من العام 2005، فإن القرارات عن الموارد في العراق كانت تؤطر عبر المتطلبات المتوقعة للحملة في أفغانستان.
ثمة نتيجة مباشرة لهذه السياسة، والتي تمثلت في ما يصفه التقرير بأنه قرار “مذل” في العام 2007 بالتسليم بهيمنة الميليشيات في البصرة من تبادل المعتقلين في مقابل وضع حد لاستهداف الجنود البريطانيين. وتماماً عندما كانت تجري عملية زيادة عديد القوات الأميركية الناجحة في نهاية المطاف، كان الجنود البريطانيون الباقون في مطار البصرة يستعدون للمغادرة. وكانت تلك نهاية شائنة وبائسة لتورط بريطانيا في العراق.
وفي بيان من 6.500 كلمة صدر بعد نشر التقرير، يدعي السيد بلير بأنه -التقرير- يوضح “أنها لم تكن هناك أكاذيب ولم يضلل البرلمان ولا المجلس الوزاري، ولم تكن هناك “صفقة سرية” مع أميركا ولم يتم تزوير المعلومات الاستخبارية وأن القرار قد اتخذ بنية طيبة”. وهذا صحيح. لكن السيد بلير يستدرج التعاطف عندما يستمر في القول: “لقد أصبحت العواقب أكثر عدوانية وطولاً ودموية أكثر مما تصورنا”. لكن الرجوع إلى الماضي ليس مبرراً يقبله التحقيق. وينصح التحقيق بأنه قبل التفكير في أي تعهد مماثل يجب أن يكون هناك تفهم واضح لمسرح العمليات: تقييم عملي وواقعي للمخاطر؛ ووضع أهداف واقعية وموارد كافية. ويخلص إلى القول : “كان هناك افتقار لكل هذه العناصر في مقاربة المملكة المتحدة لدورها في عراق ما بعد الصراع”.

ترجمة: عبدالرحمن الحسين

الغد