صنع القرار في النظم الديمقراطية

صنع القرار في النظم الديمقراطية

U.S. President George W. Bush (L) and British Prime Minister Tony Blair walk together from their meeting at the U.S. Embassy in Brussels, February 22, 2005. REUTERS/Kevin Lamarque/File Photo

ظللت لعشرات السنين التي تقترب حثيثاً من نصف القرن أُدرس لطلابي في تخصص العلوم السياسية أن عملية صنع القرار في النظم الديمقراطية تقدم تطبيقاً مثالياً للنموذج الرشيد لصنع القرار، ذلك أن المؤسسات التي تستند إليها هذه النظم توفر أفضل الظروف الممكنة لتطبيق خطوات هذا النموذج، وأولها تحديد الموقف الذي يُصنع القرار لمواجهته، تمهيداً لتحديد الهدف إن لم يكن محدداً سلفاً، ثم البحث عن البدائل المتاحة لتحقيق هذا الهدف ودراستها لننتهي إلى اختيار الأفضل من بينها. وتحديد الموقف هو أولاً وأخيراً مسألة معلومات، وكلما تعددت مصادرها ودُققت نتائجها اتسم القرار بالرشد، لأن هذه الخطوة إن لم تتم على نحو سليم كان معنى هذا أن القرار سيُتخذ لمواجهة موقف ينحرف عن الواقع بدرجة أو أخرى. ولو جاء الانحراف كبيراً لأفضى القرار إلى كارثة كأن يستخف صانع القرار بقوة خصمه، فيستسهل مهاجمته عسكرياً فتكون الهزيمة من نصيبه. ويأتي تقرير اللجنة البرلمانية البريطانية برئاسة جون تشيلكوت، التي شُكلت للتحقيق في ملابسات القرار البريطاني بالمشاركة مع الولايات المتحدة في غزو العراق، لكي يُشكك في صحة أو على الأقل دقة كل ما سبق. صحيح أنه كانت لدينا دائماً هواجس بشأن قرارات اتخذتها نظم ديمقراطية لم تتسم بالرشد، ولكنها في تقديري المرة الأولى التي يُدرس فيها قرار من هذا النوع، ويتم التوصل بشأنه إلى هذه الخلاصات الواضحة والحاسمة.

فقد قطع التقرير في مسألة المعلومات بأن القرار اعتمد على معلومات استخبارية مغلوطة وتقديرات غير دقيقة، والغريب أن مصدراً في جهاز المخابرات البريطاني قد نفى مسؤولية الجهاز عن هذه المعلومات الخاطئة، فهل كانت محض تلفيق سياسي متعمد؟ جدير بالذكر أن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي قُدم لمجلس الأمن في 27 يناير 2003، أي قبل الغزو بأقل من شهرين، قد خلص إلى أن مفتشي الوكالة لم يجدوا حتى ذلك التاريخ أي دليل على أن العراق أحيا برنامجه للأسلحة النووية منذ القضاء على ذلك البرنامج في تسعينيات القرن الماضي. وذكر التقرير أنه خلال أشهر قليلة ستتمكن الوكالة من تقديم ضمانات موثوقة بأن تلك هي الحقيقة، أي أن بلير وبوش كان لديهما مصدر ذو صدقية لنفي المعلومات المغلوطة أو مراجعتها على الأقل. والأغرب من هذا كله ما هو معروف، وقد أكد عليه التقرير من أن بلير قد أعطى وعداً لبوش في يوليو 2002 أي قبل الغزو بثمانية أشهر، وفقاً لمراسلات رسمية، بأن بريطانيا ستكون معه «مهما كان» مع أن حسابات صنع القرار يمكن أن تتغير في دقائق! بل إن التقصير امتد إلى تنفيذ القرار بعد اتخاذه على هذا النحو غير الرشيد، فقد انتقد عديد من الشهود الذين استمع إليهم التقرير عدم توفير الموارد والتجهيزات الضرورية للقوات المشاركة، ويبدو هذا مفهوماً في إطار ما أشار إليه التقرير من أن الوقت كان قصيراً لتجهيز ثلاثة ألوية عسكرية على نحو مناسب لنشرها في العراق.

غير أن الفشل امتد إلى عدم توقع نتائج الغزو على نحو سليم مع أنه كانت هناك تحذيرات من مخاطر نزاع داخلي وزيادة نشاط القاعدة وحدوث اضطراب واسع في المنطقة، والأسوأ أن سياسة الإدارة الأميركية في العراق بعد الغزو، والتي لم يملك بلير حيالها شيئاً، قد جعلت من هذه المخاطر حقيقة واقعة وبدرجة أسوأ بكثير مما كان متوقعاً، وها نحن الآن نواجه في وقت واحد مخاطر تفاقم الإرهاب وتفكك العراق وهيمنة إيران على العراق بسبب هذه السياسة. ويدافع بلير ومعه شريكه الأميركي عن قرارهما بالقول إن العالم قد أصبح أفضل بعد القضاء على صدام حسين، وهي حجة ليست في صالحهما بالتأكيد، إذ إنه بغض النظر عن كون جرائم صدام بحق شعبه وفي غزوه الكويت كانت أخلاقياً تحتم اختفاءه إلا أن الجدل حول ما إذا كان العالم أفضل أم أسوأ من بعده ليس في صالح الغزاة. ويبقى مصدر قلق لنا أن تكون هذه هي الطريقة التي تُتخذ بها القرارات الحاسمة في دول كبرى، يُفترض أنها تقدم نماذج للديمقراطية التي نعتبرها طريقاً أمثل لترشيد القرارات.

د. أحمد يوسف أحمد

*نقلا عن صحيفة الاتحاد