مسؤوليات العراقيين بعد تقرير تشيلكوت

مسؤوليات العراقيين بعد تقرير تشيلكوت

_146824568914

لم يكترث العراقيون لتقرير لجنة تشيلكوت بعد انتظار الأوساط البريطانية 9 سنوات منذ تشكيلها، لأن مفردات حمام الدم التي يعيشونها أكبر من التقارير التي تهم المجتمع البريطاني والأوروبي الذي تعاطى باهتمام مع قضية سَوْق بلدانهم وأبنائهم إلى حرب ملفقة اشتغل عليها تحالف بوش الابن وتوني بلير بعيد 11 سبتمبر 2001، رغم أن اللوبيات الصهيونية في واشنطن كانت قد أوصت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ أوائل الثمانينات بضرورة احتلال العراق. ولكن مع عمق الكارثة العراقية لا بد من ربط ما يحصل حالياً بالدوافع الحقيقية لغزو العراق، خصوصاً بعد أن بدأت الحقائق تنكشف من داخل الدوائر الاستخباراتية والسياسية الأميركية والبريطانية، وجميعها تعترف بتمويه الرأي العام الأوروبي والأميركي والعالمي.

تأتي أهمية تقرير تشيلكوت من كونه تقريرا مهنيا غير مسيس، وكلماته القانونية دقيقة وموجهة للمجتمع البريطاني وسياسييه، لكن التقرير تعرض مباشرة للكارثة التي أصابت العراق والعراقيين بسبب الاحتلال، حيث استشهد خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية قرابة المليون ضحية وشردت الملايين الأخرى. لكن جميع فقرات التقرير تؤكد حقيقة عدم مشروعية الحرب على العراق. التقرير لم يخلُ من الأغراض السياسية المتعلقة بالأمن الوطني البريطاني والحفاظ على تراتبية هيكل البنيان المؤسساتي في الدولة البريطانية، خصوصاً أن الفقه القانوني البريطاني يعتمد على السوابق وعلى التجارب الموثقة أكثر مما يعتمد على النصوص الثابتة. أدان التقرير الدور الذي لعبته بريطانيا في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة، وحدد بالتفصيل المعلومات الاستخباراتية الخاطئة والأسس القانونية المشكوك فيها، والاستعدادات الناقصة التي تميزت بها عملية غزو العراق، وعدم استكمال الجهد الدبلوماسي بين العراق والتحالف الذي قادته أميركا.

ورغم أن التقرير تحاشى توجيه اللوم المباشر لرئيس الوزراء الأسبق بلير لكي لا يساق إلى المحاكم، فإنه أدان بوضوح المبررات الوهمية التي سُوّقَتْ لشن الحرب على العراق والاعتماد على معلومات استخباراتية خاطئة القسم الغالب منها جاء وفق تقارير تضليلية من جواسيس عراقيين مأجورين كان قسم منهم يشتغل في ميدان الاستخبارات العسكرية العراقية، والقسم الآخر مرتزقة مثل ذلك الذي ادعى وجود أسلحة بيولوجية منقولة على سيارات مزعومة شمالي بغداد وعرض لقطاتها أمام اجتماع مجلس الأمن الدولي وزير الدفاع الأميركي الأسبق كولن باول في مسرحية هزلية ندم واعتذر بعدها بوقت قصير وابتعد عن المسؤولية والسياسة.

الموقف الأهم الذي أعلنه بلير بطريقة مسرحية كمكمل لعرض باول كان ما قدمته لجنة الاستخبارات البريطانية المشتركة له عام 2002 والزعم بامتلاك صدام أسلحة دمار شامل يمكن أن يطلقها خلال 45 دقيقة، حتى أن صدام حسين احتار ماذا يفعل إزاء ذلك التقرير المرعب الذي وضع أمامه، وقرر التعامل معه على أنه حقيقة لكي يخيف إيران هاجسه الأول المهدد لنظامه، فيما كان قد دمّر سرياً جميع تلك الأسلحة ومكوناتها منذ عام 1991 والأميركان والبريطانيون يعرفون ذلك، لكنها كانت لعبة استخبارات طويلة ومعقدة خسرها صدام في النهاية، لأن القرار السياسي الأميركي كان إزاحته عن الحكم، واعترف تقرير تشيلكوت بأن بلير شجع الرئيس الأميركي بوش على الحرب وقال له في إحدى رسائله السرية بعيد واقعة سبتمبر 2001 “افعلها الآن”، في تفويض ومبايعة منه للذهاب إلى الحرب. ورغم أسف بلير واعتذاره الذي أعقب إعلان تقرير الإدانة فقد كرر ندمه الذي أعلنه قبل 12 سنة بعد صدور تقرير اللورد بتلر عام 2004. فقد كان ذلك التقرير بمثابة إدانة أولى بعد شهور قليلة من غزو العراق واحتلاله، وأستعير هنا تعقيب الصحافي البريطاني جوناتان فريلاند على تقرير بتلر عام 2004 الذي ينطبق اليوم على تقرير تشيلكوت، حيث قال “التقرير قدم علبة أنيقة من السكاكين الحادة لكنه لم يوجه الضربة القاضية لبلير، ولم يلعب بتلر دور القاتل، وبدلا عن ذلك قدم لبلير سترة واقية من الرصاص، وقدم للرأي العام كمية من الذخيرة الحية لإطلاق الرصاص عليه”. وهنا كرر تشيلكوت نفس اللعبة الحامية لبلير خوفاً من تداعيات هائلة على مستوى عوائل القتلى البريطانيين الـ179 في تلك الحرب. تقرير تشيلكوت قدم دروسا للبريطانيين لكي لا يتورط سياسيوهم في كارثة مستقبلية.

لكن أهم تداعيات هذا التقرير كونه قدم رؤية قانونية بعدم مشروعية الحرب وغزو العراق، وهذا ما يؤكد جملة من الحقائق تحتم على نخب العراق القيام بحملة رصينة على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية تتجاوز الاندفاعات العاطفية في الدفاع عن أرواح الشهداء العراقيين وهو حق طبيعي ومشروع، وعدم الاكتفاء بالاستعراضات على القنوات الفضائية، وإنما الانخراط في جهد وطني منظم يهم كل العراقيين بلا فوارق طائفية. ولعل هذا الموضوع هو القاسم المشترك بين جميع العراقيين، ما عدا السياسيين المستفيدين من النظام الطائفي. التحرك المطلوب يقوم على مرتكزات واضحة لا تتحمل الاجتهادات من بينها:

أولاً، إن قرار الحرب على العراق وغزوه قرار سياسي وفق جميع شهادات المفتشين الدوليين والسياسيين الأميركان والبريطانيين، وإن عراق ما قبل 2003 لم يمتلك أسلحة دمار شامل تشكل ذريعة لما حصل من جريمة بحق شعب العراق الصابر، وحتى لو افترض امتلاك العراق لتلك الأسلحة، فإن مثال باراك أوباما مع النظام السوري يشير إلى تلك الإمكانية الدبلوماسية، إذ عندما أراد توجيه ضربة عسكرية ضد نظام بشار الأسد عام 2012 تراجع لمجرد إذعان الأسد لنزع سلاحه الكيمياوي وذلك دليل على أن أوباما لم يكن لديه قرار بالحرب، ولا يريد إزاحة نظام بشار في دمشق. إن الحرب على العراق عدوان مسلح حسب تصريحات زعيم حزب العمال البريطاني الحالي جيرمي كوربين الذي كان قد حذر بعد عام 2003 بأن “جميع الصراعات في العراق ستنفجر”، وهذا ما حصل وقدم اليوم اعتذاره للشعب العراقي باسم حزب العمال البريطاني.

ثانياً، جميع تداعيات الحرب على العراق وغزوه وفي مقدمتها قيام النظام السياسي وليد الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق في التاسع من أبريل عام 2003 وإلى حد اليوم غير قانونية وغير شرعية وهي باطلة بطلان الاحتلال، ومن ضمنها الانتخابات الهزلية وقيام الدستور الذي تحول إلى مفجر للأزمات وعدم مشروعية جوقة الطائفيين من السنة والشيعة. اغتبط السياسيون الذين كانوا ضمن معارضة نظام صدام بالاحتلال وباركوه وأفتت مراجعهم المذهبية بعدم مقاومته، كما انبهروا بأصحاب النعمة وأولياء أمورهم “المباركين”، وكانوا صغاراً أمام قادة الاحتلال، وتجردوا من جميع الاعتبارات الوطنية، ولم يمتلكوا الحد الأدنى من حب العراق. وصل الأمر بزعيم الائتلاف الشيعي إبراهيم الجعفري إلى حد تقديمه هدية لوزير دفاع الاحتلال دونالد رامسفيلد خلال إحدى زياراته لبغداد وهي سيف الإمام علي بن أبي طالب، وقد شكلت إهانة فيها من الخنوع ما لم يحصل في التاريخ.

ثالثا، إذا كان تقرير تشيلكوف لم يطالب بمحاكمة بلير لأسباب بريطانية خاصة، فما مصير الجواسيس العراقيين الذين قدموا للجهات الاستخباراتية البريطانية والأميركية المعلومات المزورة، أليس من تقاليد العمل الاستخباراتي أن مَن يقدم معلومات كاذبة ينلْ غضب وانتقام المجنّد لجاسوسه؟ لقد قال الصحافي البريطاني مراسل قناة بي بي سي، كوردين كوريرا، تعقيباً على حال الجواسيس “هل فعلوا ما فيه الكفاية لتوقع ما قد يحدث في العراق بعد سقوط صدام، ولماذا لم يقدموا معلومات كافية لصانعي السياسة العسكرية والجيش بشأن التمرد الذي ظهر لاحقا؟”.

رابعاً، من حق العوائل العراقية التي فقدت أبناءها منذ اليوم الأول لغزو العراق، وقبله ضحايا القصف الأميركي عام 1991، أن يطالبوا بحقوقهم، ألم يعلن مجلس الأمن عام 1991 عن قرارات تعويضية وفق الفصل السابع على العراق لأهل الكويت وللمقيمين فيه ولمؤسساته المتضررين من احتلال نظام صدام، أليس من الأحرى تعويض أهل العراق عما أصابهم من أضرار في الأرواح والممتلكات؟ وعلى أي مقاييس ومعايير يسرق السياسيون ثروات الشعب العراقي، ويدعون مشروعية تسلطهم على رقاب الشعب؟ أليس الإرهابيون الداعشيون وناهبو مال العراق وقاتلو الأبرياء في لائحة واحدة؟

د. ماجد السامرائي

نقلا عن العرب اللندنية